الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وقد ذكر الله بعد ذلك أبا الأنبياء إبراهيم؛ لأنه أبو العرب وعزهم، ويعيشون ببركة دعائه، ولأنه تواب أواه حليم، فقال سبحانه:

                                                          إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين

                                                          [ ص: 4297 ] (أمة) إما أن تكون بمعنى إمام، أي أنه عليه السلام كان إمام الموحدين المقتدى بهم أو مذهبا متبعا، كقول الله تعالى: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون

                                                          وفسره الزمخشري بأنه وحده أمة كأنه جماعة جمعت الفضائل كلها، وقد قال في ذلك: إن إبراهيم كان أمة لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلا متفرقة في أشخاص كثيرة، كقوله:


                                                          ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد

                                                          وهو رئيس الموحدين وقدوة المحققين الذي جادل في المشركين، وأبطل مذاهبهم الزائفة بالحجج الدامغة، وهذا وجه، وقال الزمخشري: والثاني: أن يكون أمة بمعنى مأموم أي: يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير، أو بمعنى مؤتم كأمة كالرحلة والنخبة وما أشبه ذلك مما جاء من فعله بمعنى مفعول، فيكون مثل قوله تعالى:

                                                          إني جاعلك للناس إماما ويروي الشعبي، عن نوفل الأشجعي، عن ابن مسعود أنه قال: إن معاذا كان أمة قانتا لله، فقلت: غلطت، إنما هو إبراهيم، فقال: الأمة الذي يعلم الخير، والقانت المطيع لله ورسوله وكان معاذ كذلك. وعن عمر رضي الله عنه أنه قال حين قيل له استخلف: لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته، ولو كان معاذ حيا لاستخلفته، ولو كان سالم حيا لاستخلفته، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أبو عبيدة أمين هذه الأمة، ومعاذ أمة قانتا لله ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلون، وسالم شديد الحب لله لو كان لا يخاف الله لم يعصه "، وهو ذلك المعنى: أي كان إماما في الدين؛ لأن الأئمة معلمو الخير.

                                                          ونقول: إن الوجهين اللذين ذكرهما الزمخشري يصح أن يوادا معا، فهو في ذاته أمة؛ لأنه جامع لكل صفات الكمال البشري، ومستجمع لكل أسباب الرفعة عند الله، وهو مع ذلك إمام يؤتم ويقصد إذ هو إمام الموحدين، والله أعلم ؛ ولذلك عقب ذكره بتزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن والنبوة، وتحريم ما أحله الله، ولأنه كان وحده أمة موحدا، وكان سائر الناس مشركا.

                                                          [ ص: 4298 ] هذا هو الوصف الأول لإبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، والوصف الثاني: أنه قانت لله، أي: خاضع مطيع مسلم وجهه لله تعالى، والوصف الثالث: أنه كان (حنيفا) ، أي طاهرا نقيا في نفسه وقلبه مائلا للحق أي متجها بكل نفسه إلى الحق لا ينحرف إلى الباطل، الوصف الرابع: وهو وصف سلبي ناف عنه الشرك؛ ولذا قال: ولم يك من المشركين

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية