الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 490 ] وسئل رحمه الله عن بيع قصب السكر والقلقاس واللفت والجزر ونحو ذلك وهو قائم في الأرض وفي بيع البطيخ ونحوه من المقاثي ؟

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله رب العالمين . أما بيع قصب السكر فلا شبهة فيه إلا ما يذكر من كونه في قشره الذي يكون صونا له فبيعه كبيع الجوز واللوز والباقلا في قشريه وبيع ذلك جائز عند جماهير علماء المسلمين وهو قول سلف الأمة وعملها المتصل من لدن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الزمان ولا تتم مصلحة الناس إلا بذلك وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وقول في مذهب الشافعي فإنه لما مرض أمر أن يشترى له باقلا أخضر وذلك في مرض موته فهو متأخر عن نهيه الذي في كتبه .

                وقد دل على ذلك أنه { صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد } وذلك يدل على جواز بيع ذلك بعد اسوداده واشتداده فيدل على جواز بيع الحب في سنبله [ ص: 491 ] وهو من صور النزاع كالباقلا في قشريه . والذي كره بيع ذلك يظنه من الغرر الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس الأمر كذلك ; لوجهين : أحدهما : أن المشترين يعلمون ذلك كما يعلمون كثيرا من المبيعات المتفق على جواز بيعها ; بل علمهم بذلك أقوى من علمهم بكثير منها .

                والثاني : أنه لو فرض أن في ذلك جهلا فالشريعة استقرت على ما يحتاج إلى بيعه مع الغرر ; ولهذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم في بيع الثمار بعد بدو صلاحها مبقاة إلى كمال الصلاح . ثم إنه بعد ذلك أمر بوضع الجوائح إذا أصابتها .

                وأيضا فإنه أذن في بيع العقار بقوله صلى الله عليه وسلم { من كان له شرك في أرض أو ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك } . وقد أجمع المسلمون على جواز بيع العقار مع أن أساس الحيطان وداخلها مغيب .

                وكذلك أذن في بيع الثمار قبل بدو صلاحها تبعا للأصل بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : { من باع نخلا مؤبرا فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع } وذلك أن بيع الغرر نهى عنه لما فيه من الميسر والقمار المتضمن لأكل المال بالباطل . فإذا [ ص: 492 ] كان في بعض الصور من فوات الأموال وفسادها ونقصها على أصحابها بتحريم البيع أعظم مما فيها مع حله لم يجز دفع الفساد القليل بالتزام الفساد الكثير ; بل الواجب ما جاءت به الشريعة وهو تحصيل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما ودفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما والفتيا لا تحتمل البسط أكثر من هذا .



                وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه فصل : وأما بيع القلقاس والجزر واللفت ونحو ذلك فهو جائز عند طوائف من أهل العلم وهو مذهب مالك وقول في مذهب الإمام أحمد وإن كان المشهور عنه - كمذهب أبي حنيفة والشافعي - أنه لا يجوز . والقول الأول هو الصواب ; فإن الأصل المتفق عليه بين العلماء في ذلك كون المبيع معلوما العلم المعتبر في المبيع فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر يرجع في ذلك إلى أهل الخبرة بذلك . وأهل الخبرة يقولون : إنهم يعلمون ذلك في حال كونه في الأرض بحيث يخرج عن كونه غررا ; ويستدلون على ذلك بما يقلعونه منه كما يعلم [ ص: 493 ] المبيع المنفصل عن الأرض برؤية بعضه إذا كان متشابه الأجزاء . ثم إن ظهر الخفي دون الظاهر بما لم تجربه العادة : كان ذلك إما غبنا وإما تدليسا . بل أهل الخبرة يقولون : إنهم يعلمون ذلك أكثر مما يعلمون كثيرا من المنفصل .

                وكون المبيع معلوما أو غير معلوم لا يؤخذ عن الفقهاء بخصوصهم ; بل يؤخذ عن أهل الخبرة بذلك الشيء ; وإنما المأخوذ عنهم ما انفردوا به من معرفة الأحكام بأدلتها . وقد قال الله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } والإيمان بالشيء مشروط بقيام دليل يدل عليه ، فعلم أن الأمور الغائبة عن المشاهدة قد تعلم بما يدل عليها فإذا قال أهل الخبرة : إنهم يعلمون ذلك كان المرجع إليهم في ذلك دون من لم يشاركهم في ذلك وإن كان أعلم بالدين منهم . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهم في تأبير النخل : { أنتم أعلم بدنياكم . فما كان من أمر دينكم فإلي } . ثم يترتب الحكم الشرعي على ما تعلمه أهل الخبرة كما يترتب على التقويم والقيامة والخرص وغير ذلك .




                الخدمات العلمية