الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وبعض الناس يقول : يا رب إني أخافك وأخاف من لا يخافك فهذا [ ص: 58 ] كلام ساقط لا يجوز ; بل على العبد أن يخاف الله وحده ولا يخاف أحدا فإن من لا يخاف الله أذل من أن يخاف فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان فالخوف منه قد نهى الله عنه وإذا قيل قد يؤذيني قيل : إنما يؤذيك بتسليط الله له وإذا أراد الله دفع شره عنك دفعه فالأمر لله ; وإنما يسلط على العبد بذنوبه وأنت إذا خفت الله فاتقيته وتوكلت عليه كفاك شر كل شر ولم يسلطه عليك فإنه قال : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } وتسليطه يكون بسبب ذنوبك وخوفك منه .

                فإذا خفت الله وتبت من ذنوبك واستغفرته لم يسلط عليك كما قال : { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } . وفي الآثار : { يقول الله : أنا الله لا إله إلا أنا ملك الملوك قلوب الملوك ونواصيها بيدي فمن أطاعني جعلت قلوب الملوك عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ; ولكن توبوا إلي وأطيعون أعطفهم عليكم } . ولما سلط الله العدو على الصحابة يوم أحد قال : { أولما أصابتكم مصيبة } الآية وقال : { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير } الآيات - والأكثرون يقرءون قاتل - والربيون الكثير عند جماهير السلف والخلف : هم الجماعات الكثيرة قال ابن مسعود وابن عباس في رواية عنه والفراء : ألوف كثيرة وقال ابن عباس في أخرى ومجاهد وقتادة : جماعات كثيرة وقرئ بالحركات الثلاث في الراء فعلى هذه القراءة فالربيون الذين قاتلوا معه : الذين ما وهنوا وما ضعفوا .

                وأما على قراءة أبي عمرو وغيره ففيها وجهان : - أحدهما : يوافق الأول أي الربيون يقتلون فما وهنوا أي ما وهن من بقي [ ص: 59 ] منهم لقتل كثير منهم أي ما ضعفوا لذلك ولا دخلهم خور ولا ذلوا لعدوهم بل قاموا بأمر الله في القتال حتى أدالهم الله عليهم وصارت كلمة الله هي العليا .

                والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل معه ربيون كثير فما وهن من بقي منهم لقتل النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يناسب صرخ الشيطان أن محمدا قد قتل لكن هذا لا يناسب لفظ الآية فالمناسب أنهم مع كثرة المصيبة ما وهنوا ولو أريد أن النبي قتل ومعه ناس لم يخافوا ; لم يحتج إلى تكثيرهم بل تقليلهم هو المناسب لها ; فإذا كثروا لم يكن في مدحهم بذلك عبرة .

                وأيضا لم يكن فيه حجة على الصحابة ; فإنهم يوم أحد قليلون والعدو أضعافهم فيقولون ولم يهنوا ; لأنهم ألوف ونحن قليلون . وأيضا فقوله : {وكأين من نبي } يقتضي كثرة ذلك وهذا لا يعرف أن أنبياء كثيرين قتلوا في الجهاد .

                وأيضا فيقتضي أن المقتولين مع كل واحد منهم ربيون كثير وهذا لم يوجد ; فإن من قبل موسى من الأنبياء لم يكونوا يقاتلون وموسى وأنبياء بني إسرائيل لم يقتلوا في الغزو ; بل ولا يعرف نبي قتل في جهاد فكيف يكون هذا كثيرا ويكون جيشه كثيرا والله سبحانه أنكر على من ينقلب سواء كان النبي مقتولا أو ميتا فلم يذمهم إذا مات أو قتل على الخوف بل على الانقلاب على الأعقاب ولهذا تلاها الصديق رضي الله عنه بعد موته صلى الله عليه وسلم فكأن لم يسمعوها قبل ذلك . ثم ذكر بعدها معنى آخر : وهو أن من كان قبلكم كانوا يقاتلون فيقتل منهم [ ص: 60 ] خلق كثير . وهم لا يهنون فيكون ذكر الكثرة مناسبا لأن من قتل مع الأنبياء كثير وقتل الكثير من الجنس يقتضي الوهن فما وهنوا وإن كانوا كثيرين ولو وهنوا دل على ضعف إيمانهم ولم يقل هنا : ولم ينقلبوا على أعقابهم فلو كان المراد أن نبيهم قتل لقال فانقلبوا على أعقابهم لأنه هو الذي أنكره إذا مات النبي أو قتل فأنكر سبحانه شيئين : الارتداد إذا مات أو قتل والوهن والضعف والاستكانة لما أصابهم في سبيل الله من استيلاء العدو ; ولهذا قال : { فما وهنوا لما أصابهم } إلخ .

                ولم يقل : فما وهنوا لقتل النبي ولو قتل وهم أحياء لذكر ما يناسب ذلك ولم يقل : { فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله } ومعلوم أن ما يصيب في سبيل الله في عامة الغزوات لا يكون قتل نبي . وأيضا فكون النبي قاتل معه أو قتل معه ربيون كثير : لا يستلزم أن يكون النبي معهم في الغزاة بل كل من اتبع النبي وقاتل على دينه فقد قاتل معه وكذلك كل من قتل على دينه فقد قتل معه وهذا الذي فهم الصحابة ; فإن أعظم قتالهم كان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم حتى فتحوا البلاد شاما ومصرا وعراقا ويمنا وعربا وعجما وروما ومغربا ومشرقا وحينئذ فظهر كثرة من قتل معه فإن الذين قاتلوا وأصيبوا وهم على دين الأنبياء كثيرون ويكون في هذه الآية عبرة لكل المؤمنين إلى يوم القيامة فإنهم كلهم يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم على دينه وإن كان قد مات والصحابة الذين يغزون في السرايا والنبي ليس معهم : كانوا معه يقاتلون وهم داخلون في قوله : { محمد رسول الله والذين معه } الآية وفي قوله : { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم } الآية . ليس من شرط من يكون مع المطاع أن يكون مشاهدا للمطاع ناظرا إليه .

                وقد قيل في : { ربيون } هنا : إنهم العلماء فلما جعل هؤلاء هذا كلفظ الرباني وعن ابن زيد هم الأتباع كأنه جعلهم المربوبين .

                والأول أصح من وجوه : - أحدها : أن الربانيين عين الأحبار وهم الذين يربون الناس وهم أئمتهم في دينهم ولا يكون هؤلاء إلا قليلا .

                الثاني : أن الأمر بالجهاد والصبر لا يختص بهم . وأصحاب الأنبياء لم يكونوا كلهم ربانيين وإن كانوا قد أعطوا علما ومعهم الخوف من الله عز وجل .

                الثالث : أن استعمال لفظ الرباني في هذا ليس معروفا في اللغة .

                الرابع : أن استعمال لفظ الربي في هذا ليس معروفا في اللغة بل المعروف فيها هو الأول والذين قالوه قالوا : هو نسبة للرب بلا نون والقراءة المشهورة ( ربي بالكسر وما قالوه إنما يتوجه على من قرأه بنصب الراء وقد قرئ بالضم فعلم أنها لغات .

                الخامس : أن الله تعالى يأمر بالصبر والثبات كل من يأمره بالجهاد سواء كان من الربانيين أو لم يكن .

                السادس : أنه لا مناسبة في تخصيص هؤلاء بالذكر وإنما المناسب ذكرهم في مثل قوله : { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار } الآية . وفي قوله : { ولكن كونوا ربانيين } فهناك ذكرهم به مناسب .

                السابع : قيل : إن الرباني منسوب إلى الرب فزيادة الألف والنون كاللحياني وقيل إلى تربيته الناس وقيل إلى ربان السفينة وهذا أصح فإن [ ص: 62 ] الأصل عدم الزيادة في النسبة لأنهم منسوبون إلى التربية وهذه تختص بهم وأما نسبتهم إلى الرب فلا اختصاص لهم بذلك بل كل عبد له فهو منسوب إليه إما نسبة عموم أو خصوص ولم يسم الله أولياءه المتقين ربانيين ولا سمى به رسله وأنبياءه فإن الرباني من يرب الناس كما يرب الرباني السفينة ولهذا كان الربانيون يذمون تارة ويمدحون أخرى ولو كانوا منسوبين إلى الرب لم يذموا قط وهذا هو الوجه الثامن : أنها إن جعلت مدحا فقد ذموا في مواضع وإن لم تكن مدحا لم يكن لهم خاصة يمتازون بها من جهة المدح وإذا كان منسوبا إلى رباني السفينة بطل قول من يجعل الرباني منسوبا إلى الرب فنسبة الربيين إلى الرب أولى بالبطلان .

                التاسع : أنه إذا قدر أنهم منسوبون إلى الرب : فلا تدل النسبة على أنهم علماء نعم تدل على إيمان وعبادة وتأله وهذا يعم جميع المؤمنين فكل من عبد الله وحده لا يشرك به شيئا فهو متأله عارف بالله والصحابة كلهم كذلك ولم يسموا ربانيين ولا ربيين وإنما جاء أن ابن الحنفية قال لما مات ابن عباس : اليوم مات رباني هذه الأمة وذلك لكونه يؤدبهم بما آتاه الله من العلم والخلفاء أفضل منهم ولم يسموا ربانيين وإن كانوا هم الربانيين وقال إبراهيم : كان علقمة من الربانيين ولهذا قال مجاهد : هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره فهم أهل الأمر والنهي والإخبار يدخل فيه من أخبر بالعلم ورواه عن غيره وحدث به وإن لم يأمر أو ينه وذلك هو المنقول عن السلف في الرباني نقل عن علي قال : " هم الذين يغذون الناس بالحكمة [ ص: 63 ] ويربونهم عليها " وعن ابن عباس قال : " هم الفقهاء المعلمون " .

                قلت : أهل الأمر والنهي هم الفقهاء المعلمون . وقال قتادة وعطاء : هم الفقهاء العلماء الحكماء . قال ابن قتيبة : وأحدهم رباني وهم العلماء المعلمون . قال أبو عبيد : أحسب الكلمة عبرانية أو سريانية وذلك أن أبا عبيد زعم أن العرب لا تعرف الربانيين .

                قلت : اللفظة عربية منسوبة إلى ربان السفينة الذي ينزلها ويقوم لمصلحتها ولكن العرب في جاهليتهم لم يكن لهم ربانيون لأنهم لم يكونوا على شريعة منزلة من الله عز وجل .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية