الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وقال شيخ الإسلام رحمه الله الله فصل في الأسباب التي بين الله وعباده وبين العباد : الخلقية والكسبية . الشرعية ; والشرطية . قال الله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا } افتتح السورة بذكر خلق الجنس الإنساني من نفس واحدة ; وأن زوجها مخلوق منها وأنه بث منهما الرجال والنساء : أكمل الأسباب وأجلها ثم [ ص: 13 ] ذكر ما بين الآدميين من الأسباب المخلوقة الشرعية : كالولادة

                ومن الكسبية الشرطية : كالنكاح ثم قال : { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } قال طائفة من المفسرين من السلف : { تساءلون به } تتعاهدون به وتتعاقدون . وهو كما قالوا ; لأن كل واحد من المتعاقدين عقد البيع أو النكاح أو الهدنة أو غير ذلك يسأل الآخر مطلوبه : هذا يطلب تسليم المبيع . وهذا تسليم الثمن : وكل منهما قد أوجب على نفسه مطلوب الآخر فكل منهما طالب من الآخر موجب لمطلوب الآخر .

                ثم قال : { والأرحام } . و " العهود " و " الأرحام " : هما جماع الأسباب التي بين بني آدم ; فإن الأسباب التي بينهم : إما أن تكون بفعل الله أو بفعلهم . فالأول " الأرحام " و الثاني " العهود " ولهذا جمع الله بينهما في مواضع ; في مثل قوله : { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } فالإل : القرابة والرحم . والذمة العهد والميثاق .

                وقال تعالى في أول البقرة : { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } وقال : { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق } { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } إلى قوله : { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } .

                واعلم أن حق الله داخل في الحقين . ومقدم عليهما ; ولهذا قدمه في قوله { اتقوا ربكم الذي خلقكم } فإن الله خلق العبد وخلق أبويه وخلقه من أبويه . فالسبب الذي بينه وبين الله هو الخلقي التام ; بخلاف سبب الأبوين ; فإن أصل مادته منهما وله مادة من غيرهما ; ثم إنهما لم يصوراه في الأرحام . والعبد ليس له مادة إلا [ ص: 14 ] من أبويه والله هو خالقه وبارئه ومصوره ورازقه وناصره وهاديه ; وإنما حق الأبوين فيه بعض المناسبة لذلك ; فلذلك قرن حق الأبوين بحقه في قوله : { أن اشكر لي ولوالديك } وفي قوله : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا } وفي قوله : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } وجعل النبي صلى الله عليه وسلم التبرؤ من الأبوين كفرا ; لمناسبته للتبرؤ من الرب .

                وفي الحديث الصحيح : { من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر } أخرجاه في الصحيحين وقوله : { كفر بالله من تبرأ من نسب وإن دق } وقوله : { لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم } . فحق النسب والقرابة والرحم تقدمه حق الربوبية وحق القريب المجيب الرحمن ; فإن غاية تلك أن تتصل بهذا كما قال الله ; { أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته } وقال : { الرحم شجنة من الرحمن } وقال { لما خلق الله الرحم تعلقت بحقو الرحمن فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة } .

                وقد قيل في قوله { لا يرقبون في مؤمن إلا } إن " الإل " الرب كقول الصديق لما سمع قرآن مسيلمة : إن هذا كلام لم يخرج من إل . وأما دخول حق الرب في العهود والعقود . فكدخول العبد في السلام وشهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله ; فإن هذا عهد الإسلام وهو أشرف العهود وأوكدها وأعمها وأكملها

                التالي السابق


                الخدمات العلمية