الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          الأمثال في القرآن وموقعها في النفوس

                                                          إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون )

                                                          * * *

                                                          بين الله تعالى حال المنافقين ، وضرب سبحانه وتعالى مثلين يبينان حالهم التي يبدو فيها النور لهم ولا ينتفعون منه ، فشبههم سبحانه بحال الذي يستوقد نارا ، وما [ ص: 174 ] إن يتم له أن ينتفع حتى تنطفئ ، ويذهب الله تعالى بنورهم فلا يبصرون ، وشبههم ثانيا بحال قوم أصابهم صيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، من حيث إن ماء الحياة يجيء إليهم ، ولكن لسوء حالهم وفساد قلوبهم تنعكس بين أيديهم الأمور ، فلا يدركون . . إلى آخر ما بين سبحانه وتعالى .

                                                          وإنه من منهاج الذكر الحكيم ضرب الأمثال تقريبا للأفهام ، وتصويرا للمعاني التي تسمو بها المدارك بالأمور المحسوسة القريبة لكل من عنده لب ، والأمثال تضرب لذي اللب الحكيم ، فيعتبر بها ، ويكون المغيب غير المحسوس كأنه المحسوس الذي يرى ويشاهد ، ولقد ضرب الله الأمثال بالذباب في بديع تكوينه وسر خلقه الذي تعجز العقول عن أن يخلقوا مثله . وشبه الأوثان التي يعبدونها وهي لا تضر ولا تنفع ، ولا تملك من أمرها شيئا بأنها أوهام توهموها ، وأخيلة من القدرة تخيلوها .

                                                          ولقد قال تعالى في الذباب : يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز .

                                                          فهو في هذا المثل بين أنهم لا يستطيعون أن يخلقوا ذبابا ، ولو اجتمعوا له هم وآلهتهم ، وأنهم لا يستطيعون أن يتغلبوا عليه إن سلبهم شيئا . وفي سورة العنكبوت شبه آلهتهم التي يتوهمون فيها سلطانا ، كمثل بيت العنكبوت أي الخيوط التي ينسجها ، فقال تعالى : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ، أكثر الله تعالى من ضرب الأمثال لتقريب المعاني السامية للعقول التي لا تدرك إلا المحسوسات الدانية ، ولكن المعاند الجاحد ، والعاجز الحسود يقلب الحسنات ، ويتهكم على الحقائق الرائعة ، فتكلموا متعجبين مستغربين من [ ص: 175 ] ضرب الأمثال بالبعوض والذباب ، وكأنهم إذ لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله وعجزوا عجزا صارخا أخذوا يثيرون الشك حول بعض أجزائه وما اشتمل عليه ، فاختاروا الأمثال موضعا لإثارة الاستغراب والعجب يتوهمون أن ذلك يضعف من تأثيره .

                                                          لذا رد الله تعالى أمرهم وإثارة العجب بقوله تعالى : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، ضرب - معناها ذكر ، والمثل هو الحال التي تشبه حالا قائمة قدرت أو وقعت ، فمعنى ضرب المثل بيان الحال التي تشبه وتمثل بحال واقعة ثابتة ، ويقول علماء البلاغة ، إن للمثل مضربا وموردا فالمورد هو الحال التي تشبه بها القول ، والتي صدر فيها ، والمضرب هو الحال التي يشبه الحال التي وقعت أو هي ثابتة .

                                                          ومهما يكن فالمثل تشبيه حال غير منظورة ولكن تدركها العقول بحال أمر واقع ثابت ، والاستحياء انقباض النفس عن أن يكون منها ما يستقبحه الناس الذين يسيطر عليهم عرف قويم ، وهو أساس من أسس الأخلاق ; ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الحياء خير كله " ، ولكن هذا المعنى يليق بالناس ، ولا يليق بالذات العلية ; ولذلك بالنسبة لله تعالى أريد لازمه ، لأن من لوازم ذلك الانقباض الترك ، إذ من استحيا من عمل شيء يتركه .

                                                          والمعنى أن الله تعالت كلماته ، وتسامى قرآنه ، لا يترك خاشيا لومة لائم أن يضرب مثلا ، بأن يمثل أمرا ثابتا محققا بأمر واقع محسوس ، تقريبا للمعاني إلى ما هو محسوس ، وتوضيحا للأمور ، لتكون بينة للجميع أو لمن يصغون إلى تلقي البيان بقلب سليم ، وإدراك مستقيم .

                                                          [ ص: 176 ] والبعوضة أصغر - من الذبابة ، (ما ) هي التي تسمى في عرف النحاة نكرة تامة بمعنى شيء ، فهي شيء مبهم ، وإذا جاء بعد نكرة كانت للدلالة على إيقاعها في الإبهام ، فالمعنى بعوضة أيا كانت هذه البعوضة صغيرة أو كبيرة حقيرة أو خطيرة ، فالله سبحانه وتعالى لا يترك ضرب الأمثال بالبعوضة أو ما دونها .

                                                          وإن الكلام البليغ يضرب المثل للحقير ، بحقير ، والمثل للعظيم بعظيم ، فيضرب فيه أوهامهم في آلهتهم من حيث إنها لا تقوى على النظر ، ولا يمكن أن تكون معقولة ، وحالها يناقض كل معقول بأنها كمسكن العنكبوت الذي تهدمه الرياح لأنه أوهن البيوت ، وإن كان نسجها محكما ، يدل على حكمة اللطيف الخبير ، ولكن موضع المشابهة هو الوهن فقط .

                                                          وقد يكون ضرب المثل للبعوضة ، ببيان إحكام تكوينها ، وبديع خلقها ، كما كان مثل الذباب من حيث خلقه وتكوينه ، وعجز الآلهة ولو اجتمعوا له أن يخلقوه . ونرى من هذا أن التمثيل بالبعوضة يكون فيه تشبيه حال الضعف ، ببعض الضعف في نواحيها ، كما رأينا في تشبيه أوهامهم حول الأصنام التي يعبدونها ، من حيث إنها لا تقوى على نظر مستقيم في أمرها ، ببيت العنكبوت الذي هو أوهن البيوت .

                                                          وإن هذا النص الكريم يدل على أن ضرب الأمثال بصغير الأشياء وكبيرها يليق بالبيان الحكيم ، وذكر الله تعالى في كتابه الحميد المجيد .

                                                          وإن الأمر الجدير بالاعتبار والتقدير يختلف تلقي الناس له ، فالقلب الذاكر الطاهر الذي يطلب الحقائق ويتقبلها ويدركها معتبرا متعظا مؤمنا يزداد إيمانا ، والقلب المضطرب الذي يعاند ، ويكابر ويثير الاستغراب والعجب ، وكأنه يحاول بذلك أن يثير غبارا حول الحقائق الثابتة .

                                                          [ ص: 177 ] ولذا يقول سبحانه : فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم قوله تعالى : (فأما ) هي للتفصيل ، أي تفصيل حال الذين يتلقون الأمثال المضروبة لهداية المتقين ، وهي في معنى أداة الشرط بمعنى مهما يكن من شيء ، والمعنى مهما يكن من الأمر في المثل الذي ساقه الله تعالى فالذين آمنوا وأذعنوا للحق إذا بدا لهم يعلمون أي يعرفون جازمين بالدليل القاطع أنه الحق أي الأمر الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، ويرشحون لذلك الإيمان المذعن والعلم الجازم بأنه من ربهم أي من الله العلي القدير الذي يربهم ، ويدبر أمور الوجود بحكمته ، وقوته ، وبذلك يزدادون إيمانا .

                                                          وأما الذين كفروا فيظهرون استغرابهم بل استنكارهم ، فيقولون : فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ؟ فهم يستفهمون استغرابا أو إنكارا ما الذي يريده تعالى بهذا المثل ، والتجاهل يؤدي إلى الجهل ، وعمى البصيرة يؤدي إلى العمى في طرق الإدراك . إنهم يعرفون المثل ومضربه ، وما تشبه به من حالهم ، فإذا ضرب مثل ما يعبدون من آلهة ببيت العنكبوت فهم يعرفون أن الله تعالى بين وهن الأسباب التي يقيمون عليها ، ولكن لاعتقادهم الواهم في أصنامهم يثير المثل استغرابا ثم إنكارا ، وذلك من رسوخ الضلال في نفوسهم ، فلا يزيدهم المثل إلا إمعانا في الضلال .

                                                          و" ما " الاستفهامية ، و " ذا " موصول بمعنى الذي ، والمعنى على ذلك ما الذي أراد الله تعالى بهذا المثل ، أو نقول : إن ماذا كلها للاستفهام ، وهي مركب يراد به الاستفهام ، والفرق إعرابي ، ولا مؤدى له ، فالمعنى واحد .

                                                          وإن هذا الاستغراب أو الإنكار الذي سبق إليهم ، سببه أمران :

                                                          الأول : ضلال اعتقادهم في أوثانهم كما أثر .

                                                          والثاني : غطرستهم وعنادهم ، وحبهم لبقاء سلطانهم ، وإن المعاند يزداد إصرارا وينفض رأسه كلما زاد الدليل وضوحا .

                                                          [ ص: 178 ] وقوله تعالى : بعوضة فما فوقها يراد بالفوقية الزيادة في القوة على توجيه بعض المفسرين ، ويكون المؤدى أن البعوضة أضعف الحيوان ، وأنها يصح أن تكون ابتداء لضرب الأمثال من أدنى الأحياء إلى أعلاها ، وهذا تخريج بعض المفسرين ، وهو صحيح في ذاته ، ويفسر بعضهم الفوقية بمعنى الزيادة في الصغر ، وكأنه يتصور أن في الأحياء ما هو أصغر من البعوضة ويقر أن الفوقية في كل شيء بما سبقه ، فإن كان ضرب المثل للصغر ، فالفوقية في الصغر أي أكثر صغرا منها .

                                                          ونحن نرى أن الأول هو الأظهر ، ولكن يجب التنبيه إلى أن ذلك لا يقتضي أن يضرب المثل بما دونها فإن مؤدى القول أنه سبحانه لا يترك المثل الأكبر أو الأصغر لصغر عقولهم أو عنادهم ، فإن القرآن أعلى البيان عند الله ، ولا يترك سبحانه البيان السامي لاستغرابهم أو إعجابهم .

                                                          وإن المثل الذي يسوءهم لأنه تنزيل لمكان ما يقدسون في زعمهم ، يستغربون ثم ينكرون فيزيد ضلالهم ; ولذلك قال سبحانه : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين . أي أن ضرب المثل يضل الله تعالى به كثيرا من الضلال ، وكثيرا من الناس ، وكثرة الضلال بالإيغال فيه حيث يقوم الدليل على بطلان ما يعتقدون ، فيلوون رءوسهم فيزدادون ضلالا ، وكثرة الضالين لكثرة المفاسد .

                                                          وأسند الإضلال إلى الله تعالى ; لأنه سبحانه وتعالى هو الذي ضرب المثل ، وقد تسبب ضرب المثل في نفوسهم التي أصابها الفجور والعناد في أن استكبرت وزادت نفورا عن الحق ، وإيغالا في الباطل ، وإن الله تعالى يسن طريق الهدى ، ويبينه فمن عاند وجحد ، وسار في طريق الضلال ، وكلما سار فيه أوغل ، حتى يزداد ضلالا - كالذي يضرب في الأرض ; إن سار في الطريق الجد وصل ، وإن سار في الطريق المعوج تاه وكلما سار زاد في التيه .

                                                          وأما الذين آمنوا فإنهم يجدون في المثل الحق وازدادوا إيمانا بالحق وتصديقا به ; ولذلك حق عليهم أن يقول الله تعالى فيهم : ويهدي به كثيرا هديا كثيرا فيزيدهم إيمانا بعد إيمانهم .

                                                          [ ص: 179 ] وإن أولئك المؤمنين سلمت مداركهم ، واستقامت عقولهم ، فأدركوا معنى الحقيقة ، فكلما جاء ما يؤكدها ويبينها ازدادوا هداية ، وساروا على الجدد ، وأما الآخرون فهم يخرجون عن سنن الفطرة ، وما يوجه إليه الإدراك الصحيح ; ولذلك قال تعالى : وما يضل به إلا الفاسقين أي الخارجين عما توجبه الفطرة ، الذين شاهت عقولهم ، وانعكست الحقائق أمامها ، فصاروا يدركون الأمور عكس حقيقتها . والفاسق في أصل معناه اللغوي الخارج عن الطاعة ، ويقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها ، ويقال للفأرة فويسقة لخروجها من جحرها للفساد ، ويطلق على الحشرات والمؤذيات فواسق ، ولقد روي عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الحدأة ، والغراب ، والفأرة ، والعقرب ، والكلب العقور " .

                                                          والفاسق في هذه الآية هو الكافر سواء أكان يجمع الكفر والنفاق أم يكون كافرا من غير نفاق ; وذلك لأنه خرج عن مقتضى الفطرة ، والعقل المستقيم ، فهو قد كفر بالله ورسوله ، وبالأوامر والنواهي ، وإنها دين الفطرة ، كما قال تعالى : فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

                                                          ولقد بين تعالى أولئك الفاسقين الخارجين عن سنن الفطرة ، فقال : الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض

                                                          ذكر الله تعالى أوصافا ثلاثة هي التي تتقطع بها أوصال الجماعة الإنسانية ، ويكون بها التدابر ، وأن يكون بها ابن الإنسان على أخيه الإنسان أشد من الوحوش ، وأقسى من كل ما في الوجود : [ ص: 180 ] الصفة الأولى - نقض عهد الله تعالى من بعد ميثاقه ، والنقض فك ما أبرمه الشخص ووثقه وأكده من بناء أو وثيقة أو عهد ، وإن الميثاق الذي يعقد بين الناس يوثقه بيمين الله تعالى ، ولذلك يسمى اليمين ، ويقول تعالى : ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ويسمى عهد الله تعالى ، لأنه إذا أكده بيمين فكأنه عاهد الله تعالى على الوفاء بها ، وعدم النكث فيها فكأنه عاهد الله تعالى .

                                                          و ميثاقه معناه كما أشرنا العهد الموثق باليمين . وما المراد بالميثاق الذي نقضوه ; قال بعض العلماء ونحن ، نوافقهم ، أنه ميثاق الفطرة الإنسانية ، فقد خلق الله الناس ، وأخذ منهم ميثاقهم بمقتضى الفطرة بالعبودية لله رب العالمين ، كما قال تعالى : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون .

                                                          وإن أولئك الفاسقين الذين خرجوا على الفطرة قد نقضوا ذلك العهد التكويني الذي كون الله تعالى بني آدم على أساسه ; ولذلك يقول ابن حزم ، ومعه بعض العلماء ، إن معرفة الله بدهية لذوي العقول المستقيمة المدركة . وكانت الرسالة للتذكير بهذه الفطرة ، وإيقاظها ، إذا غفلت ، ولحسابها إذا نبهت ولم تنتبه ; ولذلك قال تعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ، وقال تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .

                                                          هذا معنى واضح جيد مستقيم تؤيده نصوص الكتاب الحكيم ، ولكن مع ذلك قد يراد نقض العهود الموثقة بالأيمان وعدم الوفاء بالمواثيق التي تنظم العلاقات بين الناس آحادا وجماعات ; لأن ذلك من سمات الكفر ، وخصوصا الذي يصحبه نفاق ، وقد وصف الله سبحانه وتعالى الكفار بذلك في أكثر من آية ، فقال تعالى : [ ص: 181 ] لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون ، وقال تعالى في المنافقين : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون .

                                                          إن الوفاء بالعهود والمواثيق شأن من يراقب الله تعالى ، ويحس برقابة الله تعالى ، وهو لذلك خاصة من خواص المؤمنين ، وكرر الله الأمر بالوفاء بالعهد مثل قوله تعالى : وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا ، وإن الكافر لا يحس بمسؤولية أمام الله تعالى ; لذلك كان أول وصف من أوصاف الفاسقين أنهم ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه .

                                                          وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقد ميثاقا لليهود فنقضوه ، وعقد صلح الحديبية ، فنقضوه ، ونصروا بني بكر على خزاعة حلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم .

                                                          الصفة الثانية - أنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، القطع فصل المتصل ، وجعله أجزاء متفرقة ، وقطعهم الذي كان الله تعالى أمرهم بوصله ما هو ؟ ، قيل : قطع الأرحام ، فلا يصل ذا رحمه ، ولا يعمل بالمودة بين ذوي قرباه ، ولكن الإنسانية كلها رحم واحدة ، كما قال تعالى : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا .

                                                          فالرحم الإنسانية ثابتة بين الناس ، وقطعها يكون بأساليب شتى ، وسبل مختلفة وكلها سبل الشيطان كما قال تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ومن قطعها أن يتحكم القوي في الضعيف ، وأن ينظر إلى الناس على أنهم طبقات منهم غني ومنهم فقير ، وأن يكون لكل قانون ونظام ، وأن تختلف المعاملة ، وأن تتنافر الشعوب ، ولا تتضافر ولا [ ص: 182 ] تتعارف كما قال تعالي يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأن ينقطع التعاون بين الناس فلا يكون التعاون على البر والتقوى ويحل محله التعاون على الإثم والعدوان ، وفي كل ما يكون فيه قطع للعلاقات الإنسانية يكون قطعا لما أمر الله تعالى به أن يوصل . ووصل ما أمر الله به أن يوصل هو اتباع أوامره تعالى واجتناب نواهيه ، فهي كلها لربط الناس بعضهم ببعض بالمودة والعمل الصالح ، وبسيادة الفضيلة والبعد عن الرذيلة ، وإذا كانت ثمة حروب فلدفع أذى المفسدين ، وتقويم الظالمين ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين .

                                                          وفي الجملة كل قطع بين عباد الله تعالى هو قطع ما أمر الله تعالى به أن يوصل وقطع للأرحام ; لأن الناس جميعا رحم واحدة ، من قطع ما بينهم فقد قطع الأرحام .

                                                          وقوله تعالى : ما أمر الله به أن يوصل و (ما ) : هي مفعول (يقطعون ) ، أي يقطعون الذي أمر الله تعالى به - أي بشأنه - أن يوصل . " أن " وما بعدها مصدر ، أي أمر الله تعالى وصله ، وعدم قطعه .

                                                          الوصف الثالث - من أوصاف الفاسقين ، بينه سبحانه وتعالى بقوله : ويفسدون في الأرض والفساد في الأرض يشمل فساد العقائد إذ إن سلامة العقيدة فيها سلامة النفس ، وفساد العقيدة بألا يؤمنوا بالله وحده ، ولا يعبدوه وحده ، ويتعلقون بالأوهام حول الأصنام ، وأي فساد أعظم من أن يحقر الإنسان نفسه وعقله ، وإدراكه فيسجد لصنم لا يضر ولا ينفع ، وقد رآه يصنع بين يديه ، إنه ضلال العقل ، وضلال النفس ، وسيطرة الوهم . ويشمل الفساد بث روح النزاع المستمر بين الناس قبائل وشعوبا ، وكلما أطفأ الله نار الحرب أوقدوها باسم العصبية [ ص: 183 ] القبلية ، أو العصبية الوطنية ، أو بالرغبة في أن تربو أمة عن أمة ، أو التنافس الاقتصادي ، حتى ينظر الإنسان للإنسان نظرة من يتربص به الدوائر .

                                                          ويشمل الفساد في الأرض ألا يكون الحكم المرضي الحكومة هو الحق ، وأن يكون الحكم للغلب ، وأن يسود قانون الغابة لا قانون الفضيلة بين الناس ، وأن يكون ذلك في كل العلاقات الإنسانية ، القوي يأكل الضعيف ، والغني يحقر الفقير ، والعالم لا يعلم الجاهل ، بل يتخذه مطية لأهوائه وشهواته .

                                                          ويشمل الفساد في الأرض ألا يكون تعاون في استخراج ينابيع الثروة من باطن الأرض ، بل يستبد بها القادر عليه ، ويشمل الفساد ألا يوزع بين أهل الأرض خيراتها ، بل يلقيه بعضهم في البحار ، ولو جاع الباقون ، ضنا به على في أخيه الإنسان .

                                                          ولقد حكم الله تعالى على من كانت هذه أوصافهم فقال تعالت كلماته : أولئك هم الخاسرون .

                                                          اسم الإشارة إلى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات ، والإشارة إلى المتصفين بصفة أو صفات تومئ إلى أن هذه الصفات هي سبب الحكم . فنقض العهود والمواثيق ، وقطع الصلات الإنسانية ، وإشاعة الفساد في الأرض هو السبب في الخسران الذي لا ينجو منه أولئك الفاسقون .

                                                          والخاسر هو الذي نقص حظه من الغاية التي كان يبتغيها ، وكذلك الذين اتصفوا بهذه الصفات ، فالناقض للعهد يحسب أنه كسب من نكثه في عهده ، ولكنه خسر ; لأن الناس لا يثقون بعهده من بعد ، والذي يقطع أرحام الإنسانية يحسب أنه كسب بالانفراد ، ولكنه خسر المعاونة والمودة ، والأخوة الإنسانية ، والمفسد في الأرض يحسب أنه كسب أرضا أو خيرا من وراء ما يفعل ، وقد خسر الناس جميعا ، فهو كمن أراد ربحا بالغش والخديعة فخسر كل ماله ، وهكذا كل الفساق الآثرون الذين [ ص: 184 ] يحسبون بأثرتهم أنهم الكاسبون ، وهم الخاسرون . فمن كسب بغدر وخيانة وقطع الأرحام ، ومن أفسد في الأرض بالحروب الظالمة ، والغدر في العهود ، فهو خسران دائما ، فإن انتصر في حرب ونال ثمرة انتصاره ظلما ، وإزهاقا وإفسادا ، فإن المهزومين يتأهبون ، وهو يترقب متوجسا خائفا حذرا ، وسيكون منهم الانتقام ، ويكون الشر المستطير ، بين الغالب والمغلوب ، ولا سلام ، بل خسران .

                                                          وأكد سبحانه وتعالى الخسران في قوله تعالى : أولئك هم الخاسرون . . بمؤكدات ثلاثة أولها : التعبير بالجملة الاسمية ، ففي التعبير بها تعبير بأكمل القول الدال على الاستمرار . وثانيها : التأكيد بكلمة " هم " ، وهي تدل على انفرادهم بالخسارة دون المؤمنين الطائعين ، فهم الرابحون دائما ، وثالثها : تعريف المسند والمسند إليه الدال على القصر ; أي أنهم مقصورون على الخسارة ، فلا يربحون أبدا ما داموا على الأخلاق التي تفسد الجماعات وتقطع العلاقات ، والربح للإيمان وأهله .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية