الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              قوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء

                                                                                                                                                                                              في قوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء دلت هذه الآية على إثبات الخشية للعلماء بالاتفاق وعلى نفيها عن غيرهم على أصح القولين، وعلى نفي العلم عن غير أهل الخشية أيضا .

                                                                                                                                                                                              [ ص: 105 ] أما الأول: فلا ريب فيه فإن صيغة "إنما" تقتضي تأكد ثبوت المذكور بالاتفاق; لأن خصوصية "إن" إفادة التأكيد وأما "ما": فالجمهور على أنها كافة، ثم قال جمهور النحاة: هي الزائدة التي تدخل على إن، وأن، وليت، ولعل، وكأن، فتكفها عن العمل لأن الأصل في الحروف العاملة أن تكون محضة فإذا اختصت بالاسم أو الفعل ولم يكن كالجزء منه عملت فيه، وإن وأخواتها مختصة بالاسم فتعمل فيه فإذا دخلت عليها "ما" زالت اختصاصها فصارت تدخل على الجملة الاسمية والفعلية فبطل عملها وإنما عملت "ما" النافية على اللغة التي نزل بها القرآن وهي لغة أهل الحجاز استحسانا لمشابهتها لـ "ليس " وذهب بعض الكوفيين، وابن درستويه إلى أن "ما" مع هذه الحروف اسم مبهم بمنزلة ضمير الشأن في التفخيم والإبهام وفي أن الجملة بعده مفسرة له ومخبر بها عنه، وذهبت طائفة من الأصوليين وأهل البيان إلى أن "ما" هذه نافية واستدلوا بذلك على إفادتها الحصر .

                                                                                                                                                                                              وأن "إن" أفادت الإثبات في المذكور، و"ما" النفي فيما عداه وهذا باطل باتفاق أهل المعرفة باللسان فإن "إن" إنما تفيد توكيد الكلام إثباتا كان أو نفيا لا يفيد الإثبات .

                                                                                                                                                                                              و"ما" زائدة كافة لا نافية وهي الداخلة على سائر أخوات إن: لكن وكأن وليت ولعل، وليست في دخولها على هذه الحروف نافية بالاتفاق فكذلك الداخلة على إن وأن، وقد نسب القول بأنها نافية إلى أبي علي الفارسي لقوله في كتاب "الشيرازيات ": إن العرب عاملوا "إنما" معاملة النفي و"إلا" في فصل الضمير لقوله:

                                                                                                                                                                                              "وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي " .

                                                                                                                                                                                              [ ص: 106 ] وهذا لا يدل على أن "ما" نافية على ما لا يخفى وإنما مراده أنهم أجروا "إنما" مجرى النفي و"إلا" في هذا الحكم لما فيها معنى النفي ولم يصرح بأن النفي مستفاد من "ما" وحدها، وقيل: إنه لا يمتنع أن يكون "ما" في هذه الآية بمعنى الذي والعلماء خبر والعائد مستتر في يخشى .

                                                                                                                                                                                              وأطلقت "ما" على جماعة العقلاء كما في قوله تعالى: أو ما ملكت أيمانكم و فانكحوا ما طاب لكم من النساء

                                                                                                                                                                                              وأما دلالة إلا على التأكيد وهو نفي الخشية عن غير العلماء فمن صيغة "إنما" أما على قول الجمهور وأن "ما" هي الكافة فيقول إذا دخلت "ما" الكافة على "إن " أفادت الحصر هذا هو الصحيح، وقد حكاه بعض العلماء عن جمهور الناس وهو قول أصحابنا كالقاضي، وابن عقيل ، والحلواني، والشيخ موفق الدين، وفخر الدين إسماعيل بن علي صاحب ابن المني، وهو قول أكثر الشافعية كأبي حامد وأبي الطيب، والغزالي والهراسي، وقول طائفة من الحنفية كالجرجاني، وكثير من المتكلمين كالقاضي أبي بكر ، وغيره، وكثير من النحاة وغيرهم، بل قد حكاه أبو علي فيما ذكره الرازي عن النحاة جملة، ولكن اختلفوا في دلالتها على النفي هل هو بطريق المنطوق، أو بطريق المفهوم؟ فقال كثير من أصحابنا، كالقاضي في أحد قوليه وصاحب ابن المني والشيخ موفق الدين: إن دلالتها على النفي بالمنطوق كالاستثناء سواء وهو قول أبي حامد، وأبي الطيب من الشافعية، والجرجاني من الحنفية، وذهبت طائفة من أصحابنا كالقاضي في قوله الآخر وابن عقيل والحلواني، إلى أن دلالتها على النفي بطريق المفهوم وهو قول كثير من الحنفية، [ ص: 107 ] والمتكلمين، واختلفوا أيضا هل دلالتها على النفي بطريق النص، أو الظاهر؟ فقالت طائفة: إنما تدل على الحصر ظاهرا، أو يحتمل التأكيد، وهذا الذي حكاه الآمدي عن القاضي أبي بكر ، والغزالي، والهراسي، وغيرهم من الفقهاء وهو يشبه قول من يقول إن دلالتها بطريق المفهوم فإن أكثر دلالات المفهوم بطريق الظاهر لا النص، وظاهر كلام كثير من أصحابنا وغيرهم، أن دلالتها على النفي والإثبات كليهما بطريق النص لأنهم جعلوا "إنما" كالمستثنى والمستثنى منه سواء وعندهم أن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات، نصا لا محلا .

                                                                                                                                                                                              وأما من قال: إن الاستثناء ليس لإثبات النقيض بل لرفع الحكم إما مطلقا أو في الاستثناء من الإثبات وحده كما يذكر عن الحنفية وجعلوه من باب المفهوم الذي ينفونه، فهو يقول ذلك في "إنما" بطريق الأولى فظهر بهذا أن المخالف في إفادتها الحصر هو من القائلين بأن دلالتها على النفي بالمفهوم وهم قسمان:

                                                                                                                                                                                              أحدهما: من لا يرى كون المفهوم حجة بالكلية كالحنفية، ومن وافقهم من المتكلمين .

                                                                                                                                                                                              والثاني: من يراه حجة من الجملة، ولكن ينفيه هاهنا لقيام الدليل عنده على أنه لا مفهوم لها، واختاره بعض المتأخرين من أصحابنا، وغيرهم، وبيان ذلك أن "إنما" مركبة من "إن " المؤكدة و"ما" الزائدة الكافة فيستفاد التوكيد من "إن " والزائد لا معنى له نعم أكثر ما يقال "إن " تفيد تقوية التوكيد كما في الباء الزائدة ونحوها، فأما أن يحدث معنى آخر فلا، وقد يعدم بيان بطلان [ ص: 108 ] قول من ادعى أن "ما" نافية وأن النفي فيما عدا المذكور مستفاد منها .

                                                                                                                                                                                              وأيضا فورودها لغير الحصر كثير جدا كقوله تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إنما الربا في النسيئة"، وقوله: "إنما الشهر تسع وعشرون " وغير ذلك من النصوص ويقال: "إنما العالم زيد" ومثل هذا لو أريد به الحصر لكان هذا، وقد يقال: إن أغلب مواردها لا تكون فيها للحصر فإن قوله تعالى: إنما الله إله واحد لا تفيد الحصر مطلقا فإنه سبحانه وتعالى له أسماء وصفات كثيرة غير توحده بالإلهية، وكذلك قوله: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فإنه لم ينحصر الوحي إليه في هذا وحده . وكذلك قوله: إنما أنت منذر ومثل هذا كثير جدا ومما يبين عدم إفادتها للحصر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" فلو كانت "إنما" للحصر لبطلت أن تكون سائر آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته سوى القرآن آيات له تدل على صدقه لاعترافه بنفي ذلك وهذا باطل قطعا فدل على أن "إنما" لا تفيد الحصر في مثل هذا الكلام وشبهه .

                                                                                                                                                                                              والصواب: أنها تدل على الحصر، ودلالتها عليه معلوم بالاضطرار من لغة العرب، كما يعلم من لغتهم بالاضطرار معاني حروف الشرط والاستفهام [ ص: 109 ] والنفي والنهي وغير ذلك ولهذا يتوارد "إنما" وحروف الشرط والاستفهام والنفي الاستثناء كما في قوله تعالى: إنما تجزون ما كنتم تعملون وقوله: أنما إلهكم إله واحد وقوله: إنما الله إله واحد إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو فإنه كقوله: وما من إله إلا الله وقوله: (ما لكم من إله غيره) ، ونحو ذلك، ولهذا كانت كلها واردة في سياق نفي الشرك وإبطال إلهية سوى الله سبحانه، وأما أنها مركبة من "إن " و"ما" الكافة فمسلم، ولكن قولهم إن "ما" الكافة أكثر ما تفيده قوة التوكيد لا تثبت معنى زائدا، يجاب عنه من وجوه:

                                                                                                                                                                                              أحدها: أن "ما" الكافة قد تثبت بدخولها على الحروف معنى زائدا، وقد ذكر ابن مالك أنها إذا دخلت على الباء أحدثت معنى التقليل، كقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                              فالآن صرت لا تحيد جوابا بما قد يرى وأنت حطيب



                                                                                                                                                                                              قال: وكذلك تحدث في "الكاف " معنى التعليل، في نحو قوله تعالى: واذكروه كما هداكم ولكن قد نوزع في ذلك وادعى أن "الباء" و"الكاف " للسببية، وأن "الكاف " بمجردها تفيد التعليل .

                                                                                                                                                                                              والثاني: أن يقال: لا ريب أن "إن " تفيد توكيد الكلام، و"ما" الزائدة تقوي هذا التوكيد وتثبت معنى الكلام فتفيد ثبوت ذلك المعنى المذكور في اللفظ خاصة ثبوتا لا يشاركه فيه غيره واختصاصه به، وهذا من نوع التوكيد والثبوت ليس معنى آخر مغايرا له وهو الحصر المدعى ثبوته بدخول "ما" يخرج عن إفادة قوة معنى التوكيد وليس ذلك بمنكر إذ المستنكر ثبوت معنى آخر بدخول الحرف الزائد من غير جنس ما يفيده الحرف الأول .

                                                                                                                                                                                              [ ص: 110 ] الوجه الثالث: أن "إن" المكفوفة "بما" استعملت في الحصر فصارت حقيقة عرفية فيه، واللفظ يصير له بالاستعمال معنى غير ما كان يقتضيه أصل الوضع، وهكذا يقال في الاستثناء فإنه وإن كان في الأصل للإخراج من الحكم لكن صار حقيقة عرفية في مناقضة المستثنى فيه، وهذا شبيه بنقل اللفظ عن المعنى الخاص إلى العام إذا صار حقيقة عرفية فيه لقولهم "لا أشرب له شربة ماء" ونحو ذلك، ولنقل الأمثال السائرة ونحوها مما ليس هذا موضع بسطه، وهذا الجواب ذكره أبو العباس ابن تيمية في بعض كلامه القديم وهو يقتضي أن دلالة "إنما" على الحصر إنما هو بطريق العرف والاستعمال لا بأصل وضع اللغة، وهو قول حكاه غيره في المسألة .

                                                                                                                                                                                              وأما قوله تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم

                                                                                                                                                                                              وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الربا في النسيئة"، و "إنما الشهر تسع وعشرون" وقولهم: "إنما العالم زيد" ونحو ذلك، فيقال: معلوم من كلام العرب أنهم ينفون الشيء في صيغ الحصر وغيرها تارة لانتفاء ذاته وتارة لانتفاء فائدته ومقصوده، ويحصرون الشيء في غيره تارة لانحصار جميع الجنس فيه وتارة لانحصار المفيد أو الكامل فيه، ثم إنهم تارة يعيدون النفي إلى المسمى وتارة إلى الاسم وإن كان ثابتا في اللغة إذا كان المقصود الحقيقي بالاسم منتفيا عنه ثابتا لغيره لقوله تعالى: قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليكم من ربكم فنفى عنهم مسمى الشيء مع أنه في الأصل شامل لكل موجود من حق وباطل كما كان ما لا يفيد ولا منفعة فيه يؤول إلى الباطل الذي هو العدم فيصير بمنزلة المعدوم بل قد يكون أولى بالعدم من المعدم المستمر عدمه لأنه قد يكون فيه ضرر فمن قال الكذب فلم يقل شيئا [ ص: 111 ] ولم يعمل ما ينفعه بل ما يضره، ولهذا لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكفار فقال: "ليسوا بشيء"، ويقول أهل الحديث عن بعض الرواة المجروحين والأحاديث الواهية: "ليس بشيء" إذا لم يكن مما ينتفع به في الرواية لظهور كذبه عمدا أو خطأ، ويقال أيضا لمن خرج عن موجب الإنسانية في الأخلاق ونحوها: هذا ليس بآدمي ولا إنسان وما فيه إنسانية، ومنه قول النسوة في يوسف عليه السلام: ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم وكذلك قول الله تعالى: فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان إنما المسكين الذي لا يجد ما يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس إلحافا"، وكذلك قال: "ما تعدون المفلس فيكم؟ " قالوا: الذي لا درهم له ولا دينار قال: "ليس ذلك بالمفلس، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ويجيء وقد شتم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا لم يتبق له حسنة أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم ألقي في النار" وقال: "ما تعدون الرقوب فيكم؟ " قالوا: الرقوب من لا يولد له . قال: "الرقوب من لم يقدم من ولده شيئا" .

                                                                                                                                                                                              وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس" .

                                                                                                                                                                                              [ ص: 112 ] وأمثال ذلك، فهذا كله نفي لحقيقة الاسم من جهة المضي الذي يجب اعتباره، فإن اسم الرقوب والمفلس والغني والشديد ونحو ذلك إنما يتعارفه الناس فيمن عدم ماله وولده أو حصل له مال أو قوة في بدنه، والنفوس تجزع من الأولين وترغب في الآخرين، فيعتقد أنه هو المستحق لهذا الاسم دون غيره فبين - صلى الله عليه وسلم - أن حقيقة ذلك المعنى ثابتة لغير هذا المتوهم على وجه ينبغي بعلو الاعتقاد والقصد بذلك الغير فإن من عدم المال والولد يوم القيامة حيث يضر عدمه أحق باسم المفلس والرقوب ممن يعدمهما حيث قد لا يتضرر بذلك تضررا معتبرا ولذلك وجود غنى النفس وقوتها أحق بالمدح والطلب من قوة البدن وغنى المال وهكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الربا في النسيئة" أو "لا ربا إلا في النسيئة" . فإن الربا العام الشامل للجنسين، والجنس الواحد المتفقة صفاته إنما يكون في النسيئة وأما ربا الفضل فلا يكون إلا في الجنس الواحد ولا يفعله أحد إلا إذا اختلفت الصفات، كالمضروب بالتبر، والجيد بالرديء، فأما مع استواء الصفات فلا يبيع أحد درهما بدرهمين، وأيضا فربا الفضل إنما حرم لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة كما في "المسند" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين؛ إني أخاف عليكم الربا" .

                                                                                                                                                                                              فالربا المقصود بالقصد الأول هو ربا النسيئة، فإذا بيع مائة بمائة وعشرين مع اتفاق الصفات ظهرت أن الزيادة قابلت الأجل الذي لا منفعة فيه وإنما دخل فيه للحاجة، ولهذا لا يضمن الآجال باليد فلو بقيت العين في يده، أو المال في ذمته مدة لم يضمن الأجل بخلاف زيادة الصفة، فإنها مضمونة في الإتلاف والغصب وفي المبيع إذا قابلت غير الجنس، فلهذا قيل: إنما الربا في [ ص: 113 ] النسيئة ولا ربا إلا في النسيئة، فإن المستحق لاسم الربا في الحقيقة هو ربا النسيئة ولذلك نفى الأسماء الشرعية لانتفاء بعض واجباتها لقوله: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم إلى قوله: أولئك هم المؤمنون حقا وهؤلاء هم المستحقون لهذا الاسم على الحقيقة الواجبة دون من أخل بشيء من واجبات الإيمان والإسلام عمن انتفى عنه بعض واجباتهما لقوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" الحديث، وقوله: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، وقوله: "المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله"، ومثل هذا كثير، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الشهر تسع وعشرون" فإن هذا هو عدد الشهر اللازم الدائم، واليوم الزائد على ذلك أمر جائز يكون في بعض الشهور ولا يكون في بعضها، بخلاف التسعة والعشرين، فإنه يجب عددها واعتبارها بكل حال، وهذا كما يقال: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .

                                                                                                                                                                                              فهذا هو الذي لا بد منه، وما زاد على ذلك فقد يجب على الإنسان، وقد يموت قبل التمكن، فلا يكون الإسلام في حقه إلا ما تكلم به، وحاصل الأمر أن الكلام الخبري هو إما إثبات أو نفي فكما أنهم في الإثبات يثبتون للشيء اسم الشيء إذا حصل فيه مقصود الاسم وإن انتفت صورة المسمى، فكذلك [ ص: 114 ] في النفي، فإن أدوات النفي تدل على انتفاء الاسم بانتفاء مسماه فذلك تارة لأنه لم يوجد أصلا، وتارة لأنه لم توجد الحقيقة المقصودة بالمسمى، وتارة لأنه لم تكن تلك الحقيقة، وتارة لأن ذلك المسمى مما لا ينبغي أن يكون مقصودا بل المقصود غيره، وتارة لأسباب أخر وهذا كله إنما يظهر من سياق الكلام وما اقترن به من القرائن اللفظية التي لا تخرجه عن كونه حقيقة عند الجمهور ولكون المركب قد صار موضوعا لذلك المعنى، أو من القرائن الحالية التي تجعله مجازا عند الجمهور، وأما إذا أطلق الكلام مجردا عن القرينتين فمعناه السلب المطلق وهو أكثر الكلام وهذا الجواب ملخص من كلام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية - رحمه الله .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية