الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل ونصوص أحمد في غير موضع واختيار جمهور أصحابه جواز إبدال " الهدي والأضحية " بخير منها . قال أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتري الأضحية يسمنها للأضحى ؟ يبدلها بما هو خير منها ; لا يبدلها بها هو دونها . فقيل له : فإن أبدلها بما هو خير منها يبيعها ؟ قال نعم . قال القاضي : وقد أطلق القول في رواية صالح وابن منصور وعبد الله بجواز أن تبدل الأضحية بما هو خير منها . قال : ورأيت في مسائل الفضل بن زياد : إذا سماها لا يبيعها إلا لمن يريد أن يضحي بها . وهاتان الروايتان عنه كالروايتين عنه في المسجد : هل يباع أو تنقل آلته لخير منه ؟ كذلك هنا : منع في إحدى الروايتين أن يأخذ عنها بدلا [ ص: 241 ] إلا إذا كانت يضحى بها ; لتعلق حرمة التضحية بعينها . وقال الخرقي : ويجوز أن تبدل الأضحية إذا أوجبها بخير منها .

                وقال القاضي أبو يعلى في : " التعليق " إذا أوجب بدنة جاز بيعها ; وعليه بدنة مكانها ; فإن لم يوجب مكانها حتى زادت في بدن أو شعر أو ولدت كان عليه مثلها زائدة ومثل ولدها ولو أوجب مكانها قبل الزيادة والولد لم يكن عليه شيء من الزيادة . ولم أعلم في أصحاب أحمد من خالف في هذا ; إلا أبا الخطاب ; فإنه اختار أنه لا يجوز إبدالها . وقال : إذا نذر أضحية وعينها زال ملكه عنها ; ولم يجز أن يتصرف فيها ببيع ولا إبدال ; وكذلك إذا نذر عتق عبد معين أو دراهم معينة . وقال هذا قياس المذهب عندي ; لأن التعيين يجري مجرى النص في النذر الذي لا يلحقه الفسخ ; لأن أحمد قد نص في رواية صالح وإبراهيم بن الحارث فيمن نذر أضحية بعينها فأعورت أو أصابها عيب : تجزيه ولو كانت في ملكه لم تجزه ووجبت عليه صحيحة ; كما لو نذر أضحية مطلقة .

                قال : وكذلك نص في رواية حنبل في الهدي إذا عطب في الحرم : فقد أجزأ عنه ; ولو كان في ملكه لم يجزه ; ووجب بدله . وغير ذلك من المسائل . فدل على ما قلت . وأبو الخطاب بنى ذلك على أن ملكه زال عنها ; فلا يجوز الإبدال بعد زوال الملك وهو قول أصحاب مالك . والشافعي وأبو حنيفة يجوزون إبدالها بخير منها . وبنى أصحابه ذلك هم والقاضي أبو يعلى وموافقوه على أن ملكه لم يزل عنها . والنزاع بين الطائفتين في هذا الأصل . وأحمد وفقهاء أصحابه [ ص: 242 ] لا يحتاجون أن يبنوا على هذا الأصل . وقال أبو الخطاب : هذا هو القياس في النذر ; أنه إذا نذر الصلاة في مسجد بعينه لزمه ; وإنما تركناه للشرع وهو قوله صلى الله عليه وسلم " { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد } " فقيل له : فلو نذر الصلاة في المسجد الأقصى جاز له الصلاة في المسجد الحرام ؟ فقال : إن لم يصح الخبر بذلك لم نسلم على هذه الرواية .

                وهذا الذي قاله أبو الخطاب كما أنه خلاف نصوص أحمد وجمهور أصحابه فهو خلاف سائر أصوله ; فإن جواز الإبدال عند أحمد لا يفتقر إلى كون ذلك في ملكه ; بل ولا تأثير لذلك في جواز الإبدال ; فإنه لو نذر عتق عبد فعينه لم يجز إبداله بلا ريب وإن لم يخرج عن ملكه ; بل ويقول : خرجت الأضحية عن ملكه ; ويجوز إبدالها بخير منها ; كما نقول مثل ذلك في المساجد وكما نقول بجواز الإبدال في المنذورات ; لأن الذبح عبادة لله وذبح الأفضل أحب إلى الله تعالى فكان هذا كإبدال المنذور بخير منه وذلك خير لأهل الحرم ; بخلاف العتق ; فإن مستحقه هو العبد فبطل حقه بالإبدال . والنزاع في كون الأضحية المعينة بالنذر ثابتة على ملكه أو خارجة عن ملكه إلى الله يشبه النزاع في الوقف على الجهة العامة . والمشهور في مذهب أحمد والجمهور في ذلك أنها ملك لله .

                وقد يقال : لجماعة المسلمين والمتصرف فيه بالتحويل هم المسلمون المستحقون للانتفاع به فيتصرفون فيه بحكم الولاية ; لا بحكم الملك [ ص: 243 ] وكذلك الهدي والأضحية المعين بالنذر إذا قيل إنه يخرج عن ملك صاحبه ; فإن له ولاية التصرف فيه بالذبح والتفريق فكذلك له ولاية التصرف فيه بالإبدال كما لو أتلفه متلف فإنه كان يأخذ ثمنه يشتري به بدله وإن لم يكن مالكا له . فكونه خارجا عن ملكه لا يناقض جواز تصرفه فيه بولاية شرعية . وقول القائل : يملكه صاحبه أو لا يملكه . في ذلك وفي نظائره ؟ كقوله : العبد يملك أو لا يملك وأهل الحرب هل يملكون أموال المسلمين أو لا يملكونها والموقوف عليه هل يملك الوقف أو لا يملكه ؟ إنما نشأ فيها النزاع بسبب ظن كون الملك جنسا واحدا تتماثل أنواعه وليس الأمر كذلك ; بل الملك هو القدرة الشرعية والشارع قد يأذن للإنسان في تصرف دون تصرف ويملكه ذلك التصرف دون هذا فيكون مالكا ملكا خاصا ; ليس هو مثل ملك الوارث ; ولا ملك الوارث كملك المشتري من كل وجه ; بل قد يفترقان .

                وكذلك ملك النهب والغنائم ونحوهما قد خالف ملك المبتاع والوارث . فقول القائل : إنه يملك الأضحية المعينة . إن أراد أنه يملكها كما يملك المبتاع ; بحيث يبيعها ويأخذ ثمنها لنفسه ويهبها لمن يشاء وتورث عنه ملكا فليس الأمر كذلك . وكذلك إن أراد بخروجها عن ملكه أنه انقطع تصرفه فيها كما ينقطع التصرف بالرق أو البيع فليس الأمر كذلك ; بل له فيها ملك خاص وهو ملكه أن يحفظها ويذبحها ويقسم لحمها ويهدي ويتصدق ويأكل . وهذا الذي يملكه من أضحيته لا يملكه من أضحيته غيره . [ ص: 244 ] فصل والدليل على ذلك وجوه أحدها : ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " { لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين : بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه } " ومعلوم أن الكعبة أفضل وقف على وجه الأرض ولو كان تغييرها وإبدالها بما وصفه صلى الله عليه وسلم واجبا لم يتركه فعلم أنه كان جائزا وأنه كان أصلح لولا ما ذكره من حدثان عهد قريش بالإسلام . وهذا فيه تبديل بنائها ببناء آخر . فعلم أن هذا جائز في الجملة ؟ وتبديل التأليف بتأليف آخر هو أحد أنواع الإبدال .

                وأيضا فقد ثبت أن عمر وعثمان غيرا بناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أما عمر فبناه بنظير بنائه الأول باللبن والجذوع وأما عثمان فبناه بمادة أعلى من تلك كالساج . وبكل حال فاللبن والجذوع التي كانت وقفا أبدلها الخلفاء الراشدون بغيرها . وهذا من أعظم ما يشتهر من القضايا ولم ينكره منكر . ولا فرق بين إبدال البناء ببناء وإبدال العرصة بعرصة : إذا اقتضت المصلحة ذلك ; ولهذا أبدل عمر بن الخطاب مسجد الكوفة بمسجد آخر : أبدل نفس العرصة [ ص: 245 ] وصارت العرصة الأولى سوقا للتمارين . فصارت العرصة سوقا بعد أن كانت مسجدا . وهذا أبلغ ما يكون في إبدال الوقف للمصلحة . وأيضا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوز إبدال المنذور بخير منه . ففي المسند مسند أحمد وسنن أبي داود قال أبو داود : ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد يعني ابن سلمة أنا حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله { أن رجلا قام يوم الفتح فقال يا رسول الله : إني نذرت إن فتح الله عز وجل عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس قال أبو سلمة : مرة ركعتين قال : صل هاهنا ثم أعاد عليه فقال : صل هاهنا ثم أعاد عليه ; قال : فشأنك إذا } قال أبو داود : وروي نحوه عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولهذا في السنن طريق ثالث رواه أحمد وأبو داود . عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو داود : ثنا بن خالد ثنا أبو عاصم وثنا عباس العمبري ثنا روح عن ابن جريج أنا يوسف بن الحكم بن أبي سفيان : أنه سمع حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر زاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم " { والذي بعث محمدا بالحق لو صليت هاهنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس } " قال أبو داود رواه الأنصار عن ابن جريج . قال حفص بن عمر بن حنة : وقال عمر : أخبراه عن عبد الرحمن بن عوف عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 246 ] وفي المسند وصحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن امرأة شكت شكوى فقالت : إن شفاني الله فلأخرجن فلأصلين في بيت المقدس فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة تسلم عليها وأخبرتها بذلك فقالت اجلسي وكلي ما صنعت وصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة } "

                . وهذا مذهب عامة العلماء كالشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة وابن المنذر وغيرهم : قالوا : إذا نذر أن يصلي في بيت المقدس أجزأه الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وإن نذر الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أجزأه الصلاة في المسجد الحرام وإن نذر الصلاة في المسجد الحرام لم تجزه الصلاة في غيره عند الأكثرين وهو مذهب ابن المسيب ومالك والشافعي في أصح قوليه ومذهب أبي يوسف صاحب أبي حنيفة . وحكي عن أبي حنيفة : لا يتعين شيء للصلاة ; بخلاف ما لو نذر أن يأتي المسجد الحرام لحج أو عمرة ; فإن هذا يلزمه بلا نزاع . وأبو حنيفة بنى هذا على أصله ; وهو أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع . وأما مالك وأحمد والشافعي في ظاهر مذهبه فيوجبون بالنذر ما كان طاعة ; وإن لم يكن جنسه واجبا بالشرع كما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة [ ص: 247 ] رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } "

                . والنبي صلى الله عليه وسلم قال : " صل هاهنا " وقال : { لو صليت هنا لأجزأ عنك صلاة - أو كل صلاة - في بيت المقدس } " فخص الأمر بالصلاة في المسجد الحرام ولم يقل : صل حيث شئت وقال : " { لو صليت هاهنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس } " فجعل المجزى عنه الصلاة في المسجد الأفضل ; لا في كل مكان . فدل هذا على أنه لم ينقله إلى البدل إلا لفضله ; لا لكون الصلاة لم تتعين . وقد ثبت عنه في الصحاح تفضيل مسجده والمسجد الحرام على المسجد الأقصى وفي السنن والمسند تفضيل المسجد الحرام على مسجده وثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أنه قال : " { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا } " وفي لفظ لمسلم : " { إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد } " . فدل ذلك على أن السفر إلى هذه الثلاثة بر وقربة وعمل صالح ; ولهذا أذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى الأقصى مع أمره له أن يصلي في المسجد الحرام وإخباره أن ذلك يجزيه فدل ذلك على أنه أمر ندب وأنه مخير بين أن يفعل عين المنذور وأن يفعل ما هو أفضل منه . ومعلوم أن النذر يوجب عليه ما نذره لله تعالى من الطاعة ; لقوله : { من نذر أن يطيع الله فليطعه } وهو أمر أوجبه هو على نفسه لم يجب بالشرع ابتداء [ ص: 248 ] ثم إن الشارع بين أن البدل الأفضل يقوم مقام هذا والأضحية والهدي المعين وجوبه من جنس وجوب النذر المعين . فدل ذلك على أن إبداله بخير منه أفضل من ذبحه بعينه : كالواجب بالشرع في الذمة ; كما لو وجب عليه بنت مخاض فأدى بنت لبون ; أو وجب عليه بنت لبون فأدى حقة وفي ذلك حديث في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أنه إذا أدى أفضل مما وجب عليه أجزأه رواه أبو داود في السنن وغيره .

                قال أبو داود : ثنا محمد بن منصور ثنا يعقوب بن إبراهيم ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن عمارة بن عمرو بن حزم عن { أبي بن كعب قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مصدقا فمررت برجل فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا بنت مخاض فقلت له أد بنت مخاض ; فإنها صدقتك . فقال : ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر ; ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها . فقلت له : ما أنا بآخذ ما لم أومر به وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل فإن قبله منك قبلته وإن رده عليك رددته .

                قال . فإني فاعل فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض علي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ من صدقة مالي وايم الله ما قام في مالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رسوله قط قبله فجمعت له مالي فزعم أن ما علي إلا بنت مخاض وذلك [ ص: 249 ] ما لا لبن فيه ولا ظهر وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة ليأخذها فأبى علي وها هي هذه قد جئتك بها يا رسول الله . خذها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الذي عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك قال : فها هي ذه يا رسول الله قد جئتك بها فخذها قال : فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له في ماله بالبركة
                } وما في هذا الحديث من إجزاء سن أعلى من الواجب مذهب عامة أهل العلم الفقهاء المشهورين وغيرهم .

                فقد ثبت أن إبدال الواجب بخير منه جائز بل يستحب فيما وجب بإيجاب الشرع وبإيجاب العبد . ولا فرق بين الواجب في الذمة وما أوجبه معينا فإنما وجب في الذمة وإن كان مطلقا من وجه فإنه مخصوص متميز عن غيره ولهذا لم يكن له إبداله بدونه بلا ريب . وعلى هذا فلو نذر أن يقف شيئا فوقف خيرا منه كان أفضل فلو نذر أن يبني لله مسجدا وصفه أو يقف وقفا وصفه . فبنى مسجدا خيرا منه ووقف وقفا خيرا منه كان أفضل . ولو عينه فقال : لله علي أن أبني هذه الدار مسجدا أو وقفها على الفقراء والمساكين . فبنى خيرا منها ووقف خيرا منها . كان أفضل : كالذي نذر الصلاة بالمسجد الأقصى وصلى في المسجد الحرام أو كانت عليه بنت مخاض فأدى خيرا منها .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية