الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ولهذا تنازع الناس هل يحلف . بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ مع اتفاقهم بأنه لا يحلف بشيء من المخلوقات المعظمة كالعرش والكرسي والكعبة والملائكة . فذهب جمهور العلماء كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في أحد قوليه إلى أنه لا يحلف بالنبي ولا تنعقد اليمين كما لا يحلف بشيء من المخلوقات ولا تجب الكفارة على من حلف بشيء من ذلك وحنث . فإنه صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : { لا تحلفوا إلا بالله } . وقال : { من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت } . وفي السنن : { من حلف بغير الله فقد أشرك } . وعن أحمد بن حنبل رواية أنه يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ; لأنه يجب الإيمان به خصوصا ويجب ذكره في الشهادتين والأذان . فللإيمان به اختصاص لا يشركه فيه غيره . وقال ابن عقيل : بل هذا لكونه نبيا . وطرد ذلك في سائر الأنبياء مع أن الصواب الذي عليه عامة علماء المسلمين سلفهم وخلفهم أنه لا يحلف بمخلوق لا نبي ولا غير نبي ولا ملك من الملائكة ولا ملك من الملوك ولا شيخ من الشيوخ .

                والنهي عن ذلك نهي تحريم عند أكثرهم كمذهب أبي حنيفة وغيره وهو أحد القولين في مذهب أحمد كما تقدم حتى أن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما يقول أحدهم : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن [ ص: 350 ] أحلف بغير الله صادقا . وفي لفظ : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أضاهي . فالحلف بغير الله شرك والشرك أعظم من الكذب . وغاية الكذب أن يشبه بالشرك . كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله } قالها مرتين أو ثلاثا . وقرأ قوله تعالى { واجتنبوا قول الزور } { حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } وهذا المنهي عنه بل المحرم - الذي هو أعظم من اليمين الفاجرة عند الصحابة رضوان الله عليهم - قد ظن طائفة من أهل العلم أنه مشروع غير منهي عنه . ولهذا نظائر كثيرة ; لكن قال الله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وما أمر الله ورسوله به فهو الحق .

                وهو صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بغير الله وعن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها وعن اتخاذ القبور مساجد واتخاذ قبره عيدا . ونهى عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة وأمثال ذلك لتحقيق إخلاص الدين لله . وعبادة الله وحده لا شريك له . فهذا كله محافظة [ ص: 351 ] على توحيد الله عز وجل وأن يكون الدين كله لله فلا يعبد غيره ولا يتوكل إلا عليه ولا يدعى إلا هو ولا يتقى إلا هو ولا يصلى ولا يصام إلا له ولا ينذر إلا له ولا يحلف إلا به ولا يحج إلا إلى بيته . فالحج الواجب ليس إلا إلى أفضل بيوته وأقدمها وهو المسجد الحرام . والسفر المستحب ليس إلا إلى مسجدين لكونهما بناهما نبيان . فالمسجد النبوي مسجد المدينة أسسه على التقوى خاتم المرسلين ومسجد إيليا قد كان مسجدا قبل سليمان . ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه { قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أولا ؟ قال : المسجد الحرام . قال قلت : ثم أي ؟ قال المسجد الأقصى . قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة ثم حيث ما أدركتك الصلاة فصل فإنه لك مسجد } . وفي لفظ البخاري : { فإن فيه الفضل } وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي حيث أدركته الصلاة . فالمسجد الأقصى كان من عهد إبراهيم عليه السلام لكن سليمان عليه السلام بناه بناء عظيما . فكل من المساجد الثلاثة بناه نبي كريم ليصلي فيه هو والناس .

                فلما كانت الأنبياء - عليهم السلام - تقصد الصلاة في هذين المسجدين شرع السفر إليهما للصلاة فيهما والعبادة اقتداء بالأنبياء عليهم السلام وتأسيا بهم . كما أن إبراهيم الخليل - عليه السلام - [ ص: 352 ] لما بنى البيت وأمره الله تعالى أن يؤذن في الناس بحجه فكانوا يسافرون إليه من زمن إبراهيم عليه السلام ولم يكن ذلك فرضا على الناس في أصح القولين . كما لم يكن ذلك مفروضا في أول الإسلام وإنما فرضه الله على محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر لما نزلت " سورة آل عمران " . وفي البقرة أمر بإتمام الحج والعمرة لمن شرع فيهما ; ولهذا كان التطوع بهما يوجب إتمامهما عند عامة العلماء . وقيل إن الأمر بالإتمام إيجاب لهما ابتداء والأول هو الصحيح . فكذلك المسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم بنى كلا منهما رسول كريم ودعا الناس إلى السفر إليهما للعبادة فيهما . ولم يبن أحد من الأنبياء عليهم السلام مسجدا ودعا الناس إلى السفر للعبادة فيه إلا هذه المساجد الثلاثة . ولكن كان لهم مساجد يصلون فيها ولم يدعوا الناس إلى السفر إليها كما كان إبراهيم عليه السلام يصلي في موضعه وإنما دعا الناس إلى حج البيت . ولا دعا نبي من الأنبياء إلى السفر إلى قبره ولا بيته ولا مقامه ولا غير ذلك من آثاره بل هم دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له قال تعالى لما ذكرهم { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } { أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين } { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده }

                . [ ص: 353 ] ولهذا لا يجوز تغيير واحد من هذه المساجد الثلاثة عن موضعه . وأما سائر المساجد ففضيلتها من أنها مسجد لله وبيت يصلى فيه وهذا قدر مشترك بين المساجد ; وإن كان بعضها تكثر العبادة فيه أو لكونه أعتق من غيره ونحو ذلك فهذه المزية موجودة في عامة المساجد بعضها أكثر عبادة من بعض وبعضها أعتق من بعض . فلو شرع السفر لذلك لسوفر إلى عامة المساجد .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية