الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل " التشبه بالبهائم " في الأمور المذمومة في الشرع مذموم منهي عنه : في أصواتها وأفعالها ; ونحو ذلك مثل : أن ينبح نبيح الكلاب ; أو ينهق نهيق الحمير ونحو ذلك . وذلك لوجوه : " أحدها " أنا قررنا في " اقتضاء الصراط المستقيم " نهي الشارع عن التشبه بالآدميين الذين جنسهم ناقص كالتشبه ; بالأعراب وبالأعاجم وبأهل الكتاب ونحو ذلك : في أمور من خصائصهم وبينا أن من أسباب ذلك [ ص: 257 ] أن المشابهة تورث مشابهة الأخلاق ; وذكرنا أن من أكثر عشرة بعض الدواب اكتسب من أخلاقها : كالكلابين والجمالين .

                وذكرنا ما في النصوص من ذم أهل الجفاء وقسوة القلوب : أهل الإبل ومن مدح أهل الغنم ; فكيف يكون التشبه بنفس البهائم فيما هي مذمومة بل هذه القاعدة تقتضي بطريق التنبيه النهي عن التشبه بالبهائم مطلقا فيما هو من خصائصها وإن لم يكن مذموما بعينه ; لأن ذلك يدعو إلى فعل ما هو مذموم بعينه ; إذ من المعلوم أن كون الشخص أعرابيا أو عجميا خير من كونه كلبا أو حمارا أو خنزيرا فإذا وقع النهي عن التشبه بهذا الصنف من الآدميين في خصائصه ; لكون ذلك تشبها فيما يستلزم النقص ويدعو إليه : فالتشبه بالبهائم فيما هو من خصائصها أولى أن يكون مذموما ومنهيا عنه .

                " الوجه الثاني " أن كون الإنسان مثل البهائم مذموم ; قال تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } .

                " الوجه الثالث " : أن الله سبحانه إنما شبه الإنسان بالكلب والحمار ونحوهما في معرض الذم له كقوله : { فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } [ ص: 258 ] { ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون } وقال تعالى : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا } الآية . وإذا كان التشبه بها إنما كان على وجه الذم من غير أن يقصد المذموم التشبه بها : فالقاصد أن يتشبه بها أولى أن يكون مذموما ; لكن إن كان تشبه بها في عين ما ذمه الشارع : صار مذموما من وجهين . وإن كان فيما لم يذمه بعينه : صار مذموما من جهة التشبه المستلزم للوقوع في المذموم بعينه . يؤيد هذا : " الوجه الرابع " وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح : { العائد في هبته كالعائد في قيئه ; ليس لنا مثل السوء } . ولهذا يذكر : أن الشافعي وأحمد تناظرا في هذه المسألة فقال له الشافعي : الكلب ليس بمكلف .

                فقال له أحمد : ليس لنا مثل السوء . وهذه الحجة في نفس الحديث ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذا المثل إلا ليبين أن الإنسان إذا شابه الكلب كان مذموما وإن لم يكن الكلب مذموما في ذلك من جهة التكليف ; ولهذا ليس لنا مثل السوء . والله سبحانه قد بين بقوله : { ساء مثلا } أن التمثيل بالكلب مثل سوء والمؤمن منزه عن مثل السوء . فإذا كان له مثل سوء من الكلب كان مذموما بقدر ذلك المثل السوء .

                " الوجه الخامس " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب } وقال : { إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله وإذا [ ص: 259 ] سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا } فدل ذلك على أن أصواتها مقارنة للشياطين وأنها منفرة للملائكة . ومعلوم أن المشابه للشيء لا بد أن يتناوله من أحكامه بقدر المشابهة فإذا نبح نباحها كان في ذلك من مقارنة الشياطين وتنفير الملائكة بحسبه . وما يستدعي الشياطين وينفر الملائكة : لا يباح إلا لضرورة ; ولهذا لم يبح اقتناء الكلب إلا لضرورة ; لجلب منفعة : كالصيد . أو دفع مضرة عن الماشية والحرث حتى قال صلى الله عليه وسلم { من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو حرث أو صيد نقص من عمله كل يوم قيراط } .

                " وبالجملة " فالتشبه بالشيء يقتضي من الحمد والذم بحسب الشبه ; لكن كون المشبه به غير مكلف لا ينفي التكليف عن المتشبه كما لو تشبه بالأطفال والمجانين . والله سبحانه أعلم .

                " الوجه السادس " أن النبي صلى الله عليه وسلم { لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال } وذلك لأن الله خلق كل نوع من الحيوان وجعل صلاحه وكماله في أمر مشترك بينه وبين غيره وبين أمر مختص به . فأما الأمور المشتركة فليست من خصائص أحد النوعين ; ولهذا لم يكن من مواقع النهي ; وإنما مواقع النهي الأمور المختصة . فإذا كانت الأمور التي هي من خصائص النساء ليس للرجال التشبه بهن فيها والأمور التي من خصائص الرجال ليس [ ص: 260 ] للنساء التشبه بهم فيها : فالأمور التي هي من خصائص البهائم لا يجوز للآدمي التشبه بالبهائم فيها بطريق الأولى والأحرى . وذلك لأن الإنسان بينه وبين الحيوان قدر جامع مشترك وقدر فارق مختص ثم الأمر المشترك : كالأكل والشرب والنكاح والأصوات والحركات ; لما اقترنت بالوصف المختص كان للإنسان فيها أحكام تخصه ; ليس له أن يتشبه بما يفعله الحيوان فيها . فالأمور المختصة به أولى ; مع أنه في الحقيقة لا مشترك بينه وبينها ; ولكن فيه أوصاف تشبه أوصافها من بعض الوجوه .

                والقدر المشترك إنما وجوده في الذهن ; لا في الخارج . وإذا كان كذلك فالله تعالى قد جعل الإنسان مخالفا بالحقيقة للحيوان وجعل كماله وصلاحه في الأمور التي تناسبه وهي جميعها لا يماثل فها الحيوان ; فإذا تعمد مماثلة الحيوان وتغيير خلق الله : فقد دخل في فساد الفطرة والشرعة وذلك محرم . والله أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية