الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 1050 ] يمحق الله الربا ويربي الصدقات المحق النقص والذهاب ، ومنه محاق القمر : أي انتقاصه في الرؤية شيئا فشيئا حتى لا يرى ، فكأنه زال وذهب ; والله سبحانه وتعالى يمحق الربا في الدنيا والآخرة ; ففي الآخرة عقاب أليم ، وعذاب مقيم ، وفي الدنيا ينقص ماله ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : [" الربا وإن كثر ، فإن عاقبته تصير إلى قل "] أو تمحى من المال البركة ، بحيث لا يمكن الانتفاع به ، إما لهم دائم وقلق مستمر ، وإما لمرض يصيبه فيكون المال الكثير مع عدم القدرة على الانتفاع به ، كمن عنده طعام شهي ولكنه لا يستطيع أن يتناوله ; لأنه يكون وبالا عليه ; وإما لمقت الناس له ، فيفقد تعاونهم ، وفي ذلك شر عليه ، والربوي لا يمكن أن يخلو في الدنيا من واحد من هذه الأمور ، فكان الربا ممحوقا دائما .

                                                          هذه نتيجة الربا ، أما الصدقات فإن الله يربيها وينميها ، إما بالكسب الوفير ، وإما بفضل التعاون وبالهدوء والاطمئنان ، ثم بالنعيم المقيم يوم القيامة ; كما قال عليه الصلاة والسلام : " إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ، حتى يجيء يوم القيامة ، وإن اللقمة لعلى قدر أحد " .

                                                          والصدقة ليس المراد منها مجرد العطاء ، بل تشمل كل نفع عام أو خاص لا يقصد به المؤمن المنفعة الشخصية التي تنبع من الهوى ، وعلى ذلك يكون القرض الحسن الذي يقصد به التعاون على الاستغلال من الصدقة أيضا ، وهو من خير الصدقات أيضا ، وهو من خير الصدقات التي يربيها الله في الدنيا والآخرة .

                                                          والله لا يحب كل كفار أثيم هذا تهديد لمن استحلوا الربا ، أو ارتكبوه ، وقد ذكروا في ذلك الكلام العام للإشارة إلى أن المرابين يسترون الحق ، ويعوقون عن الخير ; إذ معنى " كفار " من كفر بمعنى ستر وأخفى وجحد ، فهي صيغة مبالغة لكافر ; [ ص: 1051 ] ومعنى أثيم معوق مبطئ عن الخير ، فالذين يرابون ويأكلون أموال الناس بالباطل يدخلون في عموم قوله تعالى : كل كفار أثيم وقد جمع سبحانه وتعالى بين الوصفين للإشارة إلى أن إيمان المرابين ناقص إن لم يستحلوه ، وهم كفار إن استحلوه ; وهم في الحالين آثمون معاقبون ، ولكل حال مقدارها من الإثم ، فليس إثم من جحد بآيات الله كإثم من نقص إيمانه بترك العمل بها ، فذلك كافر ، وهذا فاسق ، وفرق ما بين الأمرين عظيم . ويصح أن نقول : إن الكافر هو الكفار بنعمة الله والتمادي في كفرانها ، بأن يتخذ ما أنعم الله به عليه من نعم كالمال ، في الإيذاء لا في النفع ، فيأكل أموال الناس بالباطل بسبب ما أعطاه الله من مال ، وإن ذلك توجيه حسن ، وهو في هذا المقام مناسب .

                                                          ونفي حب الله تعالى بحرمان الآثمين من رضاه ; إذ إن محبة الله تعالى شأن من شئونه ، ومن مظهره الرضا ، ومن حرم من رضا الله فقد حرم خير الدنيا والآخرة ، وإلى الله عاقبة الأمور .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية