الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 168 ] وأما ما تضمنته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المقام بمنى يوم التروية والمبيت بها الليلة التي قبل يوم عرفة . ثم المقام بعرنة - التي بين المشعر الحرام وعرفة - إلى الزوال . والذهاب منها إلى عرفة والخطبة والصلاتين في أثناء الطريق ببطن عرنة : فهذا كالمجمع عليه بين الفقهاء وإن كان كثير من المصنفين لا يميزه وأكثر الناس لا يعرفه لغلبة العادات المحدثة .

                ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جمع بالمسلمين جميعهم بعرفة بين الظهر والعصر وبمزدلفة بين المغرب والعشاء . وكان معه خلق كثير ممن منزله دون مسافة القصر من أهل مكة وما حولها . ولم يأمر حاضري المسجد الحرام بتفريق كل صلاة في وقتها ولا أن يعتزل المكيون ونحوهم فلم يصلوا معه العصر وأن ينفردوا فيصلوها في أثناء الوقت دون سائر المسلمين . فإن هذا مما يعلم بالاضطرار لمن تتبع الأحاديث أنه لم يكن . وهو قول مالك وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وعليه يدل كلام أحمد .

                وإنما غفل قوم من أصحاب الشافعي وأحمد عن هذا فطردوا قياسهم في الجمع . واعتقدوا أنه إنما جمع لأجل السفر والجمع للسفر لا يكون إلا لمن سافر ستة عشر فرسخا وحاضروا مكة ليسوا عن عرنة بهذا البعد .

                [ ص: 169 ] وهذا ليس بحق . فإنه لو كان جمعه لأجل السفر لجمع قبل هذا اليوم وبعده . وقد أقام بمنى أيام التشريق ولم يجمع فيها لا سيما أنه لم ينقل عنه أنه جمع في السفر وهو نازل إلا مرة واحدة وإنما كان يجمع في السفر إذا جد به السير وإنما جمع لنحو الوقوف لأجل ألا يفصل بين الوقوف بصلاة ولا غيرها . كما قال أحمد : إنه يجوز الجمع لأجل ذلك من الشغل المانع من تفريق الصلوات .

                ومن اشترط في هذا الجمع السفر من أصحاب أحمد فهو أبعد عن أصوله من أصحاب الشافعي . فإن أحمد يجوز الجمع لأمور كثيرة غير السفر حتى قال القاضي أبو يعلى وغيره - تفسيرا لقول أحمد : إنه يجمع لكل ما يبيح ترك الجماعة - فالجمع ليس من خصائص السفر . وهذا بخلاف القصر فإنه لا يشرع إلا للمسافر .

                ولهذا قال أكثر الفقهاء كالشافعي وأحمد : إن قصر الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى وأيام التشريق : لا يجوز إلا للمسافر الذي يباح له القصر عندهم طردا للقياس واعتقادا أن القصر لم يكن إلا للسفر بخلاف الجمع حتى أمر أحمد وغيره : أن الموسم لا يقيمه أمير مكة ; لأجل قصر الصلاة .

                وذهب طوائف من أهل المدينة وغيرهم - منهم مالك وطائفة [ ص: 170 ] من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي الخطاب في عباداته الخمس - إلى أنه يقصر المكيون وغيرهم وأن القصر هناك لأجل النسك .

                والحجة مع هؤلاء : أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من صلى خلفه بعرفة ومزدلفة ومنى من المكيين أن يتموا الصلاة كما أمرهم أن يتموا لما كان يصلي بهم بمكة أيام فتح مكة حين قال لهم : { أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر }

                . فإنه لو كان المكيون قد قاموا لما صلوا خلفه الظهر فأتموها أربعا ثم لما صلوا العصر قاموا فأتموها أربعا ثم لما صلوا خلفه عشاء الآخرة قاموا فأتموها أربعا ثم كانوا مدة مقامه بمنى يتمون خلفه - لما أهمل الصحابة نقل مثل هذا .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية