الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 1812 ] لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما

                                                          * * *

                                                          في الآيات السابقة كانت الدعوة إلى الجهاد، وتخللت هذه الدعوة آيات في وجوب الحذر من المنافقين،، وفي بعض العلاقات الدولية، وأحكام الخطأ إذا كان المقتول معصوم الدم، ثم جاء في السياق قتل المؤمن عمدا، وعظم الجرم فيه، وإنزال العقاب الشديد بمن يرتكب ذلك الجرم. وكان هذا بمثابة التمهيد لوجوب الاحتراس من قتل المؤمن إذا استعرت الحرب واشتد أوارها، فكان على المؤمنين إذا ضربوا في الأرض ألا يضعوا السيف في موضع البرء والسقم. وفي هذه الآيات الكريمات يبين سبحانه وجوب الخروج للجهاد إن وجدت دواعيه، وأن الأجر العظيم للذين يخرجون مجاهدين، وأنه لا يصح أن يقعد مؤمن عن الجهاد، وهو قادر عليه، فقال تعالى:

                                                          لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم الجهاد مصدر جاهد مجاهدة وجهادا، وهو بذل أقصى الجهد في مقابلة من يبذلون أقصى الجهد للاعتداء، فهو مبادلة لارتكاب المشاق، وهو في سبيل الله لا يكون إلا لنصرة الحق وتأييده والدفاع عنه، وأكثر ما يطلق في لغة القرآن والحديث وعرف أهل الإسلام، يكون على القتال في سبيل الدين. والجهاد أعم من القتال، وأخص منه، فبينهما عموم وخصوص من وجه كما يقول المناطقة، فهما يجتمعان في القتال للدفاع عن الحق. والقتال قد يكون في البغي [ ص: 1813 ] على الحق، ولا يكون الجهاد بمقتضى العرف الإسلامي إلا ردا للاعتداء. والجهاد لا يكون بالقتال وحده، بل يكون ببذل المال في تأييد الحق، وبالبيان في الدعوة إليه، ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "جاهدوا المشركين بأنفسكم، وأموالكم، وألسنتكم". ومعنى النص الكريم: لا يستوي الذين قعدوا عن الجهاد لإعلاء كلمة الحق، ولم يخرجوا مناصرين له بأنفسهم وأموالهم، مع الذين قعدوا عن ذلك، من غير ضرر ملازم لهم، كمرض مزمن أو عمى أو شلل أو عرج، أو الذين لا يجدون ما ينفقون منه في إعداد العدة، ولا يوجد من يقدم لهم السيف والزاد والراحلة. وقد بين الله سبحانه وتعالى أولي الضرر في آية أخرى، وقال: ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون [التوبة].

                                                          ونجد في هذا النص الكريم أن الإخلاص مع الاستعداد وعدم القدرة على التنفيذ قد يغني عن الجهاد، أو على الأقل يسقط المؤاخذة، ولذا قال تعالى: إذا نصحوا لله ورسوله أي أخلصوا، وبذلوا في سبيل الله ما يستطيعون بذله.

                                                          ونجد في النص الكريم إشارة إلى أن الجهاد بالمال جهاد، وإلى أن القعود نوعان: أولهما قعود مادي حسي، بمعنى ألا يخرج من الدار والعدو متأهب لمنازلة أهل الإسلام، أو غزوهم في عقر دارهم، وما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، كما قال فارس الإسلام علي -رضي الله عنه -، والثاني: قعود عن [ ص: 1814 ] البذل والإنفاق في سبيل الحرب، وهذا قعود عن الجهاد بالمال، وهو لا يقل خطرا عن القعود والعدو قد أخذ الأهبة، ولذلك عد القرآن الكريم البخل في هذه الحال مؤديا إلى التهلكة، ولذلك قال تعالى: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين [البقرة].

                                                          ولا شك أن أكمل الجهاد ما كان بالمال والنفس، كما هو الشأن في جهاد كثير من الصحابة، كأبي بكر وعمر ، وعثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، وغيرهم من كبار الصحابة الذين كان لهم مال بذلوه، وكان لهم بلاء في ميدان القتال، فقاتلوا في سبيل الله بأنفسهم.

                                                          والآية تشير إلى وجوب إعداد الشباب في الأمة للجهاد، بأن يتربوا منذ طفولتهم على أساليب الحرب والنزال، فإنه لا يسوغ استنفار طائفة إن حملت السلاح لا تستطيع الضرب، ولذلك وردت الآثار بتعليم الشباب الرماية، والدربة على القتال، ويعد ذلك ضروريا من ضروريات التعليم الديني. وإذا كان الإسلام قد منع العكوف في الصوامع للعبادة وحدها، فقد أمر الأمة كلها بالجهاد في سبيله، أو الاستعداد له، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله".

                                                          وإذا كانت المساواة بين القاعد والمجاهد غير سائغة في حكم العقل والشرع، فالفضل في الدرجة للمجاهدين; ولذا قال سبحانه:

                                                          فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وإذا كان التساوي بين المجاهدين والقاعدين من غير ضرر يمنعهم غير مستساغ، فإن الله تعالى فضل المجاهدين بالمال والنفس على القاعدين ذوي الضرر، وجعلهم في درجة أعلى من القاعدين لعذر، والمراد بالدرجة أن يكون لهم فضل أعظم، ومكانتهم عند الله أكرم من ذوي الأعذار; وذلك لأن جهاد [ ص: 1815 ] هؤلاء عملي إيجابي، وموقف ذوي الأضرار سلبي، وهم يعرضون أنفسهم للتلف، وأولئك لم يتعرضوا له، ويقدمون النفيس من المال، وأولئك لم يقدموه، ومع ذلك فإن الله تعالى وعد كلا من الفريقين الحسنى، أي العاقبة الحسنة، حيث لا يكون ثمة عقاب يوم القيامة، بل يكون النعيم المقيم لهما معا. والله تعالى يثيب المرء بمقدار نيته، وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم، أولئك قوم حبسهم العذر"، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقيم عبد الله ابن أم مكتوم على المدينة، وهو أعمى، لكي ينتفع بكل القوى، وليكون لذوي الأعذار فضل العمل.

                                                          وإن تفضيل الدرجة على القاعدين ذوي الضرر لكي يسير القادر ولو نسبيا، فلا يقعد لضرر وهمي، أو عذر غير قهري، فكثير من الناس يتوهمون أعذارا، حيث لا عذر.

                                                          هذا فضل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين ذوي الضرر، وقد رحم الله الضعفاء، فجعل لهم الحسنى كالمجاهدين، وإن كانوا دونهم فضلا، أما الذين قعدوا من غير عذر، فقد بين سبحانه فضل المجاهدين عليهم بأنه درجات، فقال سبحانه: وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما

                                                          كان التفضيل الأول بالدرجة الواحدة، وذلك النص في تفضيل الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير ضرر. فالمجاهدون بأموالهم وأنفسهم مفضلون عليهم بأجر عظيم، وأنى يكون من قعد بين أهله آمنا في سربه، كمن ارتكب المشقة وترك الأهل والولد!. [ ص: 1816 ] ونجد النص الكريم لم يذكر الذين قعدوا بمذمة صريحة، وفي هذا إشارة إلى أن الغزو والخروج للجهاد فرض كفاية، وليس فرض عين، وذلك إذا لم يكن المسلمون في حاجة إلى كل القادرين. ومهما يكن، فالخارجون للجهاد لهم الفضل الأعظم. وقد بين سبحانه عظيم الأجر بأنه يرفع المجاهد درجات عند الله تعالى، فقال سبحانه مبينا ذلك:

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية