الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                هذا آخر ما أجاب به شيخ الإسلام والله سبحانه وتعالى أعلم . وله من الكلام في مثل هذا كثير كما أشار إليه في الجواب .

                ولما ظفروا في دمشق بهذا الجواب كتبوه وبعثوا به إلى الديار المصرية وكتب عليه قاضي الشافعية : قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية . فصح - إلى أن قال : وإنما المحرف جعله : زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الأنبياء رضوان الله تعالى عليهم أجمعين معصية بالإجماع مقطوع بها هذا كلامه . فانظر إلى هذا التحريف على شيخ الإسلام والجواب ليس فيه المنع من زيارة قبور الأنبياء والصالحين وإنما ذكر فيه قولين : في شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور . [ ص: 193 ] وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة . وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى .

                والشيخ لا يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل بل يستحبها ويندب إليها . وكتبه ومناسكه تشهد بذلك ولم يتعرض الشيخ إلى هذه الزيارة في الفتيا ولا قال : إنها معصية ولا حكى الإجماع على المنع منها . والله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية .

                ولما وصل خط القاضي المذكور إلى الديار المصرية كثر الكلام وعظمت الفتنة وطلب القضاة بها فاجتمعوا وتكلموا وأشار بعضهم بحبس الشيخ . فرسم السلطان به . وجرى ما تقدم ذكره ثم جرى بعد ذلك أمور على القائمين في هذه القضية لا يمكن ذكرها في هذا الموضع .

                وقد وصل ما أجاب به الشيخ في هذه المسألة إلى علماء بغداد فقاموا في الانتصار له وكتبوا بموافقته ورأيت خطوطهم بذلك . وهذا صورة ما كتبوا :

                [ ص: 194 ] بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الفقير إلى الله تعالى : - بعد حمد الله السابغة نعمه السابقة مننه . والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين : محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . إنه حيث قد من الله تعالى على عباده وتفضل برحمته على بلاده بأن وسد أمور الأمة المحمدية وأسند أزمة الملة الحنيفية إلى من خصصه الله تعالى بأفضل الكمالات النفسانية وخصصه بأكمل السعادات الروحانية محيي سنن العدل ومبدي سنن الفضل المعتصم بحبل الله المتوكل على الله المكتفي بنعم الله القائم بأوامر الله المستظهر بقوة الله المستضيء بنور الله أعز الله سلطانه وأعلى على سائر الملوك شانه ولا زالت رقاب الأمم خاضعة لأوامره وأعناق العباد طائعة لمراسمه ولا زال موالي دولته بطاعته مجبورا ومعادي صولته بخزيه مذموما مدحورا .

                فالمرجو من ألطاف الحضرة المقدسة - زادها الله تعالى علوا وشرفا - أن يكون للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء وصفوة الأصفياء [ ص: 195 ] وعماد الدين ومدار أهل اليقين : حظ من العناية السلطانية وافر ونصيب من الرحمة والشفقة فإنها منقبة لا يعادلها فضيلة وحسنة لا يحيطها سيئة لأنها حقيقة التعظيم لأمر الله تعالى وخلاصة الشفقة على خلق الله تعالى .

                ولا ريب أن المملوك وقف على ما سئل عنه الشيخ الإمام العلامة وحيد دهره وفريد عصره تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية وما أجاب به . فوجدته خلاصة ما قاله العلماء في هذا الباب حسب ما اقتضاه الحال : من نقله الصحيح وما أدى إليه البحث من الإلزام والالتزام لا يداخله تحامل ولا يعتريه تجاهل . وليس فيه - والعياذ بالله - ما يقتضي الإزراء والتنقيص بمنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم .

                وكيف يجوز للعلماء أن تحملهم العصبية : أن يتفوهوا بالإزراء والتنقيص في حق الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وهل يجوز أن يتصور متصور : أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم تزيد في قدره وهل تركها مما ينقص من تعظيمه ؟ حاشا للرسول من ذلك .

                نعم لو ذكر ذلك ذاكر ابتداء وكان هناك قرائن تدل على الإزراء والتنقيص أمكن حمله على ذلك . مع أنه كان يكون كناية لا صريحا [ ص: 196 ] فكيف وقد قاله في معرض السؤال وطريق البحث والجدل ؟ ؟ .

                مع أن المفهوم من كلام العلماء وأنظار العقلاء : أن الزيارة ليست عبادة وطاعة لمجردها حتى لو حلف : أنه يأتي بعبادة أو طاعة لم يبر بها ; لكن القاضي ابن كج - من متأخري أصحابنا - ذكر أن نذر هذه الزيارة عنده قربة تلزم ناذرها . وهو منفرد به لا يساعده في ذلك نقل صريح ولا قياس صحيح . والذي يقتضيه مطلق الخبر النبوي في قوله صلى الله عليه وسلم { لا تشد الرحال } - إلى آخره " أنه لا يجوز شد الرحال إلى غير ما ذكر أو وجوبه أو ندبيته . فإن فعله كان مخالفا لصريح النهي ومخالفة النهي معصية - إما كفر أو غيره - على قدر المنهي عنه ووجوبه وتحريمه وصفة النهي والزيارة أخص من وجه . فالزيارة بغير شد غير منهي عنها ومع الشد منهي عنها .

                وبالجملة فما ذكره الشيخ تقي الدين على الوجه المذكور الموقوف عليه لم يستحق عليه عقابا ولا يوجب عتابا .

                والمراحم السلطانية أحرى بالتوسعة والنظر بعين الرأفة والرحمة إليه وللآراء الملكية علو المزيد . حرره ابن الكتبي الشافعي . حامدا لله على نعمه . ا هـ

                [ ص: 197 ] جواب آخر الله الموفق ما أجاب به الشيخ الأجل الأوحد بقية السلف وقدوة الخلف رئيس المحققين وخلاصة المدققين ; تقي الملة والحق والدين : من الخلاف في هذه المسألة : صحيح منقول في غير ما كتاب من كتب أهل العلم لا اعتراض عليه في ذلك إذ ليس في ذلك ثلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غض من قدره صلى الله عليه وسلم .

                وقد نص الشيخ أبو محمد الجويني في كتبه على تحريم السفر لزيارة القبور . وهذا اختيار القاضي الإمام عياض بن موسى بن عياض في إكماله . وهو من أفضل المتأخرين من أصحابنا .

                ومن المدونة : ومن قال : علي المشي إلى المدينة أو بيت المقدس فلا يأتيهما أصلا إلا أن يريد الصلاة في مسجديهما فليأتهما . فلم يجعل نذر زيارة قبره صلى الله عليه وسلم طاعة يجب الوفاء بها ; إذ من أصلنا : أن من نذر طاعة لزمه الوفاء بها [ ص: 198 ] كان من جنسها ما هو واجب بالشرع كما هو مذهب أبي حنيفة أو لم يكن .

                قال القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق عقيب هذه المسألة : ولولا الصلاة فيهما لما لزمه إتيانهما ولو كان نذر زيارة طاعة لما لزمه ذلك .

                وقد ذكر ذلك القيرواني في تقريبه والشيخ ابن سيرين في تنبيهه . وفي المبسوط : قال مالك : ومن نذر المشي إلى مسجد من المساجد ليصلي فيه . قال : فإني أكره ذلك له . لقوله صلى الله عليه وسلم { لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجد بيت المقدس ومسجدي هذا } . وروى محمد بن المواز في الموازية : إلا أن يكون قريبا فيلزمه الوفاء لأنه ليس بشد رحل . وقد قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتابه " التمهيد " : يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد .

                وحيث تقرر هذا فلا يجوز أن ينسب من أجاب في هذه المسألة بأنه سفر منهي عنه إلى الكفر فمن كفره بذلك من غير موجب فإن كان مستبيحا ذلك فهو كافر ; وإلا فهو فاسق .

                قال الإمام أبو عبد الله محمد بن علي المازري في كتاب " المعلم " : [ ص: 199 ] من كفر أحدا من أهل القبلة فإن كان مستبيحا ذلك فقد كفر وإلا فهو فاسق . يجب على الحاكم إذا رفع أمره إليه أن يؤدبه ويعزره بما يكون رادعا لأمثاله فإن ترك مع القدرة عليه فهو آثم . والله تعالى أعلم . كتبه محمد بن عبد الرحمن البغدادي الخادم للطائفة المالكية بالمدرسة الشريفة المستنصرية . رحمة الله على منشئها .

                وأجاب غيره فقال : الحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد . وعلى آله الطاهرين . ما ذكره مولانا الإمام العالم العامل جامع الفضائل والفوائد بحر العلوم ومنشأ الفضل جمال الدين كاتب خطه إمام خطي هذا جمل الله به الإسلام وأسبغ عليه سوابغ الإنعام أتى فيه بالحق الجلي الواضح وأعرض فيه عن إغضاء المشايخ إذ السؤال والجواب اللذان تقدماه لا يخفى على ذي فطنة وعقل أنه أتى في الجواب المطابق للسؤال بحكاية أقوال العلماء الذين تقدموه ولم يبق عليه في ذلك إلا أن يعترضه معترض في نقله فيبرزه [ ص: 200 ] له من كتب العلماء الذين حكى أقوالهم . والمعترض له بالتشنيع إما جاهل لا يعلم ما يقول أو متجاهل يحمله حسده وحمية الجاهلية على رد ما هو عند العلماء مقبول أعاذنا الله تعالى من غوائل الحسد وعصمنا من مخائل النكد بمحمد وآله الطيبين الطاهرين ; والحمد لله رب العالمين . كتبه الفقير إلى عفو ربه ورضوانه . عبد المؤمن بن عبد الحق الخطيب . غفر الله له وللمسلمين أجمعين .

                وأجاب غيره فقال بعد حمد الله الذي هو فاتح كل كلام والصلاة والسلام على رسوله محمد خير الأنام وعلى آله وأصحابه البررة الكرام أعلام الهدى ومصابيح الظلام . يقول أفقر عباد الله وأحوجهم إلى عفوه : ما حكاه الشيخ الإمام البارع الهمام افتخار الأنام جمال الإسلام ركن الشريعة ناصر السنة قامع البدعة جامع أشتات الفضائل قدوة العلماء الأماثل في هذا الجواب من أقوال العلماء والأئمة النبلاء - رحمة الله عليهم [ ص: 201 ] أجمعين - بين لا يدفع . ومكشوف لا يتقنع . بل أوضح من النيرين وأظهر من فرق الصبح لذي عينين . والعمدة في هذه المسألة : الحديث المتفق على صحته . ومنشأ الخلاف بين العلماء من احتمالي صيغته .

                وذلك : أن صيغة قوله صلى الله عليه وسلم { لا تشد الرحال } ذات وجهين نفي ونهي . لاحتمالهما . فإن لحظ معنى النفي فمقتضاه : نفي فضيلة واستحباب شد الرحال وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة ; إذ لو فرض وقوعهما لامتنع رفعهما . فتعين توجه النفي إلى فضيلتهما واستحبابهما دون ذاتهما وهذا عام في كل ما يعتقد أن إعمال المطي وشد الرحال إليه قربة وفضيلة : من المساجد وزيارة قبور الصالحين وما جرى هذا المجرى بل أعم من ذلك . وإثبات ذلك بدليل ضرورة إثبات ذلك المنفي المقدر في صدر الجملة لما بعد " إلا " . وإلا لما افترق الحكم بين ما قبلها وما بعدها وهو مفترق حينئذ : لا يلزم من نفي الفضيلة والاستحباب نفي الإباحة . فهذا وجه متمسك من قال بإباحة هذا السفر بالنظر إلى أن هذه الصيغة نفي وبني على ذلك جواز القصر .

                وإن كان النهي ملحوظا . فالمعنى نهيه عن إعمال المطي وشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة ; إذ المقرر عند عامة الأصوليين أن النهي عن الشيء قاض بتحريمه أو كراهته على حسب مقتضى الأدلة . [ ص: 202 ] فهذا وجه متمسك من قال بعدم جواز القصر في هذا السفر لكونه منهيا عنه . وممن قال بحرمته : الشيخ الإمام أبو محمد الجويني من الشافعية والشيخ أبو الوفاء ابن عقيل من الحنابلة وهو الذي أشار القاضي عياض من المالكية إلى اختياره .

                وما جاء من الأحاديث في استحباب زيارة القبور فمحمول على ما لم يكن فيه شد رحل وإعمال مطي جمعا بينهما .

                ويحتمل أن يقال : لا يصلح أن يكون غير حديث { لا تشد الرحال } معارضا له لعدم مساواته إياه في الدرجة . لكونه من أعلى أقسام الصحيح . والله أعلم .

                وقد بلغني أنه رزئ وضيق على المجيب . وهذا أمر يحار فيه اللبيب ويتعجب منه الأريب ; ويقع به في شك مريب .

                فإن جوابه في هذه المسألة قاض بذكر خلاف العلماء . وليس حاكما بالغض من الصالحين والأنبياء . فإن الأخذ بمقتضى كلامه صلوات الله وسلامه عليه في الحديث المتفق على صحة رفعه إليه : هو الغاية القصوى في تتبع أوامره ونواهيه والعدول عن ذلك محذور وذلك مما لا مرية فيه .

                وإذا كان كذلك فأي حرج على من سئل عن مسألة فذكر فيها [ ص: 203 ] خلاف الفقهاء ومال فيها إلى بعض أقوال العلماء ؟ فإن الأمر لم يزل كذلك على مر العصور وتعاقب الدهور .

                وهل ذلك محمول من القادح إلا على امتطاء نضو الهوى المفضي بصاحبه إلى التوى فإن من يقتبس من فوائده ويلتقط من فرائده لحقيق بالتعظيم وخليق بالتكريم : ممن له الفهم السليم والذهن المستقيم . وهل حكم المظاهر عليه في الظاهر إلا كما قيل في المثل السائر الشعير يؤكل ويذم . وقول الشاعر :

                جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر وحسن فعل كما يجزى سنمار

                وقول غيره :

                وحديث ألذه وهو مما     ينعت الناعتون يوزن وزنا
                منطق رائع . ويلحن أحيانا      . وخير الحديث ما كان لحنا

                وقال الله تعالى : { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } [ ص: 204 ] وقال تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا } { يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما } وقال تعالى : { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } . ولولا خشية الملالة لما نكبت عن الإطالة . نسأل الله الكريم أن يسلك بنا وبكم سبيل الهداية وأن يجنبنا وإياكم مسلك الغواية . إنه على كل شيء قدير . وبالإجابة جدير . وحسبنا الله ونعم الوكيل ونعم النصير . والحمد لله رب العالمين وصلوات الله وسلامه على سيد المرسلين محمد النبي وآله الطاهرين وأصحابه الكرام المنتخبين . هذا جواب الشيخ الإمام العلامة جمال الدين يوسف بن عبد المحمود بن عبد السلام بن البتي الحنبلي رحمه الله تعالى . قال المؤلف : ومن خطه نقلت .

                [ ص: 205 ] جواب آخر لبعض علماء أهل الشام المالكية الحمد لله وهو حسبي . السفر إلى غير المساجد الثلاثة ليس بمشروع . وأما من سافر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي فيه ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضي الله عنهما فمشروع كما ذكر باتفاق العلماء .

                وأما لو قصد إعمال المطي لزيارته صلى الله عليه وسلم ولم يقصد الصلاة فهذا السفر إذا ذكر رجل فيه خلافا للعلماء : وأن منهم من قال إنه منهي عنه : ومنهم من قال : إنه مباح . وأنه على القولين ليس بطاعة ولا قربة فمن جعله طاعة وقربة على مقتضى هذين القولين كان حراما بالإجماع وذكر حجة كل قول منهما أو رجح أحد القولين . لم يلزمه ما يلزم من تنقص إذ لا تنقص ولا إزراء بالنبي صلى الله عليه وسلم .

                [ ص: 206 ] وقد قال مالك رحمه الله لسائل سأله : أنه نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إن كان أراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليأته وليصل فيه . وإن كان أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء { لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد } والله أعلم . كتبه أبو عمرو بن أبي الوليد المالكي . كذلك يقول عبد الله بن أبي الوليد المالكي . قال المؤلف رحمه الله نقلت هذه الأجوبة كلها من خط المفتين بها .

                قال : ووقفت على كتاب ورد مع أجوبة أهل بغداد وصورته : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ناصر الملة الإسلامية ومعز الشريعة المحمدية بدوام أيام الدولة المباركة السلطانية . المالكية الناصرية ; ألبسها الله تعالى لباس العز المقرون بالدوام وحلاها بحلية النصر المستمر بمرور الليالي والأيام والصلاة والسلام على النبي المبعوث إلى جميع الأنام ; صلى الله عليه وعلى آله البررة الكرام . [ ص: 207 ] اللهم إن بابك لم يزل مفتوحا للسائلين ورفدك ما برح مبذولا للوافدين من عودته مسألتك وحدك لم يسأل أحدا سواك ومن منحته منائح رفدك لم يفد على غيرك ولم يحتم إلا بحماك . أنت الرب العظيم الكريم الأكرم قصد باب غيرك على عبادك محرم . أنت الذي لا إله غيرك ولا معبود سواك عز جارك وجل ثناؤك وتقدست أسماؤك وعظم بلاؤك ولا إله غيرك . ولم تزل سنتك في خلقك جارية بامتحان أوليائك وأحبابك تفضلا منك عليهم وإحسانا من لدنك إليهم . ليزدادوا لك في جميع الحالات ذكرا ولإنعامك في جميع التقلبات شكرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } . اللهم وأنت العالم الذي لا تعلم وأنت الكريم الذي لا تبخل قد علمت يا عالم السر والعلانية أن قلوبنا لم تزل ترفع إخلاص الدعاء صادقة وألسنتنا في حالتي السر والعلانية ناطقة . أن تسعفنا بإمداد هذه الدولة المباركة الميمونة السلطانية الناصرية . بمزيد العلا والرفعة والتمكين وأن تحقق آمالنا فيها بإعلاء الكلمة في ذلك برفع قواعد دعائم الدين وقمع مكايد الملحدين . لأنها الدولة التي برئت من غشيان الجنف والحيف وسلمت من طغيان القلم والسيف . والذي ينطوي عليه ضمائر المسلمين ويشتمل عليه سرائر المؤمنين : [ ص: 208 ] أن السلطان الملك الناصر للدين ممن قال فيه رب العالمين وإله السموات والأرضين : الذي بتمكينه في أرضه حصل التمكين لملوك الأرض وعظماء السلاطين في كتابه العزيز الذي يتلى فمن شاء فليتدبر : { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } وهو ممن مكنه الله تعالى في الأرض تمكينا يقينا لا ظنا وهو ممن يعنى بقوله تعالى { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا } . والذي عهده المسلمون وتعوده المؤمنون من المراحم الكريمة والعواطف الرحيمة : إكرام أهل الدين وإعظام علماء المسلمين . والذي حمل على رفع هذه الأدعية الصريحة إلى الحضرة الشريفة - وإن كانت لم تزل مرفوعة إلى الله سبحانه بالنية الصحيحة - قوله صلى الله عليه وسلم { الدين النصيحة قيل : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم } وقوله صلى الله عليه وسلم { إنما الأعمال بالنيات } فهذان الحديثان مشهوران بالصحة ومستفيضان في الأمة . [ ص: 209 ] ثم إن هذا الشيخ المعظم الجليل والإمام المكرم النبيل : أوحد الدهر وفريد العصر ; طراز المملكة الملكية وعلم الدولة السلطانية لو أقسم مقسم بالله العظيم القدير : أن هذا الإمام الكبير ليس له في عصره مماثل ولا نظير لكانت يمينه برة غنية عن التكفير وقد خلت من وجود مثله السبع الأقاليم إلا هذا الإقليم يوافق على ذلك كل منصف جبل على الطبع السليم . ولست بالثناء عليه أطريه بل لو أطنب مطنب في مدحه والثناء عليه لما أتى على بعض الفضائل التي هي فيه : أحمد ابن تيمية درة يتيمة يتنافس فيها تشترى ولا تباع ليس في خزائن الملوك درة تماثلها وتؤاخيها انقطعت عن وجود مثله الأطماع . ولقد أصم الأسماع وأوهى قوى المتبوعين والأتباع : سماع رفع أبي العباس - أحمد ابن تيمية - إلى القلاع . وليس يقع من مثله أمر ينقم منه عليه إلا أنه يكون أمرا قد لبس عليه ونسب إلى ما ينسب مثله إليه . والتطويل على الحضرة العالية لا يليق إن يكن في الدنيا قطب فهو القطب على التحقيق قد نصب الله السلطان أعلى الله شأنه في هذا الزمان منصب يوسف الصديق صلى الله على نبينا وعليه لما صرف الله وجوه أهل البلاد إليه حين أمحلت البلاد واحتاج أهلها إلى القوت المدخر لديه . والحاجة بالناس الآن إلى قوت الأرواح المشار في ذلك الزمان إليها لا خفاء [ ص: 210 ] أنها للعلوم الشريفة والمعاني اللطيفة . وقد كانت في بلاد المملكة السلطانية - حرسها الله تعالى - تكال إلينا جزافا بغير أثمان منحة عظيمة من الله للسلطان ونعمة جسيمة إذ خص بلاد مملكته وإقليم دولته بما لا يوجد في غيرها من الأقاليم والبلدان وكان قد وفد الوافدون من سائر الأمصار إلى تلك الديار ; فوجدوا صاحب صواع الملك قد رفع إلى القلاع ومثل هذه الميزة لا توجد في غير تلك البلاد لتشترى أو تباع فصادف ذلك جدب الأرض ونواحيها جدبا أعطب أهاليها حتى صاروا من شدة حاجتهم إلى الأقوات كالأموات والذي عرض للملك بالتضييق على صاحب صواعه مع شدة الحاجة إلى غذاء الأرواح لعله لم يتحقق عنده أن هذا الإمام من أكابر الأولياء وأعيان أهل الصلاح وهذه نزغة من نزغات الشيطان قال الله سبحانه : { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا } . وأما إزراء بعض العلماء عليه في فتواه وجوابه عن مسألة شد الرحال إلى القبور . فقد حمل جواب علماء هذه البلاد إلى نظرائهم من العلماء وقرنائهم من الفضلاء وكلهم أفتى : أن الصواب في الذي به أجاب . [ ص: 211 ] والظاهر بين الأنام أن إكرام هذا الإمام ومعاملته بالتبجيل والاحترام فيه قوام الملك ونظام الدولة وإعزاز الملة ; واستجلاب الدعاء وكبت الأعداء وإذلال أهل البدع والأهواء ; وإحياء الأمة وكشف الغمة ووفور الأجر وعلو الذكر ورفع البأس ونفع الناس ولسان حال المسلمين تال قول الكبير المتعال : { فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين } . والبضاعة المزجاة : هي هذه الأوراق المرقومة بالأقلام والميزة المطلوبة : هي الإفراج عن شيخ الإسلام والذي حمل على هذا الإقدام قوله عليه السلام { الدين النصيحة } والسلام . وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الكرام وسلم تسليما . هذا آخر هذا الكتاب

                . قال المؤلف : ووقفت على " كتاب آخر " من بغداد أيضا . صورته : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد النبي [ ص: 212 ] وآله وصحبه أجمعين . اللهم فكما أيدت ملوك الإسلام وولاة الأمور بالقوة والأيد وشيدت لهم ذكرا وجعلتهم للمقهور اللائذ بجنابهم ذخرا وللمكسور العائذ بأكناف بابهم جبرا فاشدد اللهم منهم بحسن معونتك لهم أزرا وأعل لهم جدا وارفع قدرا وزدهم عزا وزودهم على أعدائك نصرا وامنحهم توفيقا مسددا وتمكينا مستمرا . وبعد فإنه لما قرع أسماع أهل البلاد المشرقية والنواحي العراقية . التضييق على شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس " أحمد ابن تيمية " سلمه الله عظم ذلك على المسلمين وشق على ذوي الدين وارتفعت رءوس الملحدين وطابت نفوس أهل الأهواء والمبتدعين ولما رأى علماء أهل هذه الناحية عظم هذه النازلة من شماتة أهل البدع وأهل الأهواء بأكابر الأفاضل وأئمة العلماء : أنهوا حال هذا الأمر الفظيع والأمر الشنيع إلى الحضرة الشريفة السلطانية زادها الله شرفا وكتبوا أجوبتهم في تصويب ما أجاب به الشيخ . سلمه الله في فتاواه وذكروا من علمه وفضائله بعض ما هو فيه وحملوا ذلك إلى بين يدي مولانا ملك الأمراء . أعز الله أنصاره وضاعف اقتداءه غيرة منهم على هذا الدين ونصيحة للإسلام وأمراء المؤمنين . [ ص: 213 ] والآراء المولوية العالية أولى بالتقديم لأنها ممنوحة بالهداية إلى الصراط المستقيم وأفضل الصلاة وأشرف التسليم على النبي الأمي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وسلم تسليما .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية