الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 99 ] باب حكم المرتد سئل شيخ الإسلام رضي الله عنه عن رجلين تكلما في " مسألة التأبير " فقال أحدهما : من نقص الرسول صلى الله عليه وسلم أو تكلم بما يدل على نقص الرسول كفر ; لكن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين ; فإن بعض العلماء قد يتكلم في مسألة باجتهاده فيخطئ فيها فلا يكفر ; وإن كان قد يكفر من قال ذلك القول إذا قامت عليه الحجة المكفرة ، ولو كفرنا كل عالم بمثل ذلك لزمنا أن نكفر فلانا - وسمى بعض العلماء المشهورين الذين لا يستحقون التكفير وهو الغزالي - فإنه ذكر في بعض كتبه تخطئة الرسول في مسألة تأبير النخل : فهل يكون هذا تنقيصا بالرسول بوجه من الوجوه ؟ وهل عليه في تنزيه العلماء من الكفر إذا قالوا مثل ذلك تعزير ، أم لا ؟ وإذا نقل ذلك وتعذر عليه في الحال نفس الكتاب الذي نقله منه وهو معروف بالصدق : فهل عليه في ذلك تعزير أم لا ؟ وسواء أصاب في النقل عن العالم أم أخطأ ؟ وهل يكون في ذلك تنقيص بالرسول صلى الله عليه وسلم ومن اعتدى على مثل هذا ، أو نسبه إلى تنقيص بالرسول ، أو العلماء ، وطلب عقوبته على ذلك : فما يجب عليه ؟ أفتونا مأجورين .

                [ ص: 100 ]

                التالي السابق


                [ ص: 100 ] فأجاب : الحمد لله . ليس في هذا الكلام تنقص بالرسول صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه باتفاق علماء المسلمين ، ولا فيه تنقص لعلماء المسلمين ; بل مضمون هذا الكلام تعظيم الرسول وتوقيره ، وأنه لا يتكلم في حقه بكلام فيه نقص ، بل قد أطلق القائل تكفير من نقص الرسول صلى الله عليه وسلم أو تكلم بما يدل على نقصه ، وهذا مبالغة في تعظيمه ; ووجوب الاحتراز من الكلام الذي فيه دلالة على نقصه . ثم هو مع هذا بين أن علماء المسلمين المتكلمين في الدنيا باجتهادهم لا يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأ أخطأه في كلامه ، وهذا كلام حسن تجب موافقته عليه ; فإن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات ; وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين ; لما يعتقدون أنهم أخطئوا فيه من الدين .

                وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض ; بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق ; بل ولا يأثم ; فإن الله تعالى قال في دعاء المؤمنين : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن الله تعالى قال قد فعلت } واتفق علماء المسلمين على أنه لا يكفر أحد من علماء المسلمين المنازعين في عصمة الأنبياء ، والذين قالوا : إنه يجوز عليهم الصغائر والخطأ ولا يقرون [ ص: 101 ] على ذلك لم يكفر أحد منهم باتفاق المسلمين ; فإن هؤلاء يقولون : إنهم معصومون من الإقرار على ذلك ، ولو كفر هؤلاء لزم تكفير كثير من الشافعية ، والمالكية ، والحنفية ، والحنبلية ، والأشعرية ، وأهل الحديث ، والتفسير ، والصوفية : الذين ليسوا كفارا باتفاق المسلمين ; بل أئمة هؤلاء يقولون بذلك .

                فالذي حكاه عن الشيخ أبي حامد الغزالي قد قال مثله أئمة أصحاب الشافعي أصحاب الوجوه الذين هم أعظم في مذهب الشافعي من أبي حامد ، كما قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني ، الذي هو إمام المذهب بعد الشافعي ، وابن سريج في تعليقه : وذلك أن عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز عليه الخطأ كما يجوز علينا ولكن الفرق بيننا أنا نقر على الخطأ والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقر عليه ، وإنما يسهو ليسن ، وروي عنه أنه قال : { إنما أسهو لأسن لكم } . وهذه المسألة قد ذكرها في أصول الفقه هذا الشيخ أبو حامد ، وأبو الطيب الطبري ، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي . وكذلك ذكرها بقية طوائف أهل العلم : من أصحاب مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة . ومنهم من ادعى إجماع السلف على هذا القول ، كما ذكر ذلك عن أبي سليمان الخطابي ونحوه ; ومع هذا فقد اتفق المسلمون على أنه لا يكفر أحد من هؤلاء الأئمة ، ومن كفرهم بذلك استحق العقوبة الغليظة التي تزجره [ ص: 102 ] وأمثاله عن تكفير المسلمين ; وإنما يقال في مثال ذلك : قولهم صواب أو خطأ . فمن وافقهم قال : إن قولهم الصواب .

                ومن نازعهم قال : إن قولهم خطأ ، والصواب قول مخالفهم . وهذا المسئول عنه كلامه يقتضي أنه لا يوافقهم على ذلك ; لكنه ينفي التكفير عنهم . ومثل هذا تجب عقوبة من اعتدى عليه ، ونسبه إلى تنقيص الرسول صلى الله عليه وسلم أو العلماء ; فإنه مصرح بنقيض هذا ، وهذا . وقد ذكر القاضي عياض هذه المسألة ، وهو من أبلغ القائلين بالعصمة ، قسم الكلام في هذا الباب ، إلى أن قال : " الوجه السابع " أن يذكر ما يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويختلف في إقراره عليه ، وما يطرأ من الأمور البشرية منه ويمكن إضافتها إليه . أو يذكر ما امتحن به وصبر في ذات الله على شدته من مقاساة أعدائه وأذاهم له ، ومعرفة ابتداء حاله ، وسيرته ، وما لقيه من بؤس زمنه ، ومر عليه من معانات عيشه ، كل ذلك على طريق الرواية ، ومذاكرة العلم ومعرفة ما صحت به العصمة للأنبياء ، وما يجوز عليهم . فقال : هذا فن خارج من هذه الفنون الستة ; ليس فيه غمض ولا نقص ولا إزراء ولا استخفاف ، ولا في ظاهر اللفظ ولا في مقصد اللافظ ; لكن يجب أن يكون الكلام مع أهل العلم ، وطلبة الدين ممن يفهم مقاصده ، ويحققون فوائده ; ويجنب ذلك ممن عساه لا يفقه ، أو يخشى به فتنة . [ ص: 103 ] وقد ذكر القاضي عياض قبل هذا : أن يقول القائل شيئا من أنواع السب حاكيا له عن غيره ، وآثرا له عن سواه . قال : فهذا ينظر في صورة حكايته ، وقرينة مقالته ; ويختلف الحكم باختلاف ذلك على " أربعة وجوه " الوجوب ، والندب ، والكراهة ، والتحريم .

                ثم ذكر أنه يحمل من ذلك ما ذكره على وجه الشهادة ونحوها مما فيه إقامة الحكم الشرعي على القائل ، أو على وجه الرذالة والنقص على قائله ; بخلاف من ذكره لغير هذين . قال : وليس التفكه بعرض النبي صلى الله عليه وسلم والتمضمض بسوء ذكره لأحد لا ذاكرا ، ولا آثرا لغير غرض شرعي مباح . فقد تبين من كلام القاضي عياض أن ما ذكره هذا القائل ليس من هذا الباب ; فإنه من مسائل الخلاف ، وأن ما كان من هذا الباب ليس لأحد أن يذكره لغير غرض شرعي مباح . وهذا القائل إنما ذكر لدفع التكفير عن مثل الغزالي وأمثاله من علماء المسلمين ، ومن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب ; بل دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطئوا هو من أحق الأغراض الشرعية ; حتى لو فرض أن دفع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر حماية له ، ونصرا لأخيه المسلم : لكان هذا غرضا شرعيا حسنا ، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد . [ ص: 104 ] فبكل حال هذا القائل محمود على ما فعل ، مأجور على ذلك ، مثاب عليه إذا كانت له فيه نية حسنة ; والمنكر لما فعله أحق بالتعزير منه ; فإن هذا يقتضي قوله القدح في علماء المسلمين من الكفر ، ومعلوم أن الأول أحق بالتعزير من الثاني إن وجب التعزير لأحدهما ، وإن كان كل منهما مجتهدا اجتهادا سائغا بحيث يقصد طاعة الله ورسوله بحسب استطاعته فلا إثم على واحد منهما ، وسواء أصاب في هذا النقل أو أخطأ فليس في ذلك تنقيص للنبي صلى الله عليه وسلم .

                وكذلك أحضر النقل أو لم يحضره ; فإنه ليس في حضوره فائدة ; إذ ما نقله عن الغزالي قد قال مثله من علماء المسلمين من لا يحصي عددهم إلا الله تعالى ; وفيهم من هو أجل من الغزالي ; وفيهم من هو دونه . ومن كفر هؤلاء استحق العقوبة باتفاق المسلمين ; بل أكثر علماء المسلمين وجمهور السلف يقولون مثل ذلك ، حتى المتكلمون ، فإن أبا الحسن الأشعري قال : أكثر الأشعرية والمعتزلة يقولون بذلك ; ذكره في " أصول الفقه " وذكره صاحبه أبو عمرو بن الحاجب . والمسألة عندهم من الظنيات ; كما صرح بذلك الأستاذ أبو المعالي ، وأبو الحسن الآمدي ، وغيرهما ; فكيف يكفر علماء المسلمين في مسائل الظنون أم كيف يكفر جمهور علماء المسلمين ; أو جمهور سلف الأئمة وأعيان العلماء بغير حجة أصلا والله تعالى أعلم .




                الخدمات العلمية