الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وتنازعوا حينئذ فيمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين هل يقصر الصلاة ؟ على قولين كما ذكر في جواب الفتيا . وبعضهم فرق بين قبور الأنبياء وغيرهم وقال : إن السفر لمجرد زيارة القبور محرم كما هو مذهب مالك وأصحابه وقول المتقدمين من أصحاب الشافعي وأحمد . فهؤلاء عندهم أن العاصي بسفره لا يقصر الصلاة . فعلى قولهم لا تقصر الصلاة ; لكن الذين يسافرون لا يعلمون أن هذا محرم ومن علم أنه محرم لم يفعله فإنه لا غرض لمسلم أن يتقرب إلى الله بالمحرم . وحينئذ فسفرهم الذي لم يعلموا أنه محرم إذا قصروا فيه الصلاة كان ذلك جائزا ولا إعادة عليهم كما لو سافر الرجل لطلب العلم أو سماع الحديث من شخص فوجده كذابا أو جاهلا فإن قصر الصلاة في مثل هذا السفر جائز .

                وقد ذكر أصحاب أحمد في السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين هل تقصر فيها الصلاة ؟ أربعة أقوال : قيل : لا يقصر مطلقا . وقيل : يقصر مطلقا [ ص: 347 ] وقيل : لا يقصر إلا إلى قبر نبينا صلى الله عليه وسلم . وقيل : لا يقصر إلا إلى قبره المكرم وقبور الأنبياء ; دون قبور الصالحين والذين استثنوا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم لقولهم وجهان : أحدهما : - وهو الصحيح - أن السفر المشروع إليه هو السفر إلى مسجده وهذا السفر تقصر فيه الصلاة بإجماع المسلمين . وهؤلاء رأوا مطلق السفر ولم يفصلوا بين قصد وقصد ; إذ كان عامة المسلمين لا بد أن يصلوا في مسجده فكل من سافر إلى قبره المكرم فقد سافر إلى مسجده المفضل . وكذلك قال بعض أصحاب الشافعي : فمن نذر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوفي بنذره وإن نذر قبر غيره فوجهان . وكذلك كثير من العلماء يطلق السفر إلى قبره المكرم . وعندهم أن هذا يتضمن السفر إلى مسجده ; إذ كان كل مسلم لا بد إذا أتى الحجرة المكرمة أن يصلي في مسجده ; فهما عندهم متلازمان . ثم من هؤلاء من يقول : المسلم لا بد أن يقصد في ابتداء السفر الصلاة في مسجده فالسفر المأمور به لازم وهؤلاء لم يسافروا لمجرد القبر . ومنهم من قال : بل السفر لمجرد قصد القبر جائز وظن هؤلاء أن الاستثناء ليس لخصوصه بل لكونه نبيا فقال : تقصر الصلاة في السفر إلى قبور الأنبياء دون غيرهم .

                وحقيقة الأمر : أن فعل الصلاة في مسجده من لوازم هذا السفر [ ص: 348 ] فكل من سافر إلى قبره المكرم لا بد أن تحصل له طاعة وقربة يثاب عليها بالصلاة في مسجده . وأما نفس القصد فأهل العلم بالحديث يقصدون السفر إلى مسجده وإن قصد منهم من قصد السفر إلى القبر أيضا - إذا لم يعلم أنه منهي عنه . وأما من لم يعرف هذا فقد لا يقصد إلا السفر إلى القبر ثم إنه لا بد أن يصلي في مسجده فيثاب على ذلك . وما فعله وهو منهي عنه ولم يعلم أنه منهي عنه لا يعاقب عليه فيحصل له أجر ولا يكون عليه وزر ; بخلاف السفر إلى قبر غيره فإنه ليس عنده شيء يشرع السفر إليه ; لكن قد يفعل هذا طاعة يثاب عليها ويغفر له ما جهل أنه محرم .

                والصلاة في المساجد المبنية على القبور منهي عنها مطلقا ; بخلاف مسجده فإن الصلاة فيه بألف صلاة فإنه أسس على التقوى وكان حرمته في حياته صلى الله عليه وسلم وحياة خلفائه الراشدين قبل دخول الحجرة فيه حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه والمهاجرون والأنصار والعبادة فيه إذ ذاك أفضل وأعظم مما بقي بعد إدخال الحجرة فيه فإنها إنما أدخلت بعد انقراض عصر الصحابة في إمارة الوليد بن عبد الملك وهو تولى سنة بضع وثمانين من الهجرة النبوية كما تقدم .

                وظن بعضهم أن الاستثناء كونه نبيا فعدى ذلك فقالوا : يسافر [ ص: 349 ] إلى سائر قبور الأنبياء كذلك .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية