الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فجاءت بعدهم " المعتزلة " - الذين اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري وهم : عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء الغزال وأتباعهما - فقالوا : أهل الكبائر مخلدون في النار كما قالت الخوارج ولا نسميهم لا مؤمنين ولا كفارا ; بل فساق ننزلهم منزلة بين منزلتين . وأنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته وأن يخرج من النار بعد أن يدخلها . قالوا : ما الناس إلا رجلان : سعيد لا يعذب أو شقي لا ينعم ، والشقي نوعان : كافر وفاسق ولم يوافقوا الخوارج على تسميتهم كفارا . وهؤلاء يرد عليهم بمثل ما ردوا به على الخوارج . فيقال لهم كما أنهم قسموا الناس إلى مؤمن لا ذنب له وكافر لا حسنة له قسمتم الناس إلى مؤمن لا ذنب له وإلى كافر وفاسق لا حسنة له فلو كانت حسنات هذا كلها محبطة وهو مخلد في النار لاستحق المعاداة المحضة بالقتل والاسترقاق كما يستحقها المرتد ; فإن هذا قد أظهر دينه بخلاف المنافق . وقد قال تعالى في كتابه : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فجعل ما دون ذلك الشرك معلقا بمشيئته . ولا يجوز أن يحمل هذا على التائب ; فإن التائب لا فرق في حقه بين [ ص: 485 ] الشرك وغيره . كما قال سبحانه في الآية الأخرى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } فهنا عمم وأطلق لأن المراد به التائب وهناك خص وعلق .

                وقال تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير } { جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير } { وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور } { الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب } . فقد قسم سبحانه الأمة التي أورثها الكتاب واصطفاها " ثلاثة أصناف " : ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات وهؤلاء الثلاثة ينطبقون على الطبقات الثلاث المذكورة في حديث جبريل : " الإسلام " و " الإيمان " و " الإحسان " . كما سنذكره " إن شاء الله " . ومعلوم أن الظالم لنفسه إن أريد به من اجتنب الكبائر والتائب من جميع الذنوب فذلك مقتصد أو سابق فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب ; لكن من تاب كان مقتصدا أو سابقا ; كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات ; كما قال تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } فلا بد أن يكون هناك ظالم لنفسه موعود بالجنة ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر : أن ما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب مما يجزئ به ويكفر عنه خطاياه كما في الصحيحين [ ص: 486 ] عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه } وفي المسند وغيره أنه { لما نزلت هذه الآية : { من يعمل سوءا يجز به } قال أبو بكر : يا رسول الله جاءت قاصمة الظهر وأينا لم يعمل سوءا فقال : يا أبا بكر ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك اللأواء ؟ فذلك مما تجزون به } .

                و " أيضا " فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه يخرج أقوام من النار بعد ما دخلوها وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار . وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين : " الوعيدية " الذين يقولون : من دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها وعلى " المرجئة الواقفة " الذين يقولون : لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد أم لا كما يقول ذلك طوائف من الشيعة والأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية