الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ولقد ذكر سبحانه وتعالى محاولتهم تكذيب ما يقال عنهم بالحلف، والحلف الكاذب شارة المهانة ، كما قال تعالى: ولا تطع كل حلاف مهين فقال سبحانه وتعالى عنهم: يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين

                                                          [ ص: 3354 ] إن هؤلاء المنافقين حاولوا الكذب على النبي، وأيدوا كذبهم بأيمان غموس غير صادقة، وحسبوا أن ذلك يخدع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وظنوا أنهم قادرون على ذلك بأيمانهم لأنه أذن، وقد بين سبحانه وتعالى فساد زعمهم في الآية السابقة، وفي هذه الآية حاولوا أن يخدعوا المؤمنين بأيمانهم الكاذبة; لأنهم يعيشون في أوساطهم ويساكنونهم ويجاورونهم، فحاولوا أن ينفوا عنهم نفاقهم بالأداة التي يملكونها ويملكها كل فاجر كافر، فأخذوا يحلفون، وقال الله تعالى في ذلك: يحلفون بالله لكم ليرضوكم لقد تخلفوا عن الجهاد في وقت النفير إلى بني الأصفر المتكاثف عددهم، فكانوا بذلك جبناء، وكانوا كاذبين في ادعائهم الكاذب، وثبت بدليل قاطع نفاقهم، والمنافق في وسط عربي صريح يعلن القوة، ولا يتقبل المعاذر - مشنوء مهين، فكانوا يحاولون تبرئة أنفسهم بالأيمان.

                                                          وقوله: يحلفون بالله لكم التعبير بالمضارع؛ لأنهم يحلفون في الحال لا في الماضي، وفيه إشارة إلى أن الحلف شأنهم وهو متجدد، وكلما كذبوا حلفوا، وكلما تخلفوا بأعذار غير صادقة حلفوا، فالحلف ديدنهم.

                                                          وقوله تعالى: (لكم) إشارة إلى أن من معهم من العشراء والجيران من المؤمنين هم المقصودون، وقد صرح سبحانه وتعالى بذلك فقال: (ليرضوكم) أي أن الباعث لهم على هذا الحلف الكذب إرضاؤكم، وإزالة الوحشة بينكم وبينهم، وزوال النفرة التي تحسونها منهم.

                                                          وإن هذا الإرضاء مع أنهم يطلبونه يريدونه لغاية في أنفسهم; لأن دوام النفرة منهم يمنعهم من الثقة فيهم، وذلك لا يمكنهم من الدس الخسيس فيهم إذ لا يثقون فيهم، والدس يحتاج إلى الثقة ممن يدسون لهم، ويلقون بالفتنة فيهم، وقد بين الله سبحانه الغش في محاولة الإرضاء، فقال تعالى: والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين أي أن العيب فيكم ليس في اعتذار أو تخلف أو كذب، إنما العيب الأصيل هو النفاق، فالنفاق هو الذي جعلكم تتخلفون عن [ ص: 3355 ] الجهاد، وهو الذي جعلكم تعتذرون عنه بأعذار مكذوبة، وهو الذي جعلكم تحلفون ممتهنين الأيمان المغلظة.

                                                          فهم حاولوا إرضاء المؤمنين ولم يحاولوا إرضاء الله ورسوله؛ لأنهم يعلمون أن ذلك غير ممكن، ولذا قال تعالى فيما تلونا: والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين أي: لو كانوا مؤمنين ولا يريدون التخلف، وإن تخلفوا فبأعذار صادقة - لآمنوا أن الله ورسوله أحق بالإرضاء، وإرضاء الله ورسوله ليس بالأيمان الكاذبة، إنما هو بأن يخلعوا أنفسهم من النفاق، ويؤمنوا بالله ورسوله حق الإيمان.

                                                          وفي قوله تعالى: والله ورسوله أحق أن يرضوه إشارة بيانية، وهي أن الله تعالى ورسوله ذكر أنهما أحق بالإرضاء، ولكنه عند عود الضمير أعاده مفردا (يرضوه) وذلك للإشارة إلى أن إرضاء أحدهما إرضاء لهما، فإرضاء الله تعالى إرضاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإرضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إرضاء لله تعالى كما قال: من يطع الرسول فقد أطاع الله وفي ذلك إشارة إلى أن الذين يؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يتهجمون على مقام الألوهية ويتحدون الله ورسوله،

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية