الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وكلامنا الآن فيما احتجوا به على أنه لا بد في الدليل من مقدمتين لا أكثر ولا أقل وقد علم ضعفه .

                ثم إنهم لما علموا أن الدليل قد يحتاج إلى مقدمات وقد تكفي فيه مقدمة واحدة قالوا : إنه ربما أدرج في القياس قول زائد : أي مقدمة ثالثة زائدة على مقدمتين لغرض فاسد أو صحيح كبيان المقدمتين ويسمونه المركب . قالوا : ومضمونه أقيسة متعددة - سيقت لبيان أكثر من مطلوب واحد إلا أن المطلوب منها - بالذات ليس إلا واحدا . قالوا : وربما حذفت إحدى المقدمات إما للعلم بها أو لغرض فاسد وقسموا المركب إلى مفصول وموصول .

                فيقال هذا اعتراف منكم بأن من المطالب ما يحتاج إلى مقدمات وما يكفي فيه مقدمة واحدة . ثم قلتم إن ذلك الذي يحتاج إلى مقدمات هو في معنى [ ص: 177 ] أقيسة متعددة . فيقال لكم : إذا ادعيتم أن الذي لا بد منه إنما هو قياس واحد مشتمل على مقدمتين وأن ما زاد على ذلك هو في معنى أقيسة كل قياس لبيان مقدمة من المقدمات . فقولوا إن الذي لا بد منه هو مقدمة واحدة . وإن ما زاد على تلك المقدمة من المقدمات . فإنما هو لبيان تلك المقدمة . وهذا أقرب إلى المعقول . فإنه إذا لم يعلم ثبوت الصفة للموصوف وهو ثبوت الحكم للمحكوم عليه وهو ثبوت الخبر للمبتدأ أو المحمول للموضوع إلا بوسط بينهما هو الدليل فالذي لا بد منه هو مقدمة واحدة وما زاد على ذلك فقد يحتاج إليه وقد لا يحتاج إليه .

                وأما دعوى الحاجة إلى القياس الذي هو المقدمتان للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب فهو كدعوى الاحتياج في بعضها إلى ثلاث مقدمات وأربع وخمس ; للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب وليس تقدير عدد بأولى من عدد .

                وما يذكرونه من حذف إحدى المقدمتين لوضوحها أو لتغليط يوجد مثله في حذف الثالثة والرابعة . ومن احتج على مسألة بمقدمة لا تكفي وحدها لبيان المطلوب أو مقدمتين أو ثلاثة لا تكفي . طولب بالتمام الذي تحصل به كفاية . وإذا ذكرت المقدمات منع منها ما يقبل المنع وعورض منها ما يقبل المعارضة حتى يتم الاستدلال فمن طلب منه الدليل على تحريم شراب خاص قال : هذا حرام فقيل له لم ؟ قال : لأنه نبيذ مسكر فهذه [ ص: 178 ] المقدمة كافية إن كان المستمع يعلم أن كل مسكر حرام إذا سلم له تلك المقدمة وإن منعه إياها وقال لا نسلم أن هذا مسكر احتاج إلى بيانها بخبر من يوثق بخبره أو بالتجربة في نظيرها وهذا قياس تمثيل . وهو مفيد لليقين فإن الشراب الكثير إذا جرب بعضه وعلم أنه مسكر علم أن الباقي منه مسكر لأن حكم بعضه مثل بعضه . وكذلك سائر القضايا التجريبية كالعلم بأن الخبز يشبع والماء يروي وأمثال ذلك إنما مبناها على قياس التمثيل : بل وكذلك سائر الحسيات التي علم أنها كلية إنما هو بواسطة قياس التمثيل .

                وإن كان ممن ينازعه في أن النبيذ المسكر حرام . احتاج إلى مقدمتين . إلى إثبات أن هذا مسكر وإلى أن كل مسكر حرام فيثبت الثانية بأدلة متعددة كقول النبي صلى الله عليه وسلم { كل مسكر حرام } و { كل شراب أسكر فهو حرام } . وبأنه { سئل عن شراب يصنع من العسل يقال له البتع وشراب يصنع من الذرة يقال له المزر وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال : كل مسكر حرام } . وهذه الأحاديث في الصحيح وهي وأضعافها معروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أنه حرم كل شراب أسكر .

                فإن قال : أنا أعلم أنه خمر لكن لا أسلم أن الخمر حرام أو لا أسلم أنه حرام مطلقا أثبت هذه المقدمة الثالثة وهلم جرا .

                وما يبين لك أن المقدمة الواحدة قد تكفي في حصول المطلوب أن [ ص: 179 ] الدليل هو ما يستلزم الحكم المدلول عليه كما تقدم بيانه ; ولما كان الحد الأول مستلزما للأوسط . والأوسط للثالث ثبت أن الأول مستلزم للثالث . فإن ملزوم الملزوم ملزوم ولازم اللازم لازم فإن الحكم لازم من لوازم الدليل لكن لم يعرف لزومه إياه إلا بوسط بينهما فالوسط ما يقرن بقولك : لأنه . وهذا مما ذكره المنطقيون . وابن سينا وغيره ; ذكروا الصفات اللازمة للموصوف - وأن منها ما يكون بين اللزوم . وردوا بذلك على من فرق من أصحابهم بين الذاتي واللازم للماهية بأن اللازم ما افتقر إلى وسط بخلاف الذاتي فقالوا له كثير من الصفات اللازمة لا تفتقر إلى وسط وهي البينة اللزوم والوسط عند هؤلاء هو الدليل .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية