الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          إياك نعبد وإياك نستعين

                                                          كان الكلام السامي يسير على نهج الغيبة بذكر مقام الربوبية وأسماء الذات العلية التي هي أوصافها من شمول الرحمة في كل الأحوال ولكل الوجود إلى تخصيصها بالمكلفين من عباده .

                                                          وبعد ذلك انتقل القول من الغيبة إلى الخطاب ; لأن الانتقال من باب إلى باب في البيان يعطي للكلام روعة تليق بأبلغ من في الوجود ، فالانتقال في القول من غيبة إلى خطاب يجدد في النفس الإقبال على الاستمتاع بالتلاوة ، والاستمتاع بالسماع ، والاعتبار بما في الكتاب ، والإقبال الذي يتولد عنه التدبر والتفكر في آيات الله تعالى .

                                                          [ ص: 63 ] وإن الأوصاف السابقة لذات الله تعالى توجب على العبد التفكر في أمر الله تعالى وعبادته سبحانه ، فكان من بعد ذلك ذكر أحوال العباد الواجبة ، خاطبهم الله تعالى بكماله ، فخاطبوه بما يليق بهم أن يفعلوه ، وهو إفراده بالعبادة والاستعانة ، وأن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم .

                                                          وإن العباد إذ يتدبرون صفات الذات العلية ، ويستحضرون جلالها ، وإفضالها ، وإنعامها وسلطانها يصلون في مداركهم إلى مرتبة المشاهدة الروحية لله تعالى ; ويرتفعون إلى إدراك ملكوت الله تعالى ليخاطبوه قائلين : إياك نعبد وإياك نستعين .

                                                          ولقد قال في هذا المقام العلامة أبو السعود في تفسيره : " إن حق التالي بعدما تأمل فيما سلف من تفرده تعالى بذاته الأقدس المستوجب العبودية بامتياز ذاته عما سواه بالكلية ، واستبداده بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميزة له سبحانه عن العالمين ، وافتقار الكل إليه في الذات والوجود ابتداء وبقاء منه ، أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان ، وينتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهود ، ويلاحظ نفسه حاضرا في محاضر الأنس كأنه واقف لدى مولاه ، ماثل بين يديه ، وهو يدعو بالخضوع والإخبات ، ويقرع بالضراعة باب المناجاة قائلا : يا من هذه شئون ذاته وصفاته نخصك بالعبادة والاستعانة ، فإن كل ما سواك كائنا ما كان بمعزل عن الوجود فضلا عن استحقاق أن يعبد أو يستعان " .

                                                          وإن الارتفاع إلى مقام المشاهدة ، ومخاطبة الله تعالى هو الذي من أجله كانت - أي الفاتحة - واجبة التلاوة في كل ركعة من ركعات الصلاة ; لأن الصلاة وقوف بين يدي الديان ، واتجاه إلى حضرته العلية ، ومشاهدة روحية .

                                                          [ ص: 64 ] (إياك نعبد ) " إيا " ضمير منفصل أصله بمقتضى السياق العادي " نعبدك " فلما قدم الضمير انفصل ، و " الكاف " حرف للدلالة على الخطاب ، كما أن " الهاء " للدلالة على الغيبة في قوله : " إياه " ، و " الياء " دلالة على المتكلم ، و " إيانا " دلالة على المتكلمين ، وهكذا . وقيل إن " الكاف " وأخواتها أجزاء من الضمير ، وهو اختلاف إعرابي لا جدوى فيه في مقامنا هذا . والعبادة أكمل أنواع الخضوع ، والتذلل لله تعالى ، ولا تكون لغير الله تعالى ، فهو وحده المعبود بحق ، فلا يعبد سواه ، وإن دوام العبادة والاستمرار عليها مع القيام بحقها من خشوع وخضوع لله وتذكر مقام الله العلي الأعلى ، وحضور لذاته العلية كأنه يرى الله تعالى ، مع الإحساس بأنه - سبحانه - يراه .

                                                          إن دوام العبادة على هذا النحو تولد في نفسه صدق العبودية ، فيحس في كل أحواله بأنه لله ، ويحب الشيء لا يحبه إلا لله ، ويكون ربانيا ، مستجيبا لأمر الله : كونوا ربانيين

                                                          والاستعانة طلب العون من الله تعالى ، مستحضرا ما في الذات العلية من صفات الربوبية ، والرحمة ، والسلطان المطلق يوم الجزاء ; إذ لا سلطان في يوم الدين لأحد سواه ، وقد جاء (إياك نعبد ) قبل (وإياك نستعين ) ; لأن العبادة حق الله تعالى ، والتقدم إليه بالخضوع الذي لا خضوع مثله ، والاستعانة حق العبد أو طلبه العون له ، فما هو حق أوثق وأولى بالتقديم ، ولكن يجب أن نلاحظ أن الاستعانة والضراعة إلى الله تعالى ، وإفراده سبحانه بطلب العون منه سبحانه هو عبادة أيضا ، كما هو طلب من الله ; لأن الدعاء المخلص لله تعالى هو عبادة في حد ذاته ، حتى روي : " الدعاء مخ العبادة " ، وكما قال تعالى : واذكر ربك في نفسك تضرعا [ ص: 65 ] وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ، وإطلاق الاستعانة من غير متعلق بذكر المستعان عليه من الأمور دال على أنه يستعين الله تعالى في كل أمور حياته . والاستعانة هي نوع من استصغار حاله بجوار عظمة الله تعالى ، وافتقاره إليه تعالى ، وأنه محتاج إليه دائما ، ولا يركبه غرور الحياة والضلال في أن يقر بنفسه الغرور ، وهو استجابة وفهم لقوله تعالى : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد .

                                                          وإن من أعلى أبواب الاستعانة ، الاستعانة بالله تعالى على أداء الواجبات والقيام بفروض الله تعالى ، فهو يستعين بالله تعالى على أداء واجب العبادة ليصل إلى درجة العبودية ، ويكون ربانيا .

                                                          وتقديم (إياك ) على (نعبد ) و (نستعين ) لتعظيم الله تعالى بذكره أولا ، ولأن التقديم للاهتمام بالمعبود والمستعان ; وللدلالة على أنه سبحانه وتعالى هو المختص بالعبادة وحده ، وأنه لا يستعان بغيره ، وفي ذلك كمال التوحيد والخضوع له وحده سبحانه وتعالى ، ولقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى : إياك نعبد وإياك نستعين : معناه نعبدك ولا نعبد غيرك .

                                                          فتقديم إياك كما في قوله تعالى : وإياي فارهبون ، وقوله سبحانه : وإياي فاتقون ، وتكرار (وإياك ) في (نعبد ) و (نستعين ) ، لبيان التباين بينهما ، وأن ذلك حق الله ، وأن هذا طلب من العباد ، ولتكرار النص على تخصيص ذلك بالله الواحد الأحد الفرد الصمد .

                                                          وأول الاستعانة طلب الهداية ; ولذلك قال تعالى : * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية