الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله بعد أن ذكر الله سبحانه بعض الناس الذين يعدون داء الجماعات التي تؤدي إلى الفساد ، وإلى الهلاك ، وحالهم إذا تولوا حكم الناس - ذكر أهل الفضل الذين يعدون دواء هذا الداء ، وعلاج ذلك المرض الفتاك ، وصلاح ذلك الفساد ; فإنه إذا كان طغيان بعض الولاة هو الذي يؤدي إلى هلاك الحرث والنسل ، فأولئك الأبرار الذين يجاهدون الطغيان هم الذين يقفون تياره ، ويصدعون بأمر الله ، وهم الذين باعوا أنفسهم مجاهدين ناطقين بكلمة الحق ; ولذا قال سبحانه : ومن الناس من يشري نفسه أي يبيع نفسه لله سبحانه ; فيفدي دين الله والحق بنفسه وماله وكل ما يملك وفي ذكر الفريق المقابل لأهل الشر بذلك الوصف الذي يشعر بأن أخص حالهم بذل النفس والنفيس ، لا مجرد الإخلاص والبراءة من النفاق - إشارة إلى عظم المهمة الملقاة على عاتقهم ، وهي مجاهدة الشر والتغلب عليه ، وإزالة أوضاره ; فإن ذلك يقتضي التعرض للأذى ، بل للتلف ، ومن قتل في سبيله قتل شهيدا ، بل إنه يكون أفضل الشهداء ، كما صرح بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                          [ ص: 647 ] وإن هذا الذي يبيع نفسه لله سبحانه ، ويفدي الحق بنفسه وماله ، لا يطلب إلا ثمنا واحدا ، هو أعلى الأثمان ، وهو رضا الله سبحانه وتعالى ; ولذا قال سبحانه فيما يطلبه : ابتغاء مرضات الله الابتغاء : الطلب الشديد والرغبة القوية الصادقة ; ومرضاة مصدر ميمي بمعنى الرضا ، ولا شك أن التعبير بالمصدر الميمي دون المصدر الأصلي له معنى يدركه السامع بذوقه ، ولم نجد النحويين ولا البلاغيين تعرضوا لبيان التفرقة بين التعبير بالمصدر الميمي وغيره ; والذي يتبدى لنا ونظنه تفرقة بينهما أن المصدر الميمي يصور المعنى المصدري واقعا قائما متحققا في الوجود ، أما المصدر غير الميمي فيصور المعنى مجردا ; فإذا كانت كلمة مقال بمعنى القول ، فإن التعبير بالقول يصور معنى مجردا من غير نظر إلى كونه تحقق وجوده أو لا ، أما كلمة مقال فتصور معنى وجد وتحقق ، أو في صورة الوجود المتحقق ; وعلى ذلك يكون معنى ابتغاء مرضات الله أنهم يبيعون أنفسهم طالبين طلبا موثقا رضا الله سبحانه حقيقة واقعة مؤكدة ، ويتصورون رضاه سبحانه حقيقة قائمة قد حلت بهم ، فيشتد طلبهم ، وافتداؤهم للحق بأموالهم وأنفسهم .

                                                          وأولئك الذين باعوا أنفسهم لله ، وافتدوا الحق بأموالهم وأنفسهم ، هم حجة الله القائمة في عهد الظلم والظلمات ; وإذا كان الله سبحانه وتعالى يبتلي الجماعات بأهل الشر والطاغوت ، وحكم الظالمين ; فإنه يرسل في هذا البلاء أولئك الذين ندبوا أنفسهم للحق يدعون عليه ، ويجهرون به ، ويجاهدون في سبيل الله لرفع مناره ، وجعل كلمة الله هي العليا ; وعندئذ يكون معهم كل من يميل إلى الحق قلبه ، وبين هؤلاء قوم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .

                                                          وبذلك يكون الناس أربع طوائف :

                                                          أولاها - أهل الشر الطاغون ، الظالمون .

                                                          [ ص: 648 ] وثانيتها - أهل العدل الذين يفتدون الحق بأنفسهم وأموالهم ، ويطرحون كل هوى لهم في سبيل رضا الله وإقامة الحق .

                                                          وثالثتها - أولئك الذين يتبعونهم وإن لم يبلغوا شأوهم ، ولم يفتدوا الحق مثل افتدائهم .

                                                          ورابعتها - أولئك الذين ينظرون ، ويتبعون الفريق الغالب في هذه المعركة التي تقوم بين الخير والشر ; وأولئك هم الذين سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الإمعة ; وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن مسلكهم ، فقال : " لا تكونوا إمعة ; تقولون إن أحسن الناس أحسنا ، وإن ظلموا ظلمنا ، ولكن وطنوا أنفسكم ، إن أحسن الناس تحسنوا ، وإن أساءوا فلا تظلموا " .

                                                          والله رءوف بالعباد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بتلك الكلمة السامية ; للإشارة إلى أمور ثلاثة وصلت إليها مداركنا :

                                                          أولها - إن الله سبحانه وتعالى من رحمته بعباده جعل الخير القوي بجوار الشر المندفع ، فهدى الله أهل الخير الأقوياء إلى مدافعة أهل الشر الطغاة ، ولولا ذلك لعم الفساد ، وهلك العباد ، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض

                                                          وثانيها - الإشارة إلى أن الغلب للحق دائما ; لأن ذلك من دواعي رأفته ورحمته بعباده ، والحق الذي يجيء بالمغالبة حق قوي عزيز يعض عليه بالنواجذ ; وفيه إعلان لغلبة المعاني الإنسانية على النواحي الحيوانية .

                                                          وثالثها - إن من رحمة الله بعباده ألا يمكن للظالمين ، وأن يمكن للعادلين ; فإن الحكم العادل يكون رحمة بالناس ورفقا بهم ; والحاكم العادل ظل الله في أرضه ، ورحمته بخلقه ; وتسليط الظالمين من أمارة غضب العلي الحكيم .

                                                          [ ص: 649 ] ثم في تذييل الآية ذلك التذييل فوق ما سبق دعوة إلى الرحمة بالناس والرفق بهم والحدب عليهم ، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به " اللهم هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية