الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ( الوجه التاسع ) : أن الأنبياء والأولياء لهم من علم الوحي والإلهام ما هو خارج عن قياسهم الذي ذكروه بل الفراسة أيضا وأمثالها . فإن أدخلوا ذلك فيما ذكروه من الحسيات والعقليات لم يمكنهم نفي ما لم يذكروه ولم يبق لهم ضابط وقد ذكر ابن سينا وأتباعه : أن القضايا الواجب قبولها التي هي مادة البرهان : الأوليات والحسيات والمجربات والحدسيات والمتواترات وربما ضموا إلى ذلك قضايا معها حدودها ولم يذكروا دليلا على هذا الحصر ولهذا اعترف المنتصرون لهم أن هذا التقسيم منتشر غير منحصر يتعذر إقامة دليل عليه . وإذا كان كذلك لم يلزم أن كل ما لم يدخل في قياسهم لا يكون معلوما . وحينئذ فلا يكون المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها من الخطأ فإنه [ ص: 247 ] إذا ذكر له قضايا يمكن العلم بها بغير هذا الطريق لم يمكن وزنها بهذه الأدلة .

                وعامة هؤلاء المنطقيين يكذبون بما لم يستدل عليه بقياسهم وهذا في غاية الجهل . لا سيما إن كان الذي كذبوا به من أخبار الأنبياء .

                فإذا كان أشرف العلوم لا سبيل إلى معرفته بطريقهم لزم أمران : ( أحدهما ) : أن لا حجة لهم على ما يكذبون به مما ليس في قياسهم دليل عليه .

                و ( الثاني ) : أن ما علموه خسيس بالنسبة إلى ما جهلوه فكيف إذا علم أنه لا يفيد النجاة ولا السعادة

                ( الوجه العاشر ) : أنهم يجعلون ما هو علم يجب تصديقه ليس علما وما هو باطل وليس بعلم يجعلونه علما . فزعموا أن ما جاءت به الأنبياء في معرفة الله وصفاته والمعاد لا حقيقة له في الواقع وأنهم إنما أخبروا الجمهور بما يتخيلونه في ذلك لينتفعوا به في إقامة مصلحة دنياهم لا ليعرفوا بذلك الحق وأنه من جنس الكذب لمصلحة الناس ويقولون إن النبي حاذق بالشرائع العملية دون العلمية . ومنهم من يفضل الفيلسوف على كل نبي . وعلى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام ولا يوجبون اتباع نبي بعينه لا محمد ولا [ ص: 248 ] غيره . ولهذا لما ظهرت التتار وأراد بعضهم الدخول في الإسلام قيل : إن " هولاكو " أشار عليه بعض من كان معه من الفلاسفة بأن لا يفعل قال : ذاك لسانه عربي ولا تحتاجون إلى شريعته .

                ومن تبع النبي منهم في الشرائع العملية لا يتبعه في أصول الدين والاعتقاد ; بل النبي عندهم بمنزلة أحد الأئمة الأربعة عند المتكلمين فإن أئمة الكلام إذا قلدوا مذهبا من المذاهب الأربعة اقتصروا في تقليده على القضايا الفقهية ولا يلتزمون موافقته في الأصول ومسائل التوحيد . بل قد يجعلون شيوخهم المتكلمين أفضل منهم في ذلك .

                وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بأسمائه وصفاته المعينة . وعن الملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار وليس في ذلك شيء يمكن معرفته بقياسهم وكذا أخبر عن أمور معينة مما كان وسيكون وليس شيء من ذلك يمكن معرفته بقياسهم : لا البرهاني ولا غيره فإن أقيستهم لا تفيد إلا أمورا كلية وهذه أمور خاصة وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بما يكون من الحوادث المعينة حتى أخبر عن التتر الذين جاءوا بعد ستمائة سنة من إخباره وكذلك عن النار التي خرجت قبل مجيء التتر سنة خمس وخمسين وستمائة هـ . فهل يتصور أن قياسهم وبرهانهم يدل على آدمي معين أو أمة معينة فضلا عن موصوف بالصفات التي ذكرها ؟ .

                [ ص: 249 ] ثم من بلاياهم وكفرياتهم أنهم قالوا : إن الباري - تعالى - لا يعلم الجزئيات ولا يعرف عين موسى وعيسى ولا غيرهما ولا شيئا من تفاصيل الحوادث . والكلام والرد عليهم في ذلك مبسوط في موضعه .

                والمقصود أن يعرف الإنسان أنهم يقولون من الجهل والكفر ما هو في غاية الضلال . فرارا من لازم ليس لهم قط دليل على نفيه .

                ( الوجه الحادي عشر ) : أنهم معترفون بالحسيات الظاهرة والباطنة كالجوع والألم واللذة . ونفوا وجود ما يمكن أن يختص برؤيته بعض الناس كالملائكة والجن وما تراه النفس عند الموت . والكتاب والسنة ناطقان بإثبات ذلك . ولبسط هذه الأمور موضع آخر . وإنما المقصود أن ما تلقوه من القواعد الفاسدة المنطقية من نفي ما لم يعلم نفيه أوجب لهم من الجهل والكفر ما صار حاجبا وأنهم به أسوأ حالا من كفار اليهود والنصارى .

                ( الوجه الثاني عشر ) أن يقال : كون القضية " برهانية " معناه عندهم أنها معلومة للمستدل بها وكونها " جدلية " معناه كونها مسلمة وكونها " خطابية " معناه كونها مشهورة أو مقبولة أو مظنونة . وجميع هذه الفروق هي نسب وإضافات عارضة للقضية ليس فيها ما هو صفة ملازمة لها فضلا [ ص: 250 ] عن أن يكون ذاتية لها على أصلهم . بل ليس فيها ما هو صفة لها في نفسها بل هذه صفات نسبية باعتبار شعور الشاعر بها . ومعلوم أن القضية قد تكون حقا والإنسان لا يشعر بها ; فضلا عن أن يظنها أو يعلمها . وكذلك قد تكون خطابية أو جدلية وهي حق في نفسها بل تكون برهانية أيضا كما قد سلموا ذلك . وإذا كان كذلك فالرسل صلوات الله عليهم أخبروا بالقضايا التي هي حق في نفسها لا تكون كذبا باطلا قط . وبينوا من الطرق العلمية التي يعرف بها صدق القضايا ما هو مشترك . فينتفع به جنس بني آدم وهذا هو العلم النافع للناس .

                وأما هؤلاء المتفلسفة فلم يسلكوا هذا المسلك . بل سلكوا في القضايا الأمر النسبي فجعلوا البرهانيات ما علمه المستدل وغير ذلك لم يجعلوه برهانيا وإن علمه مستدل آخر . وعلى هذا فيكون من البرهانيات عند إنسان وطائفة ما ليس من البرهانيات عند آخرين . فلا يمكن أن تحد القضايا العلمية بحد جامع بل تختلف باختلاف أحوال من علمها ومن لم يعلمها حتى إن أهل الصناعات عند أهل كل صناعة من القضايا التي يعلمونها ما لا يعلمها غيرهم وحينئذ فيمتنع أن تكون طريقتهم مميزة للحق من الباطل والصدق من الكذب باعتبار ما هو الأمر عليه في نفسه عند أهل كل صناعة من الحق والباطل ومن الصدق والكذب . ويمتنع أن تكون منفعتها مشتركة بين الآدميين ; بخلاف طريقة الأنبياء فإنهم أخبروا بالقضايا الصادقة التي تفرق بين الحق والباطل [ ص: 251 ] والصدق والكذب فكل ما ناقض الصدق فهو كذب وكل ما ناقض الحق فهو باطل فلهذا جعل الله ما أنزله من الكتاب حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه . وأنزل أيضا الميزان وما يوزن به ويعرف به الحق من الباطل . ولكل حق ميزان يوزن به بخلاف ما فعله الفلاسفة المنطقيون فإنه لا يمكن أن يكون هاديا للحق ولا مفرقا بين الحق والباطل ولا هو ميزان يعرف به الحق من الباطل .

                وأما المتكلمون فما كان في كلامهم موافقا لما جاءت به الأنبياء فهو منه . وما خالفه فهو من البدع الباطلة شرعا وعقلا .

                فإن قيل : نحن نجعل البرهانيات إضافية . فكل ما علمه الإنسان بمقدماته فهو برهاني عنده وإن لم يكن برهانيا عند غيره .

                قيل : لم يفعلوا ذلك فإن من سلك هذا السبيل لم يجد مواد البرهان في أشياء معينة مع إمكان علم كثير من الناس لأمور أخرى بغير تلك المواد المعينة التي عينوها . وإذا قالوا : نحن لا نعين المواد فقد بطل أحد أجزاء المنطق وهو المطلوب .

                ( الوجه الثالث عشر ) : أنهم لما ظنوا أن طريقهم كلية محيطة بطرق العلم الحاصل لبني آدم - مع أن الأمر ليس كذلك وقد علم الناس إما بالحس وإما [ ص: 252 ] بالعقل وإما بالأخبار الصادقة معلومات كثيرة لا تعلم بطرقهم التي ذكروها . ومن ذلك ما علمه الأنبياء صلوات الله عليهم من العلوم - أرادوا إجراء ذلك على قانونهم الفاسد .

                فقالوا : النبي له قوة أقوى من قوة غيره . وهو أن يكون بحيث ينال الحد الأوسط من غير تعليم معلم فإذا تصور أدرك بتلك القوة الحد الذي قد يتعسر أو يتعذر على غيره إدراكه بلا تعليم ; لأن قوى الأنفس في الإدراك غير محدودة : فجعلوا ما يخبر به الأنبياء من أنباء الغيب إنما هو بواسطة القياس المنطقي وهذا في غاية الفساد . فإن القياس المنطقي إنما تعرف به أمور كلية كما تقدم وهم يسلمون ذلك والرسل أخبروا بأمور معينة شخصية جزئية ماضية وحاضرة ومستقبلة فعلم بذلك أن ما علمته الرسل لم يكن بواسطة القياس المنطقي . بل جعل ابن سينا علم الرب بمفعولاته في هذا الباب تعالى الله عن قوله علوا كبيرا .

                وقد تبين بما تقرر فساد ما ذكروه في المنطق من حصر طريق العلم : مادة وصورة وتبين أنهم أخرجوا من العلوم الصادقة أجل وأعظم وأكثر مما أثبتوه وأن ما ذكروه من الطريق إنما يفيد علوما قليلة خسيسة لا كثيرة ولا شريفة . وهذه مرتبة القوم ; فإنهم من أخس الناس علما وعملا . وكفار اليهود والنصارى أشرف علما وعملا منهم من وجوه كثيرة . والفلسفة كلها لا يصير صاحبها في درجة اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل [ ص: 253 ] فضلا عن درجتهم قبل ذلك . وقد أنشد ابن القشيري في الرد على " الشفاء " لابن سينا :

                قطعنا الأخوة من معشر بهم مرض من كتاب الشفا     وكم قلت : يا قوم أنتم على
                شفا جرف من كتاب الشفا     فلما استهانوا بتنبيهنا
                رجعنا إلى الله حتى كفى     فماتوا على دين رسطالس
                وعشنا على ملة المصطفى

                . فإن قيل : ما ذكره أهل المنطق من حصر طرق العلم يوجد نحو منه في كلام متكلمي المسلمين . بل منهم من يذكره بعينه إما بعباراتهم وإما بتغيير العبارة .

                فالجواب : أن ليس كل ما يقوله المتكلمون حقا بل كل ما جاءت به الرسل فهو حق . وما قاله المتكلمون وغيرهم مما يوافق ذلك فهو حق . وما قالوه مما يخالفه فهو باطل . وقد عرف ذم السلف والأئمة لأهل الكلام المحدث .

                قال : والعجب من قوم أرادوا بزعمهم نصر الشرع بعقولهم الناقصة وأقيستهم الفاسدة . فكان ما فعلوه مما جرأ الملحدين أعداء الدين [ ص: 254 ] عليه فلا الإسلام نصروا ولا الأعداء كسروا . ثم من العجائب أنهم يتركون أتباع الرسل المعصومين الذين لا يقولون إلا الحق ويعرضون عن تقليدهم ويقلدون ويساكنون مخالف ما جاءوا به من يعلمون أنه ليس بمعصوم وأنه يخطئ تارة ويصيب أخرى والله الموفق للصواب .

                قال " السيوطي " : هذا آخر ما لخصته من كتاب ابن تيمية . وقد أوردت عبارته بلفظه من غير تصرف في الغالب . وحذفت من كتابه الكثير فإنه في عشرين كراسا . ولم أحذف من المهم شيئا ولله الحمد والمنة .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية