الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          أطوار الإنسان وأحواله

                                                          قال تعالى:

                                                          والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون

                                                          [ ص: 4217 ] هذا بيان للأدوار التي يمر بها الإنسان وهي تدل على عظم قدرة الله فيه، وفيها بيان واضح إلى قدرته على الإنشاء والإدبار وقدرته على الإخفاء، وتحلل جسم الإنسان شيئا فشيئا حتى يكون الموت، وفي ذلك إيماء إلى قدرته سبحانه على الإعادة كما بدأكم تعودون

                                                          قال تعالى:

                                                          والله خلقكم ثم يتوفاكم خلقكم أي: أنشأكم من العدم، وجعل من الطين إنسانا في الخلق، وفي عبارة "خلقكم" إشارة إلى إنشائه جنينا في بطن أمه من علقة فمضغة مخلقة وغير مخلقة، كما قال تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون

                                                          وإن هذا الخلق بعده الوفاة يعيش ما يعيش إن طويلا وإن قصيرا، والمآل الوفاة؛ ولذا قال تعالى: ثم يتوفاكم "ثم" هنا للتفاوت بين الموت والحياة، ومنكم من يموت في صباه أو في شبابه أو كهولته، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ومعنى الرد إلى أرذل العمر: أن يرجع منكوسا إلى ابتدائه، فهو في أرذل العمر يسير في السن إلى الأمام، ولكن في القوى يرد إلى الوراء فقواه تضعف، وتفنى بعض أجزاء جسمه شيئا فشيئا، كأنه من قبل الهرم كانت قواه تسير إلى الأمام حتى تقف، فإذا أرذل العمر أي أخسه وأعدم حمده يرجع إلى الصبا الذي لا يعلم شيئا.

                                                          قال تعالى: لكي لا يعلم بعد علم شيئا أي: لتصير حاله ألا يعلم، بل ينسى، وأن يكون كل ما يعلمه من جديد مآله النسيان، فلا يزداد علمه، بعد أن كان عالما شيئا، وقد لوحظ أن الذين يصيبهم أرذل العمر ينسون ما كسبوه من علم بعد الشيخوخة ولا ينسون ما كان لهم من حوادث قبل ذلك، فهم يتكلمون عن الماضي ولا يتذكرون ما كان من حوادث بعد أن تصيبهم الشيخوخة، ونلاحظ هنا أمرين:

                                                          [ ص: 4218 ] الأمر الأول: أن أرذل العمر يختلف باختلاف الناس، فمنهم من يصيبه الهرم مبكرا، ومنهم من لا يصيبه إلا مؤخرا.

                                                          الأمر الثاني - أن بعضهم يصيبه خرف الشيخوخة، والصادقون المؤمنون لا يصيبهم خرف الشيخوخة، وإن كانوا ينسون، ومهما يكن فإن الموت قبل بلوغ أرذل العمر أفضل، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه ألا يرد إلى أرذل العمر، فقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدعو " أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر " ، وإن ذلك كله بتقدير الله تعالى وعلمه، ولذا قال بعد ذلك: إن الله عليم قدير إن الله بمقتضى علمه قدر كل شيء ونفذه، وهو القادر العليم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية