الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وإذا كان الإنسان يسعى فيما يطلبه كتاجر أو بريد أرسله في حاجته يقضيها في بعض الأوقات فإذا مضى ذلك الوقت يقول أرجو أن يكون فلان قد قضى ذلك الأمر وقضاؤه ماض لكن ما يحصل لهذا من الفرح والسرور وغير ذلك من مقاصده مستقبل . ويقول الإنسان في الوقت الذي جرت عادة الحاج بدخولهم إلى مكة : أرجو أن يكونوا دخلوا ويقول في سرية بعثت إلى الكفار : نرجو أن يكون الله قد نصر المؤمنين وغنمهم ويقال في نيل مصر عند وقت ارتفاعه : نرجو أن يكون قد صعد النيل كما يقول الحاضر في مصر مثل هذا الوقت : نرجو أن يكون النيل في هذا العام نيلا مرتفعا ويقال لمن له أرض يحب أن تمطر إذا مطرت بعض النواحي أرجو أن يكون المطر عاما وأرجو أن تكون قد مطرت الأرض الفلانية وذلك لأن المرجو هو ما يفرح بوجوده ويسره فالمكروه ما يتألم بوجوده . وهذا يتعلق بالعلم والعلم بذلك مستقبل فإذا علم أن المسلمين انتصروا والحاج قد دخلوا أو المطر قد نزل فرح بذلك وحصل به مقاصد أخر له وإذا كان الأمر بخلاف ذلك لم يحصل ذلك المحبوب المطلوب فيقول : أرجو وأخاف لأن المحبوب والمكروه متعلق بالعلم بذلك وهو مستقبل وكذلك المطلوب بالإيمان من السعادة والنجاة هو أمر مستقبل فيستثنى في الحاضر بذلك لأن المطلوب به مستقبل ثم كل مطلوب مستقبل تعلق بمشيئة الله [ ص: 454 ] وإن جزم بوجوده لأنه لا يكون مستقبل إلا بمشيئة الله .

                فقولنا : يكون هذا إن شاء الله حق فإنه لا يكون إلا إن شاء الله واللفظ ليس فيه إلا التعليق وليس من ضرورة التعليق الشك . بل هذا بحسب علم المتكلم فتارة يكون شاكا وتارة لا يكون شاكا ; فلما كان الشك يصحبها كثيرا لعدم علم الإنسان بالعواقب ظن الظان أن الشك داخل في معناها وليس كذلك . فقوله : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله } لا يتصور فيه شك من الله ; بل ولا من رسوله المخاطب والمؤمنين ولهذا قال ثعلب : هذا استثناء من الله وقد علمه والخلق يستثنون فيما لا يعلمون . وقال أبو عبيدة وابن قتيبة إن إن بمعنى إذ أي : إذ شاء الله ومقصوده بهذا تحقيق الفعل بـ ( إن كما يتحقق مع إذ . وإلا فإذ ظرف توقيت و ( إن حرف تعليق . فإن قيل : فالعرب تقول : إذا احمر البسر فأتني ولا تقول : إن احمر البسر . قيل : لأن المقصود هنا توقيت الإتيان بحين احمراره فأتوا بالظرف المحقق ولفظ : ( إن لا يدل على توقيت بل هي تعليق محض تقتضي ارتباط الفعل الثاني بالأول ونظير ما نحن فيه أن يقولوا : البسر يحمر ويطيب إن شاء الله وهذا حق فهذا نظير ذلك . فإن قيل : فطائفة من الناس فروا من هذا المعنى وجعلوا الاستثناء لأمر مشكوك فيه فقال الزجاج : { لتدخلن المسجد الحرام } أي : أمركم [ ص: 455 ] الله به وقيل : الاستثناء يعود إلى الأمن والخوف . أي : لتدخلنه آمنين فأما الدخول فلا شك فيه . وقيل : لتدخلن جميعكم أو بعضكم لأنه علم أن بعضهم يموت فالاستثناء لأنهم لم يدخلوا جميعهم . قيل : كل هذه الأقوال وقع أصحابها فيما فروا منه ; مع خروجهم عن مدلول القرآن فحرفوه تحريفا لم ينتفعوا به فإن قول من قال : أي : أمركم الله به هو سبحانه قد علم هل يأمرهم أو لا يأمرهم فعلمه بأنه سيأمرهم بدخوله كعلمه بأن يدخلوا فعلقوا الاستثناء بما لم يدل عليه اللفظ وعلم الله متعلق بالمظهر والمضمر جميعا وكذلك أمنهم وخوفهم هو يعلم أنهم يدخلون آمنين أو خائفين وقد أخبر أنهم يدخلون آمنين مع علمه بأنهم يدخلون آمنين فكلاهما لم يكن فيه شك عند الله ; بل ولا عند رسوله .

                وقول من قال : جميعهم أو بعضهم يقال : المعلق بالمشيئة دخول من أريد باللفظ فإن كان أراد الجميع فالجميع لا بد أن يدخلوه وإن أريد الأكثر كان دخولهم هو المعلق بالمشيئة وما لم يرد لا يجوز أن يعلق بـ ( إن وإنما علق بـ ( إن ما سيكون ; وكان هذا وعدا مجزوما به . ولهذا لما { قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية : ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى قلت لك : إنك تأتيه هذا العام ؟ قال : لا قال : فإنك آتيه ومطوف به } . فإن قيل : لم لم يعلق غير هذا من مواعيد القرآن ؟ قيل : لأن هذه الآية نزلت بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه [ ص: 456 ] من الحديبية وكانوا قد اعتمروا ذلك العام واجتهدوا في الدخول فصدهم المشركون فرجعوا وبهم من الألم ما لا يعلمه إلا الله فكانوا منتظرين لتحقيق هذا الوعد ذلك العام إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم وعدهم وعدا مطلقا . وقد { روي أنه رأى في المنام قائلا يقول : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله فأصبح فحدث الناس برؤياه وأمرهم بالخروج إلى العمرة فلم تحصل لهم العمرة ذلك العام فنزلت هذه الآية } واعدة لهم بما وعدهم به الرسول من الأمر الذي كانوا يظنون حصوله ذلك العام . وكان قوله : { إن شاء الله } هنا تحقيقا لدخوله وأن الله يحقق ذلك لكم ; كما يقول الرجل فيما عزم على أن يفعله لا محالة : والله لأفعلن كذا إن شاء الله لا يقولها لشك في إرادته وعزمه بل تحقيقا لعزمه وإرادته فإنه يخاف إذا لم يقل : إن شاء الله أن ينقض الله عزمه ولا يحصل ما طلبه كما في " الصحيحين { أن سليمان عليه السلام قال : والله لأطوفن الليلة على مائة امرأة كل منهن تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله فقال له صاحبه : قل : إن شاء الله فلم يقل فلم تحمل منهن إلا امرأة جاءت بشق رجل .

                قال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون
                } فهو إذا قال : إن شاء الله لم يكن لشك في طلبه وإرادته بل لتحقيق الله ذلك له إذ الأمور لا تحصل إلا بمشيئة الله فإذا تألى العبد عليه من غير تعليق بمشيئته لم يحصل مراده فإنه من يتألى على الله يكذبه ولهذا يروى : " لا أتممت لمقدر أمرا " . [ ص: 457 ] وقيل لبعضهم : بماذا عرفت ربك ؟ قال : بفسخ العزائم ونقض الهمم وقد قال تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } فإن قوله : لأفعلن فيه معنى الطلب والخبر وطلبه جازم وأما كون مطلوبه يقع فهذا يكون إن شاء الله . وطلبه للفعل يجب أن يكون من الله بحوله وقوته ، ففي الطلب : عليه أن يطلب من الله ، وفي الخبر : لا يخبر إلا بما علمه الله ; فإذا جزم بلا تعليق كان كالتألي على الله فيكذبه الله ، فالمسلم في الأمر الذي هو عازم عليه ومريد له وطالب له طلبا لا تردد فيه يقول : " إن شاء الله " لتحقيق مطلوبه وحصول ما أقسم عليه لكونه لا يكون إلا بمشيئة الله لا لتردد في إرادته ، والرب تعالى مريد لإنجاز ما وعدهم به إرادة جازمة لا مثنوية فيها وما شاء فعل فإنه - سبحانه - ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ليس كالعبد الذي يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد . فقوله سبحانه : { إن شاء الله } تحقيق أن ما وعدتكم به يكون لا محالة بمشيئتي وإرادتي فإن ما شئت كان وما لم أشأ لم يكن ; فكان الاستثناء هنا لقصد التحقيق لكونهم لم يحصل لهم مطلوبهم الذي وعدوا به ذلك العام ، وأما سائر ما وعدوا به فلم يكن كذلك .

                ولهذا تنازع الفقهاء فيمن أراد باستثنائه في اليمين هذا المعنى وهو التحقيق في استثنائه لا التعليق : هل يكون مستثنيا به أم تلزمه الكفارة إذا حنث ؟ بخلاف من ترددت إرادته فإنه يكون مستثنيا بلا نزاع والصحيح أنه [ ص: 458 ] يكون في الجميع مستثنيا لعموم المشيئة ولأن الرجل وإن كانت إرادته للمحلوف به جازمة فقد علقه بمشيئة الله فهو يجزم بإرادته له لا يجزم بحصول مراده ولا هو أيضا مريد له بتقدير ألا يكون ; فإن هذا تمييز لا إرادة فهو إنما التزمه إذا شاء الله فإذا لم يشأه لم يلتزمه بيمينه ولا حلف أنه يكون : وإن كانت إرادته له جازمة فليس كل ما أريد التزم باليمين فلا كفارة عليه . وقد تبين بما ذكرناه أن قول القائل : إن شاء الله يكون مع كمال إرادته في حصول المطلوب وهو يقولها لتحقيق المطلوب ; لاستعانته بالله في ذلك لا لشك في الإرادة هذا فيما يحلف عليه ويريده كقوله تعالى : { لتدخلن المسجد الحرام } فإنه خبر عما أراد الله كونه ، وهو عالم بأن سيكون وقد علقه بقوله : { إن شاء الله } فكذلك ما يخبر به الإنسان عن مستقبل أمره مما هو جازم بإرادته ، وجازم بوقوعه فيقول فيه : " إن شاء الله " لتحقيق وقوعه لا للشك لا في إرادته ولا في العلم بوقوعه . ولهذا يذكر الاستثناء عند كمال الرغبة في المعلق ، وقوة إرادة الإنسان له . فتبقى خواطر الخوف تعارض الرجاء ; فيقول : " إن شاء الله " لتحقيق رجائه مع علمه بأن سيكون كما يسأل الله ويدعوه في الأمر الذي قد علم أنه يكون كما { كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر قد أخبرهم بمصارع المشركين ثم هو بعد هذا يدخل إلى العريش يستغيث ربه ويقول : اللهم أنجز لي ما وعدتني } لأن العلم بما يقدره لا ينافي أن يكون قدره بأسباب ، والدعاء من أعظم [ ص: 459 ] أسبابه . كذلك رجاء رحمة الله وخوف عذابه من أعظم الأسباب في النجاة من عذابه وحصول رحمته

                التالي السابق


                الخدمات العلمية