الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ثم الجهم بن صفوان ونفاة الصفات من المعتزلة ونحوهم لا يثبتون إرادة قائمة بذاته بل إما أن ينفوها ; وإما أن يجعلوها بمعنى الخلق والأمر ; وإما أن يقولوا : أحدث إرادة لا في محل . وأما مثبتة الصفات : كابن كلاب والأشعري وغيرهما - ممن يثبت [ ص: 343 ] الصفات ; ولا يثبت إلا واحدا معينا - فلا يثبت إلا إرادة واحدة تتعلق بكل حادث ; وسمعا واحدا معينا متعلقا بكل مسموع وبصرا واحدا معينا متعلقا بكل مرئي ; وكلاما واحدا بالعين يجمع جميع أنواع الكلام كما قد عرف من مذهب هؤلاء .

                فهؤلاء يقولون : جميع الحادثات صادرة عن تلك الإرادة الواحدة العين المفردة التي ترجح أحد المتماثلين لا بمرجح وهي المحبة والرضا وغير ذلك . وهؤلاء إذا شهدوا هذا لم يبق عندهم فرق بين جميع الحوادث في الحسن والقبح إلا من حيث موافقتها للإنسان ومخالفة بعضها له فما وافق مراده ومحبوبه كان حسنا عنده وما خالف ذلك كان قبيحا عنده فلا يكون في نفس الأمر حسنة يحبها الله ولا سيئة يكرهها إلا بمعنى أن الحسنة هي ما قرن بها لذة صاحبها والسيئة ما قرن بها ألم صاحبها من غير فرق يعود إليه ولا إلى الأفعال أصلا ; ولهذا كان هؤلاء لا يثبتون حسنا ولا قبيحا لا بمعنى الملائم للطبع والمنافي له والحسن والقبح الشرعي هو ما دل صاحبه على أنه قد يحصل لمن فعله لذة أو حصول ألم له .

                ولهذا يجوز عندهم أن يأمر الله بكل شيء حتى الكفر والفسوق والعصيان وينهى عن كل شيء حتى عن الإيمان والتوحيد ويجوز نسخ كل ما أمر به بكل ما نهى عنه . ولم يبق عندهم في الوجود خير ولا شر ولا حسن ولا قبيح إلا بهذا الاعتبار فما في الوجود ضر ولا نفع والنفع والضر [ ص: 344 ] أمران إضافيان فربما نفع هذا ما ضر هذا . كما يقال : مصائب قوم عند قوم فوائد . فلما كان هذا حقيقة قولهم الذي يعتقدونه ويشهدونه صاروا حزبين . ( حزبا من أهل الكلام والرأي أقروا بالفرق الطبيعي وقالوا : ما ثم فوق إلا الفرق الطبيعي ليس هنا فرق يرجع إلى الله بأنه يحب هذا ويبغض هذا .

                ثم منهم من يضعف عنده الوعد والوعيد إما لقوله بالإرجاء وإما لظنه أن ذلك لمصالح الناس في الدنيا إقامة للعدل كما يقول : ذلك من يقوله من المتفلسفة فلا يبقى عنده فرق بين فعل وفعل إلا ما يحبه هو ويبغضه فما أحبه هو كان الحسن الذي ينبغي فعله وما أبغضه كان القبيح الذي ينبغي تركه . وهذا حال كثير من أهل الكلام والرأي ; الذين يرون رأي جهم والأشعري ونحوهما في القدر تجدهم لا ينتهون في المحبة والبغضة والموالاة والمعاداة إلا إلى محض أهوائهم وإرادتهم وهو الفرق الطبيعي .

                ومن كان منهم مؤمنا بالوعد فإنه قد يفعل الواجبات ويترك المحرمات لكن لأجل ما قرن بهما من الأمور الطبيعية في الآخرة من أكل وشرب ونكاح وهؤلاء ينكرون محبة الله والتلذذ بالنظر إليه وعندهم إذا قيل : إن [ ص: 345 ] العباد يتلذذون بالنظر إليه فمعناه أنهم عند النظر يخلق لهم من اللذات بالمخلوقات ما يتلذذون به لا أن نفس النظر إلى الله يوجب لذة وقد ذكر هذا غير واحد منهم أبو المعالي في " الرسالة النظامية " .

                وجعل هذا من أسرار التوحيد هو من إشراك التوحيد الذي يسميه هؤلاء النفاة توحيدا لا من أسرار التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب ; فإن المحبة لا تكون إلا لمعنى في المحبوب يحبه المحب وليس عندهم في الموجودات شيء يحبه الرب إلا بمعنى يريده وهو مريد لكل الحوادث ; ولا في الرب عندهم معنى يحبه العبد وإنما يحب العبد ما يشتهيه وإنما يشتهي الأمور الطبيعية الموافقة لطبعه ولا يوافق طبعه عندهم إلا اللذات البدنية كالأكل والشرب والنكاح .

                و ( الحزب الثاني من الصوفية ) : الذي كان هذا المشهد هو منتهى سلوكهم عرفوا الفرق الطبيعي ; وهم قد سلكوا على ترك هذا الفرق الطبيعي وأنهم يزهدون في حظوظ النفس وأهوائها ; لا يريدون شيئا لأنفسهم ; وعندهم أن من طلب شيئا للأكل والشرب في الجنة فإنما طلب هواه وحظه ; وهذا كله نقص عندهم ينافي حقيقة الفناء في توحيد الربوبية ; وهو بقاء مع النفس وحظوظها . والمقامات كلها عندهم - التوكل والمحبة ; وغير ذلك - إنما هي منازل أهل الشرع السائرين إلى عين الحقيقة ; فإذا شهدوا توحيد الربوبية كان ذلك عندهم عللا في الحقيقة ; إما لنقص المعرفة والشهود وإما لأنه ذب عن [ ص: 346 ] النفس وطلب حظوظها ; فإنه من شهد أن كل ما في الوجود فالرب يحبه ويرضاه ويريده لا فرق عنده بين شيء وشيء إلا أن من الأمور ما معه حظ لبعض الناس من لذة يصيبها ومنها ما معه ألم لبعض الناس فمن كان هذا مشهده فإنه قطعا يرى أن كل من فرق بين شيء وشيء لم يفرق إلا لنقص معرفته ، وشهوده أن الله رب كل شيء ومريد لكل شيء ومحب - على قولهم - لكل شيء وإنما لفرق يرجع إلى حظه وهواه فيكون طالبا لحظه ذابا عن نفسه .

                وهذا علة وعيب عندهم . فصار عندهم كل من فرق : إما ناقص المعرفة والشهادة وإما ناقص القصد والإرادة . وكلاهما علة ; بخلاف صاحب الفناء في مشهد الربوبية فإنه يشهد كل ما في الوجود بإرادته ومحبته ورضاه عندهم لا فرق بين شيء وشيء فلا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة كما قاله صاحب منازل السائرين . ولهذا في الكلام المنقول عن الذبيلي وأبي يزيد أنه قال : إذا رأيت أهل الجنة يتنعمون في الجنة وأهل النار يعذبون في النار فوقع في قلبك فرق .

                خرجت عن حقيقة التوكل أو قال : عن التوحيد الذي هو أصل التوكل ومعلوم أن هذا الفرق لا يعدم من الحيوان دائما بل لا بد له منه يميل إلى ما لا بد له منه من أكل وشرب لكنه في حال الفناء قد يكون مستغرقا في ذلك المشهد ولكن لا بد أن يميل إلى أمور يحتاج إليها فيريدها وأمور تضره فيكرهها وهذا فرق طبيعي لا يخلو منه بشر . [ ص: 347 ]

                لكن قد يقولون بالفرق في الأمور الضرورية التي لا يقوم الإنسان إلا بها من طعام ولباس ونحو ذلك فيكتفون في الدنيا والآخرة بما لا بد منه من طعام ولباس ويرون هذا الزهد هو الغاية فيزهدون في كل شيء بمعنى أنهم لا يريدونه ولا يكرهونه ولا يحبونه ولا يبغضونه ويكون زهدهم في المساجد كزهدهم في الحانات ولهذا إذا قدم الشيخ الكبير منهم بلدا يبدأ بالبغايا في الحانات ويقول : كيف أنتم في قدر الله ; فإنه لا فرق عنده في هذا المشهد بين المساجد والكنائس والحانات ، وبين أهل الصلاة والإحرام وقراءة القرآن وأهل الكفر ، وقطاع الطريق والمشركين بالرحمن .

                ولا ريب أن فناءهم وغيبتهم عن شهود " الإلهية والنبوة " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وما تضمنه من الفرق يرجع إلى نقص العلم والشهود والإيمان والتوحيد فشهدوا نعتا من نعوت الرب وغابوا عن آخر وهذا نقص . وقد يرون أن شهود الذات مجردة عن الصفات أكمل ويقولون : شهود الأفعال ثم شهود الصفات ثم شهود الذات المجردة وربما جعلوا الأول للنفس والثاني للقلب ، والثالث للروح ، ويجعلون هذا النقص من إيمانهم ومعرفتهم وشهودهم هو الغاية فيكونون مضاهين للجهمية نفاة الصفات حيث أثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات .

                وقالوا : هذا هو الكمال لكن أولئك يقولون : بانتفائها في الخارج فيقولون : إنهم يشهدون أنها منتفية وهؤلاء يثبتونها في [ ص: 348 ] في الخارج علما واعتقادا ولكن يقولون : الكمال في أن يغيب عن شهودها ولا يشهدون نفيها ; لكن لا يشهدون ثبوتها وهذا نقص عظيم وجهل عظيم . أما " أولا " فلأنهم شهدوا الأمر على خلاف ما هو عليه فذات مجردة عن الصفات لا حقيقة لها في الخارج .

                وأما " الثاني " فهو مطلوب الشيطان منه التجهم ونفي الصفات فإن عدم العلم ، والشهود لثبوتها يوافق فيه الجهمي المعتقد لانتفائها ومن قال : أعتقد أن محمدا ليس برسول وقال الآخر : وإن كنت أعلم رسالته فأنا أفنى عنها فلا أذكرها ولا أشهدها فهذا كافر كالأول فالكفر عدم تصديق الرسول سواء كان معه اعتقاد تكذيب أم لا بل وعدم الإقرار بما جاء به والمحبة له فمن ألزم قلبه أن يغيب عن معرفة صفات الله كما يعرف ذاته وألزم قلبه أن يشهد ذاتا مجردة عن الصفات فقد ألزم قلبه أن لا يحصل له مقصود الإيمان بالصفات وهذا من أعظم الضلال .

                وأهل الفناء في توحيد الربوبية قد يظن أحدهم أنه إذا لم يشهد إلا فعل الرب فيه فلا إثم عليه وهم في ذلك بمنزلة من أكل السموم القاتلة ، وقال : أنا أشهد أن الله هو الذي أطعمني فلا يضرني وهذا جهل عظيم فإن الذنوب والسيئات تضر الإنسان أعظم مما تضره السموم وشهوده أن الله فاعل ذلك [ ص: 349 ] لا يدفع ضررها ولو كان هذا دافعا لضررها لكان أنبياء الله وأولياؤه المتقون أقدر على هذا الشهود الذي يدفعون به عن أنفسهم ضرر الذنوب .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية