الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين الكلام إلى الآن موصول في غزوة أحد وأعقابها، وفي هذه الآيات يبين سبحانه أنه ما كان يليق بالمترددين الذين أصاب اليأس قلوبهم، أن يعجبوا لماذا كانت الهزيمة، وإنه لا يصح أن تأخذهم روح الانهزام إلى هذا الحد؛ لأنهم إذا كانوا قد أصيبوا في هذه الواقعة بقتلى فقد أصيب أعداؤهم بضعف ما أصيبوا، ولأنه لا عجب في أن يهزموا لأنهم خالفوا قائدهم، والله سبحانه وتعالى قدر لهم تلك الهزيمة لكي يعتبروا، ويحسنوا التدبير، ويحسنوا الطاعة، ويحترموا حق القيادة الحكيمة الرشيدة، ولكي يتخذوا من الهزيمة علاجا للأخطاء التي سببتها وتوقيا في المستقبل لها، ولكي يبث في نفوس أهل الإيمان أن الحرب ليست نصرا [ ص: 1492 ] مستمرا، ولكن العاقبة في النهاية لأهل الحق والعدل والرشاد، وهناك فائدة للهزيمة أنها تبين الصادق الإيمان من المنافق الذي لا يؤمن بشيء، ففي المحنة يتميز الخبيث من الطيب، وإذا كان النصر في بدر قد فتح باب النفاق، فدخل في الإسلام من لم يؤمنوا به، وأعلنوا الاعتقاد من يبطنون خلافه، ويخفون ما لا يبدون، فإن الهزيمة في أحد قد كشفت النفاق والمنافقين، بل إن غزوة أحد من أول أمرها قد كشفت النفاق، فقد أخذ المنافقون يثبطون، حتى همت طائفتان أن تفشلا واللهوليهما، فلما كانت النتيجة أخذوا يبثون الأوهام الفاسدة، ليضعضعوا عزائم المؤمنين، ويشككوا ضعفاءهم في اعتمادهم على الله، فغزوة أحد قد كشفت النفاق في أولها وفي آخرها، .وحسبها ذلك فائدة.

                                                          أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا المصيبة أصلها في اللغة الرمية التي تصيب الهدف، ولا تخطئه، ثم أطلقت على النائبة التي تنزل، ولا تكاد تستعمل في القرآن في معنى الخير، وأما الفعل " أصاب " فيستعمل في الخير والشر، ومن ذلك قوله تعالى: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وقوله تعالى: إن تصبك حسنة تسؤهم والمثل هو المساوي، والمثلان هما ضعف المساوي، والمعنى: أولما أصابتكم مصيبة قد أنزلتم بالأعداء ضعفها أصابكم الشك والتردد وقلتم أنى هذا؛ وقد أصابوا من المشركين ضعف ما أصاب المشركون منهم، فقد قتلوا منهم مقتلة في بدر، قتلوا نحو سبعين، وأسروا مثلهم، وقتلوا منهم مقتلة في أول الحرب في أحد، والاستفهام هنا إنكاري للتوبيخ، وموضع التوبيخ هو قولهم: " أنى هذا " ؛ لأن ذلك يدل على التردد والشك أو تسربه إلى قلوبهم، ومعنى " أنى هذا " : من أين هذا؟ أي: من أين جاءت هذه الهزيمة، وهذا لا يقوله إلا ضعاف الإيمان، لأن المؤمنين الصادقين يدركون خطاهم، ويعرفون تقصيرهم، ويغلبون إسناد عيبهم إليهم على إسناد العيب إلى غيرهم، فكأن حل النسق البياني الرائع هو هكذا: أقلتم من أين هذه الهزيمة لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها، بالمقتلة [ ص: 1493 ] العظيمة فيهم في بدر، والمقتلة العظيمة في أول الغزوة في أحد، ويصح أن يقال: إن الذين قالوا من أقوياء الإيمان؛ لأنهم يستعجلون نصر الله تعالى لإعزاز دينه، ويخشون أن يكون الله تعالى تخلى عن نصرتهم لعيوب فيهم، وقد أمر الله تعالى أن يجيبهم، ويزيل تعجبهم، فقال: قل هو من عند أنفسكم أي أن سبب المصيبة منكم أنتم، وقد أكد أنه منهم بإبراز الضمير في الإجابة ، وبالإتيان بالظرف وهو " عند " ، وبالتعبير بـ " أنفسكم " التي تدل على التوكيد، وكان سبب الهزيمة منهملأنهم لم ينتظروا في المدينة حتى يجيء إليهم الأعداء ويقضوا عليهم، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة نزولا على حكم الشورى، وعلى رأيهم، فعليهم أن يتحملوا تبعته، وهم فوق ذلك هموا بأن يفشلوا، ولأنهم عندما رتب النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشه ترتيبا حكيما، وأخذ المقاتلون ينفذون الخطة بإحكام، والرماة يحمون ظهورهم، حتى أخذوا يحسونهم بإذنه، وقتلوا من المشركين مقتلة عظيمة، وفروا أمامهم، ترك الرماة أماكنهم، فكان الاضطراب في جيش الحق، وفوق ذلك فإن الشك قد أصاب القلوب الواهنة، حتى أخذ يضرب بعضهم رقاب بعض، وضعف صوت الهادي الرشيد، وانطلق المنافقون يعلنون قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبسبب ذلك كله كانت الهزيمة.

                                                          بيد أن هذه الهزيمة كانت إرادة الله سبحانه وتعالى ليمحص المؤمنين، وليبين لهم بالعمل أن طاعة القائد الرشيد سبب النصر، وأن قدرة الله تعالى فوق كل شيء، فهو قادر على كل شيء، كان يستطيع أن ينصركم في هذا المضطرب، وقد فعل فإنه صرف المشركين عن أن يعودوا إلى المدينة وقد أثخنتكم الجراح وأثقلكم الاضطراب، ولكن الله خوفهم فرضوا من الغنيمة بالإياب، ولذا قال سبحانه مؤكدا قدرته:

                                                          " إن الله على كل شيء قدير " وهذا رد على ضعفاء الإيمان الذين يقولون كيف ننهزم والله معنا، فبين سبحانه أن قدرته فوق كل شيء، وأنه سبحانه أراد [ ص: 1494 ] لكم تلك النتيجة وحماكم من أن تؤثر في مجرى تاريخكم فصرفهم ذلك الصرف، حتى كأنهم المهزومون وأنتم المنصورون، وقد أكد سبحانه قدرته بلفظ " إن " ، وبذكر لفظ الجلالة الذي يربي المهابة من الخلاق العليم في قلب المؤمن، وبعموم قدرته سبحانه على كل شيء وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير،

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية