الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                والمقصود أن الناس ينقسمون في الحقيقة إلى : " مؤمن " و " منافق " كافر في الباطن مع كونه مسلما في الظاهر وإلى كافر باطنا وظاهرا . ولما كثرت الأعاجم في المسلمين تكلموا بلفظ " الزنديق " وشاعت في لسان الفقهاء وتكلم الناس في الزنديق : هل تقبل توبته ؟ في الظاهر : إذا عرف بالزندقة ودفع إلى ولي الأمر قبل توبته فمذهب مالك وأحمد في أشهر الروايتين عنه وطائفة من أصحاب الشافعي وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة : أن توبته لا تقبل . والمشهور من مذهب الشافعي : قبولها كالرواية الأخرى عن أحمد وهو القول الآخر في مذهب أبي حنيفة ومنهم من فصل . والمقصود هنا : أن " الزنديق " في عرف هؤلاء الفقهاء هو المنافق الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم . وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره سواء أبطن دينا من الأديان : كدين اليهود والنصارى أو غيرهم . أو كان معطلا جاحدا للصانع والمعاد والأعمال الصالحة . ومن الناس من يقول : " الزنديق " هو الجاحد المعطل . وهذا يسمى [ ص: 472 ] الزنديق في اصطلاح كثير من أهل الكلام والعامة ونقلة مقالات الناس ; ولكن الزنديق الذي تكلم الفقهاء في حكمه : هو الأول ; لأن مقصودهم هو التمييز بين الكافر وغير الكافر والمرتد وغير المرتد ومن أظهر ذلك أو أسره .

                وهذا الحكم يشترك فيه جميع أنواع الكفار والمرتدين وإن تفاوتت درجاتهم في الكفر والردة فإن الله أخبر بزيادة الكفر كما أخبر بزيادة الإيمان بقوله : { إنما النسيء زيادة في الكفر } وتارك الصلاة وغيرها من الأركان أو مرتكبي الكبائر كما أخبر بزيادة عذاب بعض الكفار على بعض في الآخرة بقوله : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب } . فهذا " أصل " ينبغي معرفته فإنه مهم في هذا الباب . فإن كثيرا ممن تكلم في " مسائل الإيمان والكفر " - لتكفير أهل الأهواء - لم يلحظوا هذا الباب ولم يميزوا بين الحكم الظاهر والباطن مع أن الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة والإجماع المعلوم ; بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام . ومن تدبر هذا علم أن كثيرا من أهل الأهواء والبدع : قد يكون مؤمنا مخطئا جاهلا ضالا عن بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وقد يكون منافقا زنديقا يظهر خلاف ما يبطن .

                وهنا " أصل آخر " وهو أنه قد جاء في الكتاب والسنة وصف أقوام بالإسلام دون الإيمان . فقال تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم } وقال تعالى في قصة قوم لوط : { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين } { فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } وقد ظن طائفة من الناس أن هذه الآية تقتضي أن مسمى الإيمان والإسلام واحد . وعارضوا بين الآيتين ; وليس كذلك ; بل هذه الآية توافق الآية الأولى لأن الله أخبر أنه أخرج من كان فيها مؤمنا وأنه لم يجد إلا أهل بيت من المسلمين . وذلك لأن امرأة لوط كانت في أهل البيت الموجودين ولم تكن من المخرجين الذين نجوا ; بل كانت من الغابرين الباقين في العذاب وكانت في الظاهر مع زوجها على دينه وفي الباطن مع قومها على دينهم خائنة لزوجها تدل قومها على أضيافه . كما قال الله تعالى فيها : { ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما } . وكانت خيانتهما لهما في الدين لا في الفراش . فإنه ما بغت امرأة نبي قط ; إذ " نكاح الكافرة " قد يجوز في بعض الشرائع ويجوز في شريعتنا نكاح بعض الأنواع وهن الكتابيات وأما " نكاح البغي " فهو : دياثة . وقد صان الله النبي عن أن يكون ديوثا . ولهذا كان الصواب قول من قال من الفقهاء : بتحريم نكاح البغي حتى تتوب .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية