الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 265 ] وسئل عن " القراءة خلف الإمام " ؟ .

                [ ص: 280 ]

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله . للعلماء فيه نزاع واضطراب مع عموم الحاجة إليه . وأصول الأقوال ثلاثة : طرفان ووسط .

                فأحد الطرفين أنه لا يقرأ خلف الإمام بحال .

                والثاني : أنه يقرأ خلف الإمام بكل حال .

                والثالث : وهو قول أكثر السلف ; أنه إذا سمع قراءة الإمام أنصت ولم يقرأ فإن استماعه لقراءة الإمام خير من قراءته وإذا لم يسمع قراءته قرأ لنفسه فإن قراءته خير من سكوته فالاستماع لقراءة الإمام أفضل من القراءة والقراءة أفضل من السكوت هذا قول جمهور العلماء كمالك وأحمد بن حنبل وجمهور أصحابهما وطائفة من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة وهو القول القديم للشافعي وقول محمد بن الحسن .

                [ ص: 266 ] وعلى هذا القول : فهل القراءة حال مخافتة الإمام بالفاتحة واجبة على المأموم ؟ أو مستحبة ؟ على قولين في مذهب أحمد .

                أشهرهما أنها مستحبة وهو قول الشافعي في القديم والاستماع حال جهر الإمام هل هو واجب أو مستحب ؟ والقراءة إذا سمع قراءة الإمام هل هي محرمة أو مكروهة ؟ وهل تبطل الصلاة إذا قرأ ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره : ( أحدهما أن القراءة حينئذ محرمة وإذا قرأ بطلت صلاته وهذا أحد الوجهين اللذين حكاهما أبو عبد الله ابن حامد في مذهب أحمد .

                ( والثاني أن الصلاة لا تبطل بذلك وهو قول الأكثرين وهو المشهور من مذهب أحمد ونظير هذا إذا قرأ حال ركوعه وسجوده : هل تبطل الصلاة ؟ على وجهين في مذهب أحمد ; لأن { النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ القرآن راكعا أو ساجدا } .

                والذين قالوا : يقرأ حال الجهر والمخافتة إنما يأمرونه أن يقرأ حال الجهر بالفاتحة خاصة وما زاد على الفاتحة فإن المشروع أن يكون فيه مستمعا لا قارئا .

                [ ص: 267 ] وهل قراءته للفاتحة مع الجهر واجبة ، أو مستحبة ؟ على قولين : ( أحدهما : أنها واجبة وهو قول الشافعي في الجديد وقول ابن حزم .

                ( والثاني أنها مستحبة وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد واختيار جدي أبي البركات ولا سبيل إلى الاحتياط في الخروج من الخلاف في هذه المسألة كما لا سبيل إلى الخروج من الخلاف في وقت العصر وفي فسخ الحج ونحو ذلك من المسائل .

                يتعين في مثل ذلك النظر فيما يوجبه الدليل الشرعي وذلك أن كثيرا من العلماء يقول صلاة العصر يخرج وقتها إذا صار ظل كل شيء مثليه كالمشهور من مذهب مالك والشافعي وهو إحدى الروايتين عن أحمد .

                وأبو حنيفة يقول : حينئذ يدخل وقتها ولم يتفقوا على وقت تجوز فيه صلاة العصر بخلاف غيرها فإنه إذا صلى الظهر بعد الزوال بعد مصير ظل كل شيء مثله سوى ظل الزوال صحت صلاته والمغرب أيضا تجزئ باتفاقهم إذا صلى بعد الغروب والعشاء تجزئ باتفاقهم إذا صلى بعد مغيب الشفق الأبيض إلى ثلث الليل والفجر [ ص: 268 ] تجزئ باتفاقهم إذا صلاها بعد طلوع الفجر إلى الإسفار الشديد وأما العصر فهذا يقول : تصلى إلى المثلين وهذا يقول لا تصلى إلا بعد المثلين والصحيح أنها تصلى من حين يصير ظل كل شيء مثله إلى اصفرار الشمس فوقتها أوسع كما قاله هؤلاء وهؤلاء وعلى هذا تدل الأحاديث الصحيحة المدنية وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن وهو الرواية الأخرى عن أحمد .

                والمقصود هنا أن من المسائل مسائل لا يمكن أن يعمل فيها بقول يجمع عليه لكن ولله الحمد القول الصحيح عليه دلائل شرعية تبين الحق .

                ومن ذلك فسخ الحج إلى العمرة فإن الحج الذي اتفق الأمة على جوازه أن يهل متمتعا يحرم بعمرة ابتداء ويهل قارنا وقد ساق الهدي فأما إن أفرد أو قرن ولم يسق الهدي ففي حجه نزاع بين السلف والخلف .

                والمقصود هنا القراءة خلف الإمام فنقول : إذا جهر الإمام استمع لقراءته فإن كان لا يسمع لبعده فإنه يقرأ في أصح القولين وهو قول أحمد وغيره وإن كان لا يسمع لصممه أو كان يسمع [ ص: 269 ] همهمة الإمام ولا يفقه ما يقول : ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره .

                والأظهر أنه يقرأ ; لأن الأفضل أن يكون إما مستمعا وإما قارئا وهذا ليس بمستمع ولا يحصل له مقصود السماع فقراءته أفضل من سكوته فنذكر الدليل على الفصلين . على أنه في حال الجهر يستمع وأنه في حال المخافتة يقرأ .

                فالدليل على الأول الكتاب والسنة والاعتبار : ( أما الأول فإنه تعالى قال : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } وقد استفاض عن السلف أنها نزلت في القراءة في الصلاة وقال بعضهم في الخطبة وذكر أحمد بن حنبل الإجماع على أنها نزلت في ذلك وذكر الإجماع على أنه لا تجب القراءة على المأموم حال الجهر .

                ثم يقول : قوله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } لفظ عام فإما أن يختص القراءة في الصلاة أو في القراءة في غير الصلاة أو يعمهما . والثاني باطل قطعا ; لأنه لم يقل أحد من المسلمين أنه يجب الاستماع خارج الصلاة ولا يجب في [ ص: 270 ] الصلاة ولأن استماع المستمع إلى قراءة الإمام الذي يأتم به ويجب عليه متابعته أولى من استماعه إلى قراءة من يقرأ خارج الصلاة داخلة في الآية إما على سبيل الخصوص وإما على سبيل العموم وعلى التقديرين فالآية دالة على أمر المأموم بالإنصات لقراءة الإمام وسواء كان أمر إيجاب أو استحباب .

                فالمقصود حاصل . فإن المراد أن الاستماع أولى من القراءة وهذا صريح في دلالة الآية على كل تقدير والمنازع يسلم أن الاستماع مأمور به دون القراءة فيما زاد على الفاتحة . والآية أمرت بالإنصات إذا قرئ القرآن . والفاتحة أم القرآن وهي التي لا بد من قراءتها في كل صلاة والفاتحة أفضل سور القرآن . وهي التي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها فيمتنع أن يكون المراد بالآية الاستماع إلى غيرها دونها مع إطلاق لفظ الآية وعمومها مع أن قراءتها أكثر وأشهر وهي أفضل من غيرها . فإن قوله : { وإذا قرئ القرآن } يتناولها كما يتناول غيرها وشموله لها أظهر لفظا ومعنى . والعادل عن استماعها إلى قراءتها إنما يعدل لأن قراءتها عنده أفضل من الاستماع وهذا غلط يخالف النص والإجماع فإن الكتاب والسنة أمرت المؤتم بالاستماع دون القراءة والأمة متفقة على أن استماعه لما زاد على الفاتحة أفضل من قراءته لما زاد عليها .

                [ ص: 271 ] فلو كانت القراءة لما يقرأه الإمام أفضل من الاستماع لقراءته لكان قراءة المأموم أفضل من قراءته لما زاد على الفاتحة وهذا لم يقل به أحد . وإنما نازع من نازع في الفاتحة لظنه أنها واجبة على المأموم مع الجهر أو مستحبة له حينئذ .

                وجوابه أن المصلحة الحاصلة له بالقراءة يحصل بالاستماع ما هو أفضل منها بدليل استماعه لما زاد على الفاتحة فلولا أنه يحصل له بالاستماع ما هو أفضل من القراءة لكان الأولى أن يفعل أفضل الأمرين وهو القراءة فلما دل الكتاب والسنة والإجماع على أن الاستماع أفضل له من القراءة علم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ وهذا المعنى موجود في الفاتحة وغيرها فالمستمع لقراءة الإمام يحصل له أفضل مما يحصل بالقراءة وحينئذ فلا يجوز أن يؤمر بالأدنى وينهى عن الأعلى .

                وثبت أنه في هذه الحال قراءة الإمام له قراءة كما قال ذلك جماهير السلف والخلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان . وفي ذلك الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة } .

                وهذا الحديث روي مرسلا ومسندا لكن أكثر الأئمة الثقاة رووه مرسلا عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأسنده بعضهم ورواه ابن ماجه مسندا وهذا المرسل قد عضده [ ص: 272 ] ظاهر القرآن والسنة وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين ومرسله من أكابر التابعين ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم وقد نص الشافعي على جواز الاحتجاج بمثل هذا المرسل .

                فتبين أن الاستماع إلى قراءة الإمام أمر دل عليه القرآن دلالة قاطعة ; لأن هذا من الأمور الظاهرة التي يحتاج إليها جميع الأمة فكان بيانها في القرآن مما يحصل به مقصود البيان وجاءت السنة موافقة للقرآن . ففي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال : أقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا } . وهذا من حديث أبي موسى الطويل المشهور . لكن بعض الرواة زاد فيه على بعض فمنهم من لم يذكر قوله : { وإذا قرأ فأنصتوا } ومنهم من ذكرها وهي زيادة من الثقة لا تخالف المزيد بل توافق معناه ولهذا رواها مسلم في صحيحه .

                فإن الإنصات إلى قراءة القارئ من تمام الائتمام به فإن من قرأ على قوم لا يستمعون لقراءته لم يكونوا مؤتمين به وهذا مما يبين حكمة سقوط القراءة على المأموم فإن متابعته لإمامه مقدمة على غيرها حتى في الأفعال فإذا أدركه ساجدا سجد معه وإذا أدركه في وتر من صلاته [ ص: 273 ] تشهد عقب الوتر وهذا لو فعله منفردا لم يجز وإنما فعله لأجل الائتمام فيدل على أن الائتمام يجب به ما لا يجب على المنفرد ويسقط به ما يجب على المنفرد .

                وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا } . رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه . قيل لمسلم بن الحجاج : حديث أبي هريرة صحيح يعني { وإذا قرأ فأنصتوا } قال هو عندي صحيح . فقيل له : لما لا تضعه هاهنا ؟ يعني في كتابه فقال : ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه .

                وروى الزهري عن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة . { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها فقال : هل قرأ معي أحد منكم آنفا ؟ فقال رجل : نعم . يا رسول الله قال : إني أقول ما لي أنازع القرآن } . قال : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة في الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي وقال : حديث حسن . قال أبو داود : سمعت محمد بن يحيى بن فارس يقول : قوله : " فانتهى الناس " من كلام الزهري . [ ص: 274 ] وروي عن البخاري نحو ذلك فقال : في الكنى من التاريخ وقال أبو صالح حدثني الليث حدثني يوسف عن ابن شهاب سمعت ابن أكيمة الليثي يحدث أن سعيد بن المسيب سمع أبا هريرة يقول : { صلى لنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة جهر فيها بالقراءة ثم قال : هل قرأ منكم أحد معي ؟ قلنا : نعم قال : إني أقول ما لي أنازع القرآن } قال : فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر الإمام قال الليث : حدثني ابن شهاب ولم يقل : فانتهى الناس وقال بعضهم : هو قول الزهري وقال بعضهم : هو قول ابن أكيمة والصحيح أنه قول الزهري .

                وهذا إذا كان من كلام الزهري فهو من أدل الدلائل على أن الصحابة لم يكونوا يقرءون في الجهر مع النبي صلى الله عليه وسلم فإن الزهري من أعلم أهل زمانه أو أعلم أهل زمانه بالسنة وقراءة الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت مشروعة واجبة أو مستحبة تكون من الأحكام العامة التي يعرفها عامة الصحابة والتابعين لهم بإحسان فيكون الزهري من أعلم الناس بها فلو لم يبينها لاستدل بذلك على انتفائها فكيف إذا قطع الزهري بأن الصحابة لم يكونوا يقرءون خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الجهر .

                فإن قيل : قال البيهقي : ابن أكيمة رجل مجهول لم يحدث إلا بهذا الحديث وحده ولم يحدث عنه غير الزهري .

                [ ص: 275 ] قيل : ليس كذلك بل قد قال أبو حاتم الرازي فيه : صحيح الحديث حديثه مقبول . وحكي عن أبي حاتم البستي أنه قال : روى عنه الزهري وسعيد بن أبي هلال وابن أبيه عمر وسالم بن عمار ابن أكيمة بن عمر .

                وقد روى مالك في موطئه عن وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : " من صلى ركعة لم يقرأ فيها لم يصل إلا وراء الإمام " وروى أيضا عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل : هل يقرأ خلف الإمام ؟ يقول : إذا صلى أحدكم خلف الإمام تجزئه قراءة الإمام وإذا صلى وحده فليقرأ . قال : وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإمام وروى مسلم في صحيحه عن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام فقال : لا قراءة مع الإمام في شيء .

                وروى البيهقي عن أبي وائل أن رجلا سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام فقال : أنصت للقرآن فإن في الصلاة شغلا وسيكفيك ذلك الإمام وابن مسعود وزيد بن ثابت هما فقيها أهل المدينة وأهل الكوفة من الصحابة وفي كلامهما تنبيه على أن المانع إنصاته لقراءة الإمام .

                [ ص: 276 ] وكذلك البخاري في " كتاب القراءة خلف الإمام " عن علي بن أبي طالب قال : وروى الحارث عن علي يسبح في الأخريين قال : ولم يصح وخالفه عبيد الله بن أبي رافع حدثنا عثمان بن سعيد سمع عبيد الله بن عمرو عن إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبيد الله بن أبي رافع . مولى بني هاشم حدثه عن علي بن أبي طالب : إذا لم يجهر الإمام في الصلوات فاقرأ بأم الكتاب وسورة أخرى في الأوليين من الظهر والعصر وفاتحة الكتاب في الأخريين من الظهر والعصر وفي الآخرة من المغرب وفي الأخريين من العشاء .

                وأيضا ففي إجماع المسلمين على أنه فيما زاد على الفاتحة يؤمر بالاستماع دون القراءة : دليل على أن استماعه لقراءة الإمام خير له من قراءته معه بل على أنه مأمور بالاستماع دون القراءة مع الإمام .

                وأيضا : فلو كانت القراءة في الجهر واجبة على المأموم للزم أحد أمرين : إما أن يقرأ مع الإمام وإما أن يجب على الإمام أن يسكت له حتى يقرأ ولم نعلم نزاعا بين العلماء أنه لا يجب على الإمام أن يسكت لقراءة المأموم بالفاتحة ولا غيرها وقراءته معه منهي عنها بالكتاب والسنة . فثبت أنه لا تجب عليه القراءة معه في حال الجهر بل نقول : لو كانت قراءة المأموم في حال الجهر والاستماع مستحبة لاستحب للإمام أن يسكت لقراءة المأموم ولا يستحب للإمام [ ص: 277 ] السكوت ليقرأ المأموم عند جماهير العلماء وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم .

                وحجتهم في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسكت ليقرأ المأمومون ولا نقل هذا أحد عنه بل ثبت عنه في الصحيح سكوته بعد التكبير للاستفتاح وفي السنن { أنه كان له سكتتان : سكتة في أول القراءة وسكتة بعد الفراغ من القراءة } وهي سكتة لطيفة للفصل لا تتسع لقراءة الفاتحة . وقد روي أن هذه السكتة كانت بعد الفاتحة ولم يقل أحد إنه كان له ثلاث سكتات ولا أربع سكتات فمن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سكتات أو أربع فقد قال قولا لم ينقله عن أحد من المسلمين والسكتة التي عقب قوله : { ولا الضالين } من جنس السكتات التي عند رءوس الآي . ومثل هذا لا يسمى سكوتا ; ولهذا لم يقل أحد من العلماء إنه يقرأ في مثل هذا .

                وكان بعض من أدركنا من أصحابنا يقرأ عقب السكوت عند رءوس الآي . فإذا قال الإمام : { الحمد لله رب العالمين } قال : { الحمد لله رب العالمين } وإذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } وهذا لم يقله أحد من العلماء .

                [ ص: 278 ] وقد اختلف العلماء في سكوت الإمام على ثلاثة أقوال : فقيل : لا سكوت في الصلاة بحال وهو قول مالك . وقيل : فيها سكتة واحدة للاستفتاح كقول أبي حنيفة . وقيل فيها : سكتتان وهو قول الشافعي وأحمد وغيرهما لحديث سمرة بن جندب : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له سكتتان : سكتة حين يفتتح الصلاة وسكتة إذا فرغ من السورة الثانية . قبل أن يركع } فذكر ذلك لعمران بن حصين فقال : كذب سمرة . فكتب في ذلك إلى المدينة إلى أبي بن كعب فقال : صدق سمرة رواه أحمد . واللفظ له وأبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن .

                وفي رواية أبي داود : { سكتة إذا كبر . وسكتة إذا فرغ من { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } } وأحمد رجح الرواية الأولى واستحب السكتة الثانية ; لأجل الفصل . ولم يستحب أحمد أن يسكت الإمام لقراءة المأموم ولكن بعض أصحابه استحب ذلك ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يسكت سكتة تتسع لقراءة الفاتحة لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فلما لم ينقل هذا أحد علم أنه لم يكن .

                والسكتة الثانية في حديث سمرة قد نفاها عمران بن حصين وذلك أنها سكتة يسيرة قد لا ينضبط مثلها وقد روي أنها بعد [ ص: 279 ] الفاتحة .

                ومعلوم أنه لم يسكت إلا سكتتين فعلم أن إحداهما طويلة والأخرى بكل حال لم تكن طويلة متسعة لقراءة الفاتحة . وأيضا فلو كان الصحابة كلهم يقرءون الفاتحة خلفه إما في السكتة الأولى وإما في الثانية لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فكيف ولم ينقل هذا أحد عن أحد من الصحابة أنهم كانوا في السكتة الثانية خلفه يقرءون الفاتحة مع أن ذلك لو كان مشروعا لكان الصحابة أحق الناس بعلمه وعمله فعلم أنه بدعة .

                وأيضا فالمقصود بالجهر استماع المأمومين ولهذا يؤمنون على قراءة الإمام في الجهر دون السر فإذا كانوا مشغولين عنه بالقراءة فقد أمر أن يقرأ على قوم لا يستمعون لقراءته وهو بمنزلة أن يحدث من لم يستمع لحديثه ويخطب من لم يستمع لخطبته وهذا سفه تنزه عنه الشريعة . ولهذا روي في الحديث : { مثل الذي يتكلم والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفارا } فهكذا إذا كان يقرأ والإمام يقرأ عليه .



                [ ص: 280 ] فصل وإذا كان المأموم مأمورا بالاستماع والإنصات لقراءة الإمام لم يشتغل عن ذلك بغيرها لا بقراءة ولا ذكر ولا دعاء ففي حال جهر الإمام لا يستفتح ولا يتعوذ . وفي هذه المسألة نزاع . وفيها ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد . قيل : إنه حال الجهر يستفتح ويتعوذ ولا يقرأ ; لأنه بالاستماع يحصل له مقصود القراءة ; بخلاف الاستفتاح والاستعاذة فإنه لا يسمعهما .

                وقيل : يستفتح ولا يتعوذ لأن الاستفتاح تابع لتكبيرة الإحرام بخلاف التعوذ فإنه تابع للقراءة فمن لم يقرأ لا يتعوذ .

                وقيل : لا يستفتح ولا يتعوذ حال الجهر وهذا أصح فإن ذلك يشغل عن الاستماع والإنصات المأمور به وليس له أن يشتغل عما أمر به بشيء من الأشياء .

                ثم اختلف أصحاب أحمد : فمنهم من قال هذا الخلاف إنما هو في حال سكوت الإمام هل يشتغل بالاستفتاح أو الاستعاذة أو بأحدهما [ ص: 281 ] أو لا يشتغل إلا بالقراءة لكونها مختلفا في وجوبها . وأما في حال الجهر فلا يشتغل بغير الإنصات والمعروف عند أصحابه أن هذا النزاع هو في حال الجهر لما تقدم من التعليل وأما في حال المخافتة فالأفضل له أن يستفتح واستفتاحه حال سكوت الإمام أفضل من قراءته في ظاهر مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما ; لأن القراءة يعتاض عنها بالاستماع بخلاف الاستفتاح .

                وأما قول القائل : إن قراءة المأموم مختلف في وجوبها فيقال : وكذلك الاستفتاح هل يجب ؟ فيه قولان مشهوران في مذهب أحمد . ولم يختلف قوله : إنه لا يجب على المأموم القراءة في حال الجهر . واختار ابن بطة وجوب الاستفتاح وقد ذكر ذلك روايتين عن أحمد .

                فعلم أن من قال من أصحابه كأبي الفرج ابن الجوزي أن القراءة حال المخافتة أفضل في مذهبه من الاستفتاح فقد غلط على مذهبه . ولكن هذا يناسب قول من استحب قراءة الفاتحة حال الجهر وهذا ما علمت أحدا قاله من أصحابه قبل جدي أبي البركات وليس هو مذهب أحمد ولا عامة أصحابه مع أن تعليل الأحكام بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر فإن ذلك وصف حادث بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يسلكه من لم يكن عالما بالأدلة الشرعية في [ ص: 282 ] نفس الأمر لطلب الاحتياط .

                وعلى هذا ففي حال المخافتة هل يستحب له مع الاستفتاح الاستعاذة إذا لم يقرأ ؟ على روايتين .

                والصواب : أن الاستعاذة لا تشرع إلا لمن قرأ فإن اتسع الزمان للقراءة استعاذ وقرأ وإلا أنصت .



                فصل وأما " الفصل الثاني " وهو القراءة إذا لم يسمع قراءة الإمام كحال مخافتة الإمام وسكوته فإن الأمر بالقراءة والترغيب فيها يتناول المصلي أعظم مما يتناول غيره فإن قراءة القرآن في الصلاة أفضل منها خارج الصلاة وما ورد من الفضل لقارئ القرآن يتناول المصلي أعظم مما يتناول غيره ; لقوله صلى الله عليه وسلم { من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول : الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف } قال الترمذي : حديث صحيح وقد ثبت في خصوص الصلاة قوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من [ ص: 283 ] صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا } أي : غير تمام فقيل لأبي هريرة : إني أكون وراء الإمام . فقال : اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { قال الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل . فإذا قال العبد : { الحمد لله رب العالمين } قال الله : حمدني عبدي فإذا قال : { الرحمن الرحيم } قال الله : أثنى علي عبدي فإذا قال { مالك يوم الدين } قال : مجدني عبدي وقال مرة : فوض إلي عبدي فإذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل } .

                وروى مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر فجعل رجل يقرأ خلفه : بسبح اسم ربك الأعلى فلما انصرف قال : أيكم قرأ ؟ أو أيكم القارئ قال رجل : أنا قال : قد ظننت أن بعضكم خالجنيها } رواه مسلم . فهذا قد قرأ خلفه في صلاة الظهر ولم ينهه ولا غيره عن القراءة لكن قال : { قد ظننت أن بعضكم خالجنيها } أي نازعنيها . كما قال في الحديث الآخر : { إني أقول ما لي أنازع القرآن } .

                [ ص: 284 ] وفي المسند عن ابن مسعود قال : { كانوا يقرءون خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : خلطتم علي القرآن } فهذا كراهة منه لمن نازعه وخالجه وخلط عليه القرآن وهذا لا يكون ممن قرأ في نفسه بحيث لا يسمعه غيره وإنما يكون ممن أسمع غيره وهذا مكروه لما فيه من المنازعة لغيره لا لأجل كونه قارئا خلف الإمام وأما مع مخافتة الإمام . فإن هذا لم يرد حديث بالنهي عنه ولهذا قال : " أيكم القارئ ؟ " . أي القارئ الذي نازعني لم يرد بذلك القارئ في نفسه فإن هذا لا ينازع ولا يعرف أنه خالج النبي صلى الله عليه وسلم وكراهة القراءة خلف الإمام إنما هي إذا امتنع من الإنصات المأمور به أو إذا نازع غيره فإذا لم يكن هناك إنصات مأمور به ولا منازعة فلا وجه للمنع من تلاوة القرآن في الصلاة . والقارئ هنا لم يعتض عن القراءة باستماع فيفوته الاستماع والقراءة جميعا مع الخلاف المشهور في وجوب القراءة في مثل هذه الحال بخلاف وجوبها في حال الجهر فإنه شاذ حتى نقل أحمد الإجماع على خلافه .

                وأبو هريرة وغيره من الصحابة فهموا من قوله : { قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد : { الحمد لله رب العالمين } } أن ذلك يعم الإمام والمأموم .

                وأيضا فجميع الأذكار التي يشرع للإمام أن يقولها سرا يشرع للمأموم [ ص: 285 ] أن يقولها سرا كالتسبيح في الركوع والسجود وكالتشهد والدعاء . ومعلوم أن القراءة أفضل من الذكر والدعاء فلأي معنى لا تشرع له القراءة في السر وهو لا يسمع قراءة السر ولا يؤمن على قراءة الإمام في السر .

                وأيضا فإن الله سبحانه لما قال : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } وقال : { واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين } وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته فإنه ما خوطب به خوطبت به الأمة ما لم يرد نص بالتخصيص . كقوله : { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } وقوله : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } وقوله : { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل } ونحو ذلك . وهذا أمر يتناول الإمام والمأموم والمنفرد بأن يذكر الله في نفسه بالغدو والآصال وهو يتناول صلاة الفجر والظهر والعصر فيكون المأموم مأمورا بذكر ربه في نفسه لكن إذا كان مستمعا كان مأمورا بالاستماع وإن لم يكن مستمعا كان مأمورا بذكر ربه في نفسه . والقرآن أفضل الذكر كما قال تعالى : { وهذا ذكر مبارك أنزلناه } وقال تعالى : { وقد آتيناك من لدنا ذكرا } وقال تعالى : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } وقال : { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } .

                وأيضا : فالسكوت بلا قراءة ولا ذكر ولا دعاء ليس عبادة [ ص: 286 ] ولا مأمورا به ; بل يفتح باب الوسوسة فالاشتغال بذكر الله أفضل من السكوت وقراءة القرآن من أفضل الخير وإذا كان كذلك فالذكر بالقرآن أفضل من غيره كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر } . رواه مسلم في صحيحه . وعن عبد الله بن أبي أوفى قال : { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه فقال : قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله فقال : يا رسول الله هذا لله فما لي قال : قل : اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني فلما قام قال : هكذا بيديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هذا فقد ملأ يديه من الخير } رواه أحمد وأبو داود والنسائي .

                والذين أوجبوا القراءة في الجهر : احتجوا بالحديث الذي في السنن عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا كنتم ورائي فلا تقرءوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها } . وهذا الحديث معلل عند أئمة الحديث بأمور كثيرة ضعفه أحمد وغيره من الأئمة . وقد بسط الكلام على ضعفه في غير هذا الموضع وبين أن الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم { لا صلاة إلا [ ص: 287 ] بأم القرآن } فهذا هو الذي أخرجاه في الصحيحين ورواه الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة . وأما هذا الحديث فغلط فيه بعض الشاميين وأصله أن عبادة كان يؤم ببيت المقدس فقال هذا فاشتبه عليهم المرفوع بالموقوف على عبادة .

                وأيضا : فقد تكلم العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة وبسطوا القول فيها وفي غيرها من المسائل . وتارة أفردوا القول فيها في مصنفات مفردة وانتصر طائفة للإثبات في مصنفات مفردة : كالبخاري وغيره . وطائفة للنفي : كأبي مطيع البلخي وكرام وغيرهما .

                ومن تأمل مصنفات الطوائف تبين له القول الوسط فإن عامة المصنفات المفردة تتضمن صور كل من القولين المتباينين قول من ينهى عن القراءة خلف الإمام حتى في صلاة السر . وقول من يأمر بالقراءة خلفه مع سماع جهر الإمام والبخاري ممن بالغ في الانتصار للإثبات بالقراءة حتى مع جهر الإمام ; بل يوجب ذلك كما يقوله الشافعي في الجديد وابن حزم ومع هذا فحججه ومصنفه إنما تتضمن تضعيف قول أبي حنيفة في هذه المسألة وتوابعها مثل كونه .



                [ ص: 288 ] وقال أيضا رحمه الله في القراءة خلف الإمام بعد كلام : والنبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب } وهذا أخرجه أصحاب الصحيح كالبخاري ومسلم في صحيحيهما وعليه اعتمد البخاري في مصنفه . فقال : ( باب وجوب القراءة في كل ركعة وروى هذا الحديث من طرق : مثل رواية ابن عيينة وصالح بن كيسان ويوسف بن زيد . قال البخاري : وقال معمر عن الزهري : { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا } وعامة الثقاة . لم يتابع معمرا في قوله : " فصاعدا " مع أنه قد أثبت فاتحة الكتاب وقوله : " فصاعدا " غير معروف ما أراد به حرفان أو أكثر من ذلك ; إلا أن يكون كقوله : { لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا } فقد تقطع اليد في ربع دينار وفي أكثر من دينار . قال البخاري : ويقال : إن عبد الرحمن بن إسحاق تابع معمرا وأن عبد الرحمن ربما روى عن الزهري ثم أدخل بينه وبين الزهري غيره ولا يعلم أن هذا من صحيح حديثه أم لا .

                قلت : معنى هذا حديث صحيح كما رواه أهل السنن وقد [ ص: 289 ] رواه البخاري في هذا المصنف : حدثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد ثنا أبو عثمان النهدي { عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره فنادى أن لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وما زاد } وقال أيضا : حدثنا محمد بن يوسف ثنا سفيان عن ابن جريج . عن عطاء عن أبي هريرة قال : { تجزئ بفاتحة الكتاب فإن زاد فهو خير } وذكر الحديث الآخر عن أبي سعيد في السنن . قال البخاري حدثنا أبو الوليد حدثنا همام عن قتادة عن أبي نضرة قال : { أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر } .

                قلت : وهذا يدل على أنه ليس المراد به قراءة المأموم حال سماعه لجهر الإمام فإن أحدا لا يقول إن زيادته على الفاتحة وترك إنصاته لقراءة الإمام في هذه الحال خير . ولا أن المأموم مأمور حال الجهر بقراءة زائدة على الفاتحة وكذلك عللها البخاري في حديث عبادة فإنها تدل على أن المأموم المستمع لم يدخل في الحديث ولكن هب أنها ليست في حديث عبادة فهي في حديث أبي هريرة .

                وأيضا فالكتاب والسنة يأمر بإنصات المأموم لقراءة الإمام ومن العلماء من أبطل صلاته إذا لم ينصت بل قرأ معه .

                وحينئذ يقال تعارض عموم قوله : { لا صلاة إلا بأم القرآن } [ ص: 290 ] وعموم الأمر بالإنصات فهؤلاء يقولون : ينصت إلا في حال قراءة الفاتحة وأولئك يقولون : قوله { لا صلاة إلا بأم القرآن } يستثنى منه المأمور بالإنصات إن سلموا شمول اللفظ له فإنهم يقولون ليس في الحديث دلالة على وجوب القراءة على المأموم فإنه إنما قال : { لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن } . وقد ثبت بالكتاب والسنة وبالإجماع أن إنصات المأموم لقراءة إمامه يتضمن معنى القراءة معه وزيادة ; فإن استماعه فيما زاد على الفاتحة أولى به بالقراءة باتفاقهم فلو لم يكن المأموم المستمع لقراءة إمامه أفضل من القارئ لكان قراءته أفضل له ولأنه قد ثبت الأمر بالإنصات لقراءة القرآن ولا يمكنه الجمع بين الإنصات والقراءة ولولا أن الإنصات يحصل به مقصود القراءة وزيادة لم يأمر الله بترك الأفضل لأجل المفضول .

                وأيضا فهذا عموم قد خص منه المسبوق بحديث أبي بكرة وغيره وخص منه الصلاة بإمامين فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بالناس وقد سبقه أبو بكر ببعض الصلاة قرأ من حيث انتهى أبو بكر ولم يستأنف قراءة الفاتحة لأنه بنى على صلاة أبي بكر فإذا سقطت عنه الفاتحة في هذا الموضع فعن المأموم أولى .

                وخص منه حال العذر وحال استماع الإمام حال عذر فهو مخصوص وأمر المأموم بالإنصات لقراءة الإمام لم يخص معه شيء لا بنص [ ص: 291 ] خاص ولا إجماع وإذا تعارض عمومان أحدهما محفوظ والآخر مخصوص وجب تقديم المحفوظ .

                وأيضا فإن الأمر بالإنصات داخل في معنى اتباع المأموم وهو دليل على أن المنصت يحصل له بإنصاته واستماعه ما هو أولى به من قراءته وهذا متفق عليه بين المسلمين في الخطبة وفي القراءة في الصلاة في غير محل النزاع فالمعنى الموجب للإنصات يتناول الإنصات عن الفاتحة وغيرها .

                وأما وجوب قراءتها في كل صلاة فإذا أنصت إلى الإمام الذي يقرؤها كان خيرا مما يقرأ لنفسه وهو لو نذر أن يصلي في المسجد الأقصى لكان صلاته في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم تجزئه ; بل هو أفضل له كما دلت على ذلك السنة وهو لم يوجب على نفسه إلا الصلاة في البيت المقدس ; لكن هذا أفضل منه . فإذا كان هذا في إيجابه على نفسه جعل الشارع الأفضل يقوم مقام المنذور وإلغاء تعيينه هو بالنذر فكيف يوجب الشارع شيئا ولا يجعل أفضل منه يقوم مقامه والشارع حكيم لا يعين شيئا قط وغيره أولى بالفعل منه ; بخلاف الإنسان فإنه قد يخص بنذره ووقفه ووصيته ما غيره أولى منه وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المصلي إذا سها بسجود السهو في غير حديث .

                [ ص: 292 ] ثم المأموم إذا سها يتحمل إمامه عنه سهوه ; لأجل متابعته له مع إمكانه أن يسجد بعد سلامه . وإنصاته لقراءته أدخل في المتابعة فإن الإمام إنما يجهر لمن يستمع قراءته فإذا اشتغل أحد من المصلين بالقراءة لنفسه كان كالمخاطب لمن لا يستمع إليه كالخطيب الذي يخطب الناس وكلهم يتحدثون ومن فعل هذا فهو كما جاء في الحديث { كحمار يحمل أسفارا } فإنه لم يفقه معنى المتابعة كالذي يرفع رأسه قبل الإمام فإنه كالحمار ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول رأسه رأس حمار } فإنه متبع للإمام فكيف يسابقه ولهذا ضرب عمر من فعل ذلك وقال : لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت . وأمر إذا رفع رأسه سهوا أن يعود فيتخلف بقدر ما سبق به الإمام وقد نص أحمد وغيره على ذلك وذكر هو وغيره الآثار في ذلك عن الصحابة .

                فقول النبي صلى الله عليه وسلم { من صلى صلاة فلم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج } وفي تمامه فقلت : يا أبا هريرة إني أكون أحيانا وراء الإمام قال : اقرأ بها في نفسك يا فارسي فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { قال الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين } الحديث إلى آخره . وهو حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه .

                [ ص: 293 ] و البخاري احتج به في هذا المصنف وإن كان لم يخرجه في صحيحه على عادته في مثل ذلك وإسناده المشهور الذي رواه مسلم حديث العلاء عن ابن السائب عن أبي هريرة وبعضهم يقول : عن أبيه عن أبي هريرة ورواه من حديث عائذ وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .

                قال البخاري : ثنا محمد بن عبد الله الرقاشي ثنا يزيد بن زريع ثنا محمد بن إسحاق ثنا يحيى بن عباد عن أبيه عن عائشة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج } قال البخاري : وزاد يزيد بن هارون بفاتحة الكتاب قال : وحدثنا موسى بن إسماعيل ثنا أبان ثنا عامر الأحول عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي مخدجة } .

                وقال : حدثنا هلال بن بشر ثنا يوسف بن يعقوب السلعي ثنا حسن المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج } [ ص: 294 ] وقال البخاري ثنا موسى ثنا داود بن أبي الفرات عن إبراهيم الصائغ عن عطاء عن أبي هريرة : في كل صلاة قراءة ولو بفاتحة الكتاب فما أعلن لنا النبي صلى الله عليه وسلم فنحن نعلنه وما أسر فنحن نسره . وروي من طريقين عن أبي الزاهرية : ثنا كثير بن مرة سمع أبا الدرداء يقول : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أفي كل صلاة قراءة ؟ قال : نعم فقال رجل من الأنصار : وجبت هذه } . وهذه الأحاديث بمنزلة قوله { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب } فإن المستمع المنصت قارئ بل أفضل من القارئ لنفسه ويدل على ذلك { لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وما زاد } وقوله : { أمرنا أن نقرأ بها وما تيسر } فإن المستمع المنصت ليس مأمورا بقراءة الزيادة .

                وأيضا : فقول أبي هريرة : ما أسمعنا أسمعناكم وما أخفى علينا أخفينا عليكم : دليل على أن المراد به الإمام وإلا فالمأموم لا يسمع أحدا قراءته .

                وأما قوله : { أفي كل صلاة قراءة ؟ } وقوله : { لا صلاة إلا بأم القرآن } . فصلاة المأموم المستمع لقراءة الإمام فيها قراءة بل الأكثرون يقولون الإمام ضامن لصلاته فصلاته في ضمن صلاة الإمام ففيها القراءة . وجمهورهم يقولون إذا كان الإمام أميا لم يقتد به القارئ . فلو كانت قراءة الإمام لا تغني عن [ ص: 295 ] المأموم شيئا بل كل يقرأ لنفسه : لم يكن فرق بين عجزه عن القراءة وعجزه عن غير ذلك من الواجبات ; ولأن الإمام مأمور باستماع ما زاد على الفاتحة وليست قراءة واجبة . فكيف لا يؤمر بالاستماع لقراءة الإمام الفاتحة وهي الفرض وكيف يؤمر باستماع التطوع دون استماع الفرض . وإذا كان الاستماع للقراءة الزائدة على الفاتحة واجبا بالكتاب والسنة والإجماع فالاستماع لقراءة الفاتحة أوجب .

                ثم قال البخاري : وقيل له : احتجاجك بقول الله : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } أرأيت إذا لم يجهر الإمام أيقرأ خلفه فإن قال : لا تبطل دعواه ; لأن الله قال : { فاستمعوا له وأنصتوا } وإنما يستمع لما يجهر مع أنا نستعمل قول الله تعالى : { فاستمعوا له } نقول : يقرأ خلف الإمام عند السكتات . قال سمرة : { كان للنبي صلى الله عليه وسلم سكتات : سكتة حين يكبر وسكتة حين يفرغ من قراءته } . وقال ابن خثيم : قلت لسعيد بن جبير : أقرأ خلف الإمام ؟ قال : نعم وإن سمعت قراءته . فإنهم قد أحدثوا ما لم يكونوا يصنعونه إن السلف كان إذا أم أحدهم الناس كبر ثم أنصت حتى يظن أن من خلفه قرأ بفاتحة الكتاب ثم قرأ وأنصت . وقال أبو هريرة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يقرأ سكت سكتة قال : [ ص: 296 ] وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن وميمون بن مهران وغيرهم وسعيد بن جبير يرون القراءة عند سكوت الإمام ليكون مقتديا بقول النبي صلى الله عليه وسلم { لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب } فتكون قراءته في السكتة . فإذا قرأ الإمام أنصت حتى يكون متبعا لقول الله تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقوله : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } .

                وإذا ترك الإمام شيئا من حق الصلاة فحق على من خلفه أن يتموا قال علقمة : إن لم يتم الإمام أتممنا . وقال الحسن وسعيد بن جبير وحميد بن هلال : أقرأ بالحمد يوم الجمعة . قال : وقال آخرون من هؤلاء يجزئه أن يقرأ بالفارسية ويجزئه أن يقرأ بآية : ينقض آخرهم على أولهم بغير كتاب ولا سنة .

                وقيل له : من أباح لك الثناء والإمام يقرأ بخبر أو قياس وحظر على غيرك الفرض وهي القراءة ولا خبر عندك ولا اتفاق لأن عدة من أهل المدينة لم يروا الثناء للإمام ولا لغيره : يكبرون ثم يقرءون فتحير عندهم في ريبهم يترددون مع أن هذا صنعه في أشياء من الفرض فجعل الواجب أهون من التطوع . [ ص: 297 ] زعمت أنه إذا لم يقرأ في الركعتين من الظهر أو العصر أو العشاء يجزئه وإذا لم يقرأ في ركعة من أربع من التطوع لم يجزئه .

                قلت : وإذا لم يقرأ في ركعة من المغرب أجزأه وإذا لم يقرأ في ركعة من الوتر لم يجزئه فكأنه يريد أن يجمع بين ما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفرق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                قلت : أما سكتة النبي صلى الله عليه وسلم حين يكبر فقد بين أبو هريرة في حديثه المتفق على صحته أنه كان يذكر فيها دعاء الاستفتاح لم يكن سكوتا محضا ; لأجل قراءة المأمومين . وثبت في الصحيح أن عمر كان يكبر ويجهر بدعاء الاستفتاح يعلمه الناس . وأما احتجاجه على من استفتح حال الجهر فهذا فيه نزاع معروف هل يستفتح في حال الجهر ويتعوذ أو يستفتح ولا يتعوذ إلا إذا قرأ أو لا يستفتح حال الجهر ولا يتعوذ فيه ؟ فيه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد .

                لكن الأظهر ما احتج به البخاري فإن الأمر بالإنصات يقتضي الإنصات عن كل ما يمنعه من استماع القراءة من ثناء وقراءة ودعاء كما ينصت للخطبة بل الإنصات للقراءة أوكد . ولكن إذا سكت [ ص: 298 ] الإمام السكتة الأولى للثناء فهنا عند أحمد وأبي حنيفة وغيرهما استفتاح المأموم أولى من قراءة الفاتحة في هذه السكتة ; لأن مقصود القراءة تحصل له باستماعه لقراءة الإمام وأما مقصود الاستفتاح فلا يحصل له إلا باستفتاحه لنفسه ; ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسكت مستفتحا وعمر كان يجهر بالاستفتاح ليعلمه المأمومين فعلم أنه مشروع للمأموم . ولو اشتغل عنه بالقراءة لفاته الاستفتاح والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسكت ليقرأ المأمومون في حال سكوته وهذا مذهب جمهور العلماء لا يستحبون للإمام سكوتا لقراءة المأموم وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة ومالك وغيرهم .

                ومن أصحاب أحمد من استحب له السكوت لقراءة المأموم ومنهم من استحب له في حال سكوت الإمام أن يقرأ ولا يستفتح وهو اختيار أبي بكر الدينوري وأبي الفرج ابن الجوزي .

                ومنهم من استحب له القراءة بالفاتحة في حال جهر الإمام . كما اختاره جدي أبو البركات . وهو مذهب الليث والأوزاعي وغيرهما .

                ثم من هؤلاء من يستحب له أن يستفتح في حال سكوته ويقرأ ليجمع بينهما . ومنهم من يستحب له القراءة دون السكوت .

                كما أن الذين يكرهون قراءته حال الجهر : منهم من يستحب له [ ص: 299 ] الاستفتاح حال الجهر ومنهم من يكرهه وهو روايتان عن أحمد ومذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما أنه في حال سكوته للاستفتاح يستفتح وهو الأظهر .

                وما ذكره البخاري من أن عدة من أهل المدينة لم يروا الاستفتاح كمذهب مالك : هو حجة للجمهور ; لأنهم يقولون الإمام هنا لا سكوت له وحينئذ فإن قرأنا معه خالفنا الكتاب والسنة لكن ما ذكره البخاري حجة على من يستفتح حينئذ فيشتغل بالاستفتاح عن استماع القراءة .

                وهؤلاء نظروا إلى أن الإمام يحمل القراءة عن المأموم ولا يحمل عنه الاستفتاح لكن هذا إنما يدل على عدم وجوب القراءة والمأموم مأمور بالاستماع والإنصات فلا يشتغل عن ذلك بثناء كما لا يشتغل عنه بقراءة والقراءة أفضل من الثناء فإن كان الإمام يسكت للثناء وأدركه المأموم أثنى معه وإن كان لا يسكت أو أدرك المأموم وهو يقرأ فهو مأمور بالإنصات والاستماع فلا يعدل عما أمر به .

                فإن قيل في وجوب الثناء قولان في مذهب أحمد قيل في وجوب القراءة على المأموم قولان في مذهب أحمد وإذا نهي عن القراءة لاستماع قراءة الإمام فلأن ينهى عن الثناء أولى لقوله : [ ص: 300 ] { فاستمعوا له وأنصتوا } وألا تناقضوا . كما ذكره البخاري .

                وأما قول أبي هريرة : اقرأ بها في نفسك يا فارسي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { قال الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين } إلى آخره . فقد يقال أن أبا هريرة إنما أمره بالقراءة ; لما في ذلك من الفضيلة المذكورة في حديث القسمة لا لقوله : { من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج } فإنه لو كان صلاة المأموم خداجا إذا لم يقرأ لأمره بذلك ; لأجل ذلك الحديث . ولم يعلل الأمر بحديث القسمة . اللهم إلا أن يقال : ذكره توكيدا أو لأنه لما قسم القراءة قسم الصلاة فدل على أنه لا بد منها في الصلاة إذ لو خلت عنها لم تكن القسمة موجودة . وعلى هذا يبقى الحديثان مدلولهما واحد .

                وقوله : اقرأ بها في نفسك . مجمل فإن أراد ما أراد غيره من القراءة في حال المخافتة أو سكوت الإمام لم يكن ذلك مخالفا ; لقول أولئك يؤيد هذا أن أبا هريرة ممن روى قوله : { وإذا قرأ فأنصتوا } وروى قوله : { لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب . وما زاد } وقال : { تجزئ فاتحة الكتاب وإذا زاد فهو خير } ومعلوم أن هذا لم يتناول المأموم المستمع لقراءة الإمام فإن هذا لا تكون الزيادة على الفاتحة خيرا له بل الاستماع والإنصات خيرا له فلا يجزم حينئذ بأنه أمره [ ص: 301 ] أن يقرأ حال استماعه لقراءة الإمام بلفظ مجمل .

                قال البخاري : وروى ابن صالح عن الأصفهاني عن المختار عن عبد الله بن أبي ليلى عن أبيه عن علي " من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة " قال : وهذا لم يصح ; لأنه لا يعرف المختار ولا يدري أنه سمع من ابنه ولا أبيه من علي ولا يحتج أهل الحديث بمثله . وحديث الزهري عن عبد الله بن أبي رافع عن علي أولى وأصح .

                قلت : حديث الزهري بين في أنه أمره بالقراءة في صلاة المخافتة لا في صلاة الجهر وعلى هذا فيكون إن كان قد قال هذا قاله في صلاة الجهر إذا سمع الإمام فلا منافاة بين القولين . كما تقدم مثل ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما .

                قال البخاري : وروى داود بن قيس عن أبي نجاد رجل من ولد سعد عن سعد " وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه جمر " . قال : وهذا مرسل وابن نجاد لم يعرف ولا سمي ولا يجوز لأحد أن يقول في في القارئ خلف الإمام جمرة ; لأن الجمرة من عذاب الله . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { لا تعذبوا بعذاب الله } ولا ينبغي لأحد أن يتوهم ذلك على سعد مع إرساله وضعفه . قال : [ ص: 302 ] وروى ابن حبان عن سلمة بن كهيل عن إبراهيم قال : قال عبد الله " وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه تبنا " قال : وهذا مرسل لا يحتج به وخالفه ابن عون عن إبراهيم عن الأسود وقال : رضفا وليس هذا من كلام أهل العلم لوجوه .

                أما أحدها : قال النبي صلى الله عليه وسلم { لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بالنار ولا تعذبوا بعذاب الله } .

                والوجه الآخر : أنه لا ينبغي لأحد أن يتمنى أن يملأ أفواه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب وأبي بن كعب وحذيفة ومن ذكرنا رضفا ولا تبنا ولا ترابا .

                والوجه الثالث : إذا ثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه فليس في [ قول ] الأسود ونحوه حجة قال ابن عباس ومجاهد ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك وقال حماد بن سلمة : " وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه سكرا " .

                قال البخاري : وروى عمر بن محمد عن موسى بن سعد عن زيد بن ثابت قال : " من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له " ولا يعرف لهذا [ ص: 303 ] الإسناد سماع بعضهم من بعض ولا يصح مثله . قال : وكان سعيد بن المسيب وعروة والشعبي وعبيد الله بن عبد الله ونافع بن جبير وأبو المليح والقاسم بن محمد وأبو مجلز ومكحول ومالك وابن عون وسعيد بن أبي عروبة يرون القراءة . وكان أنس وعبد الله بن يزيد الأنصاري يستحبان [ القراءة ] خلف الإمام .

                قلت : قد روى مسلم في صحيحه عن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت الأنصاري عن القراءة مع الإمام . فقال : لا قراءة مع الإمام في شيء . وهذا يتناول القراءة معه في الجهر كما قال الزهري فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يجهر فيه .

                وأما في صلاة المخافتة فلا يقال قرأ معه كما لا يقال إن أحد المأمومين يقرأ مع الآخر وكما لا يقال : إنه استفتح معه وتشهد معه وسبح معه في الركوع والسجود .

                وكذلك ابن مسعود قد تقدمت الرواية عنه بأنه كان يأمر بإنصات المأموم لقراءة الإمام وكان يقرأ خلف الإمام . وعلى هذا فقوله : إن كان قاله أو قول أصحابه الذين نقلوا عنه كالأسود : [ ص: 304 ] " وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه رضفا أو تبنا أو ترابا " يتناول من قرأ وهو يسمع الإمام يقرأ فترك ما أمر به من الإنصات والاستماع وهذا هو الذي يتناوله قول سعد إن كان قاله : " وددت أن في فيه جمرا " لا سيما إذا نازع الإمام القراءة بأن يكون الإمام أو من يسمع قراءة الإمام يسمع حسه فيكون ممن قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه : { ما لي أنازع القرآن } وقال فيه : { علمت أن بعضكم خالجنيها } وكذلك لو قرأ في السر ورفع صوته بحيث يخالج الإمام وينازعه أو يخالج وينازع غيره من المأمومين لكان مسيئا في ذلك .

                وقول حماد بن سلمة وغيره : " وددت أنه ملئ فوه سكرا " إذا قرأ حيث يستحب له القراءة لقراءته خلف الإمام في صلاة السر وكذلك ما نقل عن زيد بن ثابت أنه قال : " من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له " يتناول من ترك ما أمر به وفعل ما نهي عنه . فقرأ وهو يسمع قراءة الإمام وفي بطلان صلاة هذا وجهان في مذهب أحمد ومن قال هذا من السلف من صحابي أو تابعي فقد يريد به معنى صحيحا . كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم { لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخلص إلى جلده فتحرق ثيابه خير له من أن يجلس على قبر } وتعذيب الإنسان بعذاب في الدنيا أيسر عليه من ركوب [ ص: 305 ] ما نهى الله عنه .

                فمن اعتقد أن قراءته حال استماع إمامه معصية لله ورسوله ترك بها ما أمره الله وفعل ما نهى الله عنه جاز أن يقول ; لأن يحصل بفيه شيء يؤذيه فيمنعه عن المعصية خير له من أن يفعل ما نهي عنه كما قد يقال : لمن تكلم بكلمة محرمة : لو كنت أخرس لكان خيرا لك ولا يراد بذلك أنا نحن نعذبه بذلك لكن يراد لو ابتلاه الله بهذا لكان خيرا له من أن يقع في الذنب .

                وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين : { عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة } والواحد من السلف قد يذكر ما في الفعل من الوعيد وإن فعله غيره متأولا لقول عائشة " أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب " وليس في هذا تلاعن بلعنة الله ولا بالنار ولا تعذيب بعذاب الله بل فيه تمنى أن يبتلى بما يمنعه عن المعصية . وإن كان فيه أذى له . والعالم قد يذكر الوعيد فيما يراه ذنبا مع علمه بأن المتأول مغفور له لا يناله الوعيد . لكن يذكر ذلك ليبين أن هذا الفعل مقتضي لهذه العقوبة عنده فكيف وهو لم يذكر إلا ما يمنعه عما يراه ذنبا .

                [ ص: 306 ] وكذلك قول من قال : " وددت أنه ملئ فوه سكرا " يتناول من فعل ما أمر الله به من القراءة ومع هذا فمن فعل القراءة المنهي عنها معتقدا أنه مأمور به أو ترك المأمور به معتقدا أنه منهي عنه كان مثابا على اجتهاده وخطؤه مغفور له وإن كان العالم يقول في الفعل الذي يرى أنه واجب أو محرم ما يناسب الوجوب والتحريم وليس في ذلك تمنى أن يملأ أفواه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدا من المؤمنين رضفا ولا تبنا ; لأن أولئك عامة ما نقل عنهم من القراءة خلف الإمام في السر وذم الذامين لمن يقرأ في الجهر . فلم يتوارد الذم والفعل وإن قدر أنهما تواردا من السلف فهو كتواردهما من الخلف .

                وحينئذ فهذا يتكلم باجتهاده وهذا باجتهاده وليس ذلك بأعظم من قول بعض أكابر الصحابة لبعض أكابرهم قدام النبي صلى الله عليه وسلم إنك منافق تجادل عن المنافقين . وقول القائل : دعني أضرب عنق هذا المنافق وليس ذلك بأعظم مما وقع بينهم من التأويل في القتال في الفتن والدعاء في القنوت باللعن وغيره مع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : { لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض } وقوله : { إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار } فإذا كان هذا الوعيد يندفع عنهم بالتأويل [ ص: 307 ] في الدماء فلأن يندفع بالتأويل فيما دون ذلك أولى وأحرى .

                وقد ثبت عن علي أنه حرق بالنار المرتدين وكذلك الصديق روي عنه أنه حرق فإذا جاز هذا على الخلاف مع ثبوت النص بخلافه ; لأجل التأويل لم يمتنع أن يغلط بعضهم فيما يراه ذنبا ومعصية بمثل هذا الكلام .

                ومعلوم أن النهي عن القراءة خلف الإمام في الجهر متواتر عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم كما أن القراءة خلف الإمام في السر متواترة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم بل ونفي وجوب القراءة على المأموم مطلقا مما هو معروف عنهم .

                وقد روى البخاري في هذا الكتاب : حدثنا عبد الله بن منير سمع يزيد بن هارون ثنا زياد وهو الجصاص ثنا الحسن حدثني عمران بن حصين قال : { لا تزكوا صلاة مسلم إلا بطهور وركوع وسجود وراء الإمام وإن كان وحده بفاتحة وآيتين أو ثلاث } . فلم يوجب الفاتحة عليه إذا كان إماما كما أوجب عليه الطهارة والركوع والسجود بل أوجبها مع الانفراد .

                [ ص: 308 ] ثم روى البخاري قوله : { لا تقرءوا خلفي إلا بأم القرآن } وذكر طرقه وما فيه من الاختلاف فقال حدثنا شجاع بن الوليد ثنا النضر ثنا عكرمة ثنا عمرو بن سعد . عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :



                وقال شيخ الإسلام فصل الناس في القراءة خلف الإمام متنازعون في الوجوب والاستحباب : فقيل تكره مطلقا كما هو قول أبي حنيفة وغيره .

                وقيل : بل تجب بالفاتحة مطلقا كما هو قول الشافعي في الجديد وغيره . وهو قول ابن حزم وزاد لا تشرع بغير ذلك بحال .

                وقيل : بل تجب بها في صلاة السر فقط كقوله القديم . والإمام أحمد ذكر إجماع الناس على أنها لا تجب في صلاة الجهر .

                والجمهور على أنها لا تجب ولا تكره مطلقا بل تستحب القراءة في صلاة السر وفي سكتات الإمام بالفاتحة وغيرها كما هو مذهب مالك وأحمد وغيرهما . وأما إذا لم يكن للإمام سكتات فقرأ فيها . فهل تكره القراءة أم تستحب بالفاتحة ؟ فيه قولان . فمذهب أحمد وجمهور أصحابه أنها تكره بالفاتحة وغيرها واختار طائفة أنها تستحب [ ص: 310 ] حينئذ بالفاتحة وهو اختيار جدي وهو قول الليث والأوزاعي . وحجة هذا القول شيئان : أحدهما : أن في قراءتها خروجا من الاختلاف في وجوبها فإنه إذا لم يقرأ ففي صحة صلاته خلاف بخلاف ما إذا قرأ فإنما يفوته الاستماع حين قراءتها فقط .

                الثاني : الحديث الذي في السنن حديث عبادة : " { إذا كنتم ورائي أو وراء الإمام فلا تقرءوا إلا بأم الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها } وهو حجة الموجبين . وهؤلاء يقولون : النهي إنما هو حال استماع قراءة الإمام فقط فأما في غير ذلك فالقراءة مشروعة . فعلم أنه يستثنى الفاتحة حال النهي عن غيرها وهذا يفيد قراءتها حال استماع الجهر . ثم هنا ثلاثة أقوال : قيل : إنها واجبة وأنه لا يقرأ بغيرها بحال . كما قاله ابن حزم .

                وقيل : بل هي واجبة والنهي عن القراءة بغيرها حال الجهر فلا يفيد النهي مطلقا .

                وقيل : بل يفيد استثناء قراءتها من النهي والاستثناء من النهي [ ص: 311 ] لا يفيد الوجوب . وقوله : " { فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها } تعليل بوجوب قراءتها في الصلاة . فإن كونها ركنا اقتضى أن تستثنى في هذه الحال للمأموم وإن لم تكن مفروضة عليه كفرائض الكفايات إذا قام بها طائفة سقط بها الفرض ثم قام بها آخرون فإنه يقال : هي فرض على الكفاية وإن كان لهم إسقاطها بفعل الغير ; ولهذا يقال : الجنازة تفعل في أوقات النهي لأنها فرض وإن فعلت مرة ثانية في أصح الوجهين ; لأنها تفعل فرضا في حق هؤلاء وإن كان لهم إسقاطها بفعل الغير .

                وقراءة الفاتحة هي ركن وللمأموم أن يجتزئ بقراءة إمامه وله أن يسقطها بنفسه . وهذا كما في صدقة الفطر التي يتحملها الإنسان عن غيره كصدقة الزوجة فإنها هل تجب على الزوج ابتداء أو تحملا ؟ على وجهين : أصحهما : أنها تحمل فلو أخرجتها الزوجة لجاز فتكون الزوجة مخيرة بين أن تخرجها وبين أن تلزم الزوج بإخراجها فلو أخرجها الزوج ثم أخرجتها هي ولم تعتد بذلك الإخراج لكان ، لكن الإمام لا بد له من قراءة وهو يتحمل القراءة عن المأموم . فالقراءة الواحدة تجزي عن إمامه وعنه وإن قرأ هو عن نفسه فحسن كسائر فروض الكفايات لكن هذا فرض عين على الأئمة .

                [ ص: 312 ] وأما الذين كرهوا القراءة في حال استماع قراءة الإمام مطلقا وهم الجمهور . فحجتهم قوله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } فأمر بالإنصات مطلقا ومن قرأ وهو يستمع فلم ينصت .

                ومن أجاب عن هذا بأن الآية مخصوصة بغير حال قراءة الفاتحة فجوابه من وجوه : أحدها : ما ذكره الإمام أحمد من إجماع الناس على أنها نزلت في الصلاة وفي الخطبة وكذلك قوله : " { وإذا قرأ فأنصتوا } " .

                وأيضا : فالمستمع للفاتحة هو كالقارئ ; ولهذا يؤمن على دعائها . وقال : " { إذا أمن القارئ فأمنوا فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه } . وأما الإنصات المأمور به حال قراءة الإمام ; فهو من باب المتابعة للإمام فهو فاعل للاتباع المأمور به أي بمقصود القراءة وإذا قرأ الفاتحة ترك المتابعة المأمور بها بالإنصات وترك الإنصات المأمور به في القرآن ولم يعتض عن هذين الأمرين إلا بقراءة الفاتحة التي حصل المقصود منها باستماعه قراءة الإمام وتأمينه عليها . وكان قد ترك الإنصات المأمور به إلى غير بدل ففاته هذا الواجب ولم يعتض عنه إلا ما حصل مقصوده بدونه . ومعلوم أنه إذا دار [ ص: 313 ] الأمر بين تفويت أحد أمرين على وجه يتضمن تحصيل أحدهما كان تحصيل ما يفوت إلى غير بدل أولى من تحصيل ما يقوم بدله مقامه .

                وأيضا فلو لم يكن المستمع كالقارئ لكان المستحب حال جهره بغير الفاتحة أن يقرأ المأموم فلما اتفق المسلمون على أن المشروع للمأموم حال سماع القراءة المستحبة أن يستمع ولا يقرأ : علم أنه يحصل له مقصود القراءة بالاستماع وإلا كان المشروع في حقه التلاوة بل أوجبوا عليه الإنصات حال القراءة المستحبة فالإنصات حال القراءة الواجبة أولى . وأما الحديث فقد طعن فيه الإمام أحمد وغيره ولفظ الحديث الذي في الصحيحين ليس فيه إلا قول مطلق .

                وأيضا فإن صح حمل على الإمام الذي له سكتات يقرر ذلك أن لفظه ليس فيه عموم فإنه قد روي أنه قال : " { إذا كنتم ورائي فلا تقرءوا إلا بأم الكتاب } وهذا استثناء من النهي لهم عن القراءة خلفه فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له سكتتان كما روى ذلك سمرة وأبي بن كعب . كما ثبت سكوته بين التكبير والقراءة بحديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيحين والدعاء الذي روى أبو هريرة في هذا السكوت يمكن فيه قراءة الفاتحة فكيف إذا قرأ بعضها في سكتة وبعضها في سكتة أخرى . فحينئذ لا يكون في قوله : " { إذا كنتم ورائي فلا تقرءوا إلا بأم القرآن } دليل على أنه يقرأ بها في حال الجهر [ ص: 314 ] فإن هذا استثناء من النهي فلا يفيد إلا الإذن المطلق بمعنى أنهم ليسوا منهيين عن القراءة بها لا يمكن قراءتها في حال سكتاته .

                يؤيد هذا أن جمهور المنازعين يسلمون أنه في صلاة السر يقرأ بالفاتحة وغيرها ويسلمون أنه إذا أمكن أن يقرأ بما زاد على الفاتحة في سكتات الإمام قرأ وأن البعيد الذي لا يسمع يقرأ بالفاتحة وبما زاد . فحينئذ يكون هذا النهي خاصا فيمن صلى خلفه في صلاة الجهر . واستثناء قراءة الفاتحة لإمكان قراءتها في سكتاته .

                يبين هذا أن لفظ الحديث في الصحيحين من رواية الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " { لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن } وفي رواية { بفاتحة الكتاب } وأما الزيادة فرواها عن عبادة بن الصامت قال : { كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقلت عليه القراءة فلما فرغ قال : لعلكم تقرءون خلف إمامكم قلنا : نعم يا رسول الله قال : لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها } رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن والدارقطني وقال إسناده حسن .

                [ ص: 315 ] ورواها عن عبادة بن الصامت قال : { صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فالتبست عليه القراءة فلما انصرف أقبل علينا بوجهه وقال : هل تقرءون إذا جهرت بالقراءة فقال بعضنا : إنا لنصنع ذلك قال : فلا وأنا أقول ما لي أنازع القرآن فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن } رواه أبو داود واللفظ له والنسائي والدارقطني . وله أيضا " { لا يجوز صلاة لا يقرأ الرجل فيها فاتحة الكتاب } وقال إسناد حسن ورجاله كلهم ثقات .

                ففي هذا الحديث بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم : هل يقرءون وراءه بشيء أم لا ؟ ومعلوم أنه لو كانت القراءة واجبة على المأموم لكان قد أمرهم بذلك وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ولو بين ذلك لهم لفعله عامتهم لم يكن يفعله الواحد أو الاثنان منهم ولم يكن يحتاج إلى استفهامه . فهذا دليل على أنه لم يوجب عليهم قراءة خلفه حال الجهر ثم إنه لما علم أنهم يقرءون نهاهم عن القراءة بغير أم الكتاب وما ذكر من التباس القراءة عليه تكون بالقراءة معه حال الجهر سواء كان بالفاتحة أو غيرها فالعلة متناولة للأمرين فإن ما يوجب ثقل القراءة والتباسها على الإمام منهي عنه .

                [ ص: 316 ] وهذا يفعله كثير من المؤتمين الذين يرون قراءة الفاتحة حال جهر الإمام واجبة أو مستحبة فيثقلون القراءة على الإمام ويلبسونها عليه ويلبسون على من يقاربهم الإصغاء والاستماع الذي أمروا به فيفوتون مقصود جهر الإمام ومقصود استماع المأموم .

                ومعلوم أن مثل هذا يكون مكروها ثم إذا فرض أن جميع المأمومين يقرءون خلفه فنفس جهره لا لمن يستمع فلا يكون فيه فائدة لقوله " { إذا أمن فأمنوا } ويكونون قد أمنوا على قرآن لم يستمعوه ولا استمعه أحد منهم إلا أن يقال إن السكوت يجب على الإمام بقدر ما يقرءون وهم لا يوجبون السكوت الذي يسع قدر القراءة وإنما يستحبونه ، فعلم أن استحباب السكوت يناسب استحباب القراءة فيه ولو كانت القراءة على المأموم واجبة لوجب على الإمام أن يسكت بقدرها سكوتا فيه ذكر أو سكوتا محضا ولا أعلم أحدا أوجب السكوت لأجل قراءة المأموم .

                يحقق ذلك أنه قد أوجب الإنصات حال قراءة الإمام كما في صحيح مسلم عن أبي موسى قال : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال : أقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا } ورواه من حديث أبي هريرة أيضا قال : قال رسول الله [ ص: 317 ] صلى الله عليه وسلم " { إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا } رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي . قيل لمسلم بن الحجاج حديث أبي هريرة هو صحيح يعني : " { إذا قرأ فأنصتوا } قال : عندي صحيح . قيل له : لم لا تضعه هاهنا ؟ يعني في كتابه قال : ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا . إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه يعني من طريق أبي هريرة لم يجمع عليها وأجمع عليها من رواية أبي موسى ورواها من طريق أبي موسى مسلم . ولم يروها مسلم من طريق أبي هريرة .

                وعن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال : هل قرأ ؟ يعني أحدا منا آنفا قال رجل : نعم يا رسول الله قال : إني أقول : ما لي أنازع القرآن } فانتهى الناس عن القراءة معه صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك منه صلى الله عليه وسلم . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي وقال حديث حسن . قال أبو داود سمعت محمد بن يحيى بن فارس قال قوله : فانتهى الناس عن القراءة إلى آخره . من قول الزهري . وروى البخاري نحو ذلك فقد قال البيهقي : ابن أكيمة رجل مجهول لم يحدث إلا بهذا الحديث [ ص: 318 ] وحده ولم يحدث عنه غير الزهري وجواب ذلك من وجوه : أحدها : أنه قد قال فيه أبو حاتم الرازي : صحيح الحديث حديثه مقبول وتزكية أبي حاتم هو في الغاية . وحكي عن أبي حاتم البستي أنه قال : روى عنه الزهري وسعيد بن أبي هلال وابن ابنه عمرو بن مسلم بن عمارة بن أكيمة بن عمر .

                الثاني : أن يقال ليس في حديث ابن أكيمة إلا ما في حديث عبادة الذي اعتمده البيهقي ونحوه . من أنهم قرءوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم . وأنه قال : " { ما لي أنازع القرآن } .

                الثالث : أن حديث ابن أكيمة رواه أهل السنن الأربعة فإذا كان هذا الحديث هو مسلم صحة متنه وأن الحديث الذي احتج به والذي احتج به منازعوه قد اتفقا على هذه الرواية كان ما اتفقا عليه معمولا به بالاتفاق وما في حديثه من الزيادة قد انفرد بها من ذلك الطريق ولم يروها إلا بعض أهل السنن وطعن فيها الأئمة وكانت الزيادة المختلف فيها أحق بالقدح في الأصل المتفق على روايته .

                وأما قوله : فانتهى الناس . فهذا إذا كان من كلام الزهري كان تابعا فإن الزهري أعلم التابعين في زمنه بسنة رسول الله [ ص: 319 ] صلى الله عليه وسلم وهذه المسألة مما تتوفر الدواعي والهمم على نقل ما كان يفعل فيها خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليس ذلك مما ينفرد به الواحد والاثنان فجزم الزهري بهذا من أحسن الأدلة على أنهم تركوا القراءة خلفه حال الجهر بعدما كانوا يفعلونه وهذا يؤيد ما تقدم ذكره ويوافق قوله : ( { وإذا قرأ فأنصتوا } ولم يستثن فاتحة ولا غيرها . وتحقق أن تلك الزيادة إما ضعيفة الأصل أو لم يحفظ راويها لفظها وأن معناها كان مما يوافق سائر الروايات وإلا فلا يمكن تغيير الأصول الكلية الثابتة في الكتاب والسنة في هذا الأمر المحتمل . والله أعلم .

                وتمام القول في ذلك يتضح بما رواه مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين : " { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر فجعل رجل يقرأ خلفه بسبح اسم ربك الأعلى فلما انصرف قال : أيكم قرأ ؟ أو أيكم القارئ ؟ قال رجل : أنا فقال : قد ظننت أن بعضكم خالجنيها } ففي هذا الحديث أن منهم من قرأ خلفه في صلاة السر بزيادة على الفاتحة ومع ذلك لم ينههم عن ذلك وذلك إقرار منه لهم على القراءة خلفه بالزيادة على الفاتحة في صلاة السر خلافا لمن قال لا يقرأ خلفه بحال أو لا يقرأ بزيادة على الفاتحة .

                وقوله : " { قد ظننت أن بعضكم خالجنيها } ليس فيه نهي عن أصل [ ص: 320 ] القراءة وإنما يفهم منه أنه لا ينبغي للمأموم أن يرفع حسه بحيث يخالج الإمام كما يفعل بعض المأمومين وكما قد يفعل الإمام . كما قال أبو قتادة : كان يسمعنا الآية أحيانا .

                وفيه أيضا : دليل على أنه لم يأمرهم بالقراءة خلفه في السر لا بالفاتحة ولا غيرها . إذ لو كان أمرهم بذلك لم ينكر القراءة خلفه وهو لم ينكر قراءة سورة معينة بل قال : " { أيكم قرأ أو أيكم القارئ ؟ } بل من المعلوم في العادة أن القارئ خلفه لم يقرأ بسبح إلا بعد الفاتحة فهذا يدل على أنه لا تجب القراءة على المأموم في السر لا بالفاتحة ولا غيرها .

                كما يدل على ذلك حديث أبي بكر لما استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة حين ذهب يصلح بين بني عمرو بن عوف ثم رجع يقرأ من حيث انتهى أبو بكر وكما في حديث أبي بكرة الذي رواه البخاري في صحيحه لما ركع دون الصف ثم دخل في الصلاة وقال له النبي صلى الله عليه وسلم " { زادك الله حرصا ولا تعد } ولو كانت قراءة الفاتحة فرضا على المأموم مطلقا لم تسقط بسبق ولا جهل . كما أن الأعرابي المسيء في صلاته قال له : " { ارجع فصل فإنك لم تصل } وأمر الذي صلى خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة .

                [ ص: 321 ] وأيضا فتحمل الإمام القراءة عن المأموم لا يمنع أن يكون للمأموم أن يقرأ فيأتي هو بالكمال في ذلك فإن ذلك خير من السكوت الذي لا استماع معه وهذا أمر معلوم متيقن من الشريعة أن القارئ للقرآن أفضل من الساكت الذي لا يستمع قراءة غيره وهو داخل في قوله : " { من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف } فكراهة هذا العمل الصالح الذي يحبه الله ورسوله لا وجه له أصلا وهذا بخلاف المستمع فإن استماعه يقوم مقام قراءته .

                ودليل ذلك اتفاقهم على أنه مأمور حال القراءة المستحبة بالإنصات إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب وأنه مكروه لهم القراءة حال الاستماع فلولا أن الاستماع كالقراءة بل وأفضل لم يكن مأمورا بالإنصات منهيا عن القراءة فإن الله لا يأمر بالأدنى وينهى عن الأفضل .

                ومما يؤيد ذلك قوله في حديث عبادة " { فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن } فإنما نهاهم عن القراءة إذا جهر وكذلك قول الزهري : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                [ ص: 322 ] وهذا المفسر يقيد المطلق في اللفظ الآخر . قال : " { تقرءون خلف إمامكم ؟ قلنا : نعم قال : فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب } يعني في الجهر . ويبين أيضا ما رواه أحمد في المسند عن عبد الله بن مسعود قال : { كانوا يقرءون خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : خلطتم علي القرآن } فهذا يكون في صلاة جهر أو في صلاة سر رفع المأموم فيها صوته حتى سمعه الإمام وإلا فالمأموم الذي يقرأ سرا في نفسه لا يخلط على الإمام ولا يخلط عليه الإمام ; بخلاف المأموم الذي يقرأ حال قراءة الإمام فإن الإمام قطعا يخلط عليه حتى إن من المأمومين من يعيد الفاتحة مرات لأن صوت الإمام يشغله قطعا .

                بل إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل المأموم يخلط عليه ويلبس ويخالج الإمام فكيف بالإمام في حال جهره مع المأموم والمأموم يلبس على المأموم حال الجهر ; لأنه إذا جهر وحده كان أدنى حس يلبس عليه ويثقل عليه القراءة فإن لم تكن الأصوات هادئة هدوءا تاما وإلا ثقلت عليه القراءة ولبس عليه وهذا أمر محسوس .

                ولهذا تجد الذين يشهدون سماع القصائد سماع المكاء والتصدية يشوشون بأدنى حس وينكرون على من يشوش . وكذلك من قرأ القرآن خارج الصلاة فإنه يشوش عليه بأدنى حس فكيف من يقرأ في الصلاة ولو قرأ قارئ خارج الصلاة على جماعة وهم لا ينصتون له بل [ ص: 323 ] يقرءون لأنفسهم لتشوش عليه . فقد تبين بالأدلة السمعية والقياسية القول المعتدل في هذه المسألة والله أعلم .

                والآثار المروية عن الصحابة في هذا الباب تبين الصواب فعن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام . فقال : " لا قراءة مع الإمام في شيء " رواه مسلم . ومعلوم أن زيد بن ثابت من أعلم الصحابة بالسنة وهو عالم أهل المدينة فلو كانت القراءة بالفاتحة أو غيرها حال الجهر مشروعة لم يقل لا قراءة مع الإمام في شيء .

                وقوله : " مع الإمام " إنما يتناول من قرأ معه حال الجهر . فأما حال المخافتة فلا هذا يقرأ مع هذا ولا هذا مع هذا وكلام زيد هذا ينفي الإيجاب والاستحباب ويثبت النهي والكراهة .

                وعن وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل ; إلا وراء الإمام . رواه مالك في الموطإ . وجابر آخر من مات من الصحابة بالمدينة وهو من أعيان تلك الطبقة وروى مالك أيضا عن نافع عن عبد الله بن عمر كان إذا سئل : هل يقرأ أحد خلف الإمام ؟ يقول : إذا صلى أحدكم [ ص: 324 ] خلف الإمام فحسبه قراءة الإمام وإذا صلى وحده فليقرأ . قال : وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإمام وابن عمر من أعلم الناس بالسنة وأتبعهم لها .

                ولو كانت القراءة واجبة على المأموم لكان هذا من العلم العام الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم بيانا عاما ولو بين ذلك لهم لكانوا يعملون به عملا عاما ولكان ذلك في الصحابة لم يخف مثل هذا الواجب على ابن عمر حتى يتركه مع كونه واجبا عام الوجوب على عامة المصلين قد بين بيانا عاما بخلاف ما يكون مستحبا فإن هذا قد يخفى .

                وروى البيهقي عن أبي وائل أن رجلا سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام فقال : أنصت للقرآن فإن في الصلاة لشغلا وسيكفيك ذاك الإمام . فقول ابن مسعود هذا يبين أنه إنما نهاه عن القراءة خلف الإمام ; لأجل الإنصات . والاشتغال به لم ينهه إذا لم يكن مستمعا كما في صلاة السر وحال السكتات . فإن المأموم حينئذ لا يكون منصتا ولا مشتغلا بشيء . وهذا حجة على من خالف ابن مسعود من الكوفيين ومبين لما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم .

                [ ص: 325 ] وحديث جابر الذي تقدم قد روي مرفوعا ومسندا ومرسلا فأما الموقوف على جابر فثابت بلا نزاع وكذلك المرسل ثابت بلا نزاع من رواية الأئمة عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة } وأما المسند فتكلم فيه . رواه ابن ماجه من حديث جابر الجعفي عن جابر بن عبد الله . وجابر الجعفي كذبه أيوب وزائدة ووثقه الثوري وسعيد وقال ابن معين : لا يكتب حديثه ولا كرامة ليس بشيء . وقال النسائي متروك . وروى أبو داود عن أحمد أنه قال : لم يتكلم في جابر لحديثه إنما تكلم فيه لرأيه . قال أبو داود ليس عندي بالقوي من حديثه وقوله " { فقراءة الإمام له قراءة } لا تدل على أنه لا يستحب للمأموم القراءة كما احتج بذلك من احتج به من الكوفيين فإن قوله : " { قراءة الإمام له قراءة } دليل على أن له أن يجتزئ بذلك وأن الواجب يسقط عنه بذلك لا يدل على أنه ليس له أن يقرأ كما في مواضع كثيرة وله أن يسقط الواجب بفعل غيره وله أن يفعله هو بنفسه . وكذلك المستحب . وأقصى ما يقدر أن يكون هو كأنه قد قرأ .

                ثم إن أذكار الصلاة واجبها ومستحبها إذا فعلها العبد مرة لم [ ص: 326 ] يكره له أن يفعلها في محلها مرة ثانية لغرض صحيح مع أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " { الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا } وكان النبي صلى الله عليه وسلم يردد الآية الواحدة كما ردد قوله : { إن تعذبهم فإنهم عبادك } آخر ما وجد والحمد لله وحده وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم .



                [ ص: 327 ] وقال أيضا فصل وأما القراءة خلف الإمام : فالناس فيها طرفان ووسط .

                منهم : من يكره القراءة خلف الإمام حتى يبلغ بها بعضهم إلى التحريم سواء في ذلك صلاة السر والجهر وهذا هو الغالب على أهل الكوفة ومن اتبعهم : كأصحاب أبي حنيفة .

                ومنهم من يؤكد القراءة خلف الإمام حتى يوجب قراءة الفاتحة وإن سمع الإمام يقرأ وهذا هو الجديد من قولي الشافعي وقول طائفة معه .

                ومنهم من يأمر بالقراءة في صلاة السر وفي حال سكتات الإمام في صلاة الجهر والبعيد الذي لا يسمع الإمام . وأما القريب الذي يسمع قراءة الإمام فيأمرونه بالإنصات لقراءة إمامه ; إقامة للاستماع مقام التلاوة . وهذا قول الجمهور : كمالك وأحمد وغيرهم [ ص: 328 ] من فقهاء الأمصار وفقهاء الآثار . وعليه يدل عمل أكثر الصحابة وتتفق عليه أكثر الأحاديث .

                وهذا الاختلاف شبيه باختلافهم في صلاة المأموم : هل هي مبنية على صلاة الإمام ؟ أم كل واحد منهما يصلي لنفسه ؟ كما تقدم التنبيه عليه . فأصل أبي حنيفة أنها داخلة فيها ومبنية عليها مطلقا حتى أنه يوجب الإعادة على المأموم حيث وجبت الإعادة على الإمام . وأصل الشافعي : أن كل رجل يصلي لنفسه لا يقوم مقامه لا في فرض ولا سنة ; ولهذا أمر المأموم بالتسميع وأوجب عليه القراءة ولم يبطل صلاته بنقص صلاة الإمام إلا في مواضع مستثناة كتحمل الإمام عن المأموم سجود السهو وتحمل القراءة إذا كان المأموم مسبوقا وإبطال صلاة القارئ خلف الأمي ونحو ذلك . وأما مالك وأحمد : فإنها مبنية عليها من وجه دون وجه . كما ذكرناه من الاستماع للقراءة في حال الجهر والمشاركة في حال المخافتة ولا يقول المأموم عندهما سمع الله لمن حمده بل يحمد جوابا لتسميع الإمام كما دلت عليه النصوص الصحيحة وهي مبنية عليها . فيما يعذران فيه دون ما لا يعذران كما تقدم في الإمامة .




                الخدمات العلمية