الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 1929 ] لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا

                                                          * * *

                                                          في الآيات السابقة كشف الله سبحانه وتعالى عن أوصاف المنافقين، وبين ظواهر أحوالهم، ومجموع أمورهم، وما يرتكبون من سيئات واضحة معلمة، وما يخفون في صدورهم من أحقاد مكنونة، وبين مآل أمرهم إن استمروا في غيهم يعمهون، وبين سبحانه وتعالى أن باب التوبة مفتوح، وأن الله تعالى لا يغلق باب الرحمة بالتوبة على أحد من عباده، ولو كانوا منافقين، فإن الله تعالى يحب التوابين، والتوبة عنده سبحانه تجب ما قبلها من سيئات مهما تكن.

                                                          وفي هذا النص الكريم بين أن الجهر بالسوء من القول لا يكون إلا في أحوال تقتضي ذلك، وقد وجد مقتضاه في أهل النفاق، فليحترز المؤمن من الاسترسال في الجهر بالسوء إلا عند أشد الحاجة إليه، ولذا قال سبحانه:

                                                          لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم السوء هو ما يسوء الناس من أقوال وأفعال، سواء كانت الإساءة عامة أو خاصة، وسواء أكانت الإساءة إلى الإنسان أم إلى الفضيلة، فكل ما يمس المجتمع، ويترتب عليه شر وأذى، فهو من السوء، والمحبة شأن من شؤون الله تعالى، لا تتشابه مع محبتنا، ولا مع ما يجري بيننا من حب وبغض; لأن ذات الله تعالى منفردة بصفاته، لا تشابه ذات المخلوقين في شيء: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [الشورى].

                                                          والمحبة أكثر من الرضا، والرضا أكثر من الإرادة، فهذه كلها صفات للذات العلية مرتبة في القوة، فالإرادة تتعلق بالخلق والتكوين، فما أراده الله تعالى يقع، وما لا يريده لا يمكن أن يقع، فلا يمكن أن يقع من أفعال الإنسان ما لا يريده رب العالمين، ولا يمكن أن يفعل الإنسان شيئا لا يريده العليم الخبير الذي لا تخفى عليه الأنفس، وما تكن الصدور. [ ص: 1930 ] أما الرضا فمعناه بالنسبة للذات العلية أن يكون العمل أو القول محل قبوله سبحانه وتعالى والمجازاة عليه، ولذلك يتصور أن يفعل العباد ما يغضبون الله به سبحانه وتعالى، وقد جاء في القرآن الكريم عبارات سامية صريحة بأن الله تعالى يغضب على عباده لأفعال فعلوها، وأن الله تعالى لا يرضى عن بعض أفعال عباده، فلا يرضى من عباده الكفر، والرضا لا يكون إلا لأعمال المتقين وهو أعلى أنواع الثواب الذي يثيب الله تعالى به عباده، ولذلك قال سبحانه بعد ذكر نعيم الجنة: ورضوان من الله أكبر [التوبة].

                                                          والمحبة مرتبة فوق الرضا، أو هي أبلغ الرضا، وقد وعد الله تعالى أهل الإيمان الحق الصادق بأنهم ينالون محبته، وهي أقصى درجات الرضا.

                                                          ومع أن المحبة من الناحية الإيجابية أقصى درجات الرضا، هي من الناحية السلبية، تكون في مرتبة الغضب، فمعنى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم أن الله تعالى يبغض الجهر بالكلام الذي هو سوء في ذاته، ويسيء الناس، ويؤذي الفضيلة، فإن ذلك إعلان سيئ الأعمال، وقبيح الأقوال.

                                                          والجهر معناه النطق به في إعلان لا خفاء فيه; ونشر هذا الكلام بين الناس، وإذاعته بين ربوعهم.

                                                          والمعنى الإجمالي للنص السامي أن الله تعالى يبغض الجهر بالأمر السيئ أو الأفعال السيئة. وكل إعلان للمنافق والفاجر من الجهر بالأمر المسيء هو من قبيل الجهر بالسوء من القول، فـ"من" هنا بيانية وهي بيان لنوع السوء بأنه من القول، وذلك يشمل كل إعلان للأعمال القبيحة، والترامي بها، فيشمل القذف والسباب وإعلان المعاصي والجرائم، وتفصيل القول فيها من غير حاجة إلى بيانها، ولا إقامة حق في إعلانها، فإن ذلك كله من سوء القول وفاحشه.

                                                          وإن الإسلام في سبيل تكوين رأي عام مهذب نهى عن إعلان الآثام والمفاسد الشخصية، ولقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس من ارتكب شيئا من هذه القاذورات، [ ص: 1931 ] فاستتر فهو في ستر الله، ومن أبدى صفحته أقمنا عليه الحد"، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أبعد الناس عن الله منازل يوم القيامة المجاهرين، قيل: ومن هم يا رسول الله; قال: ذلك الذي يعمل عملا بالليل قد ستره الله عليه، فيصبح يقول: فعلت كذا وكذا يكشف ستر الله".

                                                          وإن الجهر بالسوء يسهله، فتزداد الجرائم ويسهل ارتكابها لمن هو على استعداد لها، وكثيرا ما نرى الشبان يرتكبون جريمة معينة قد أخذوها من قصة أذيعت، أو نشرت، أو تردد ذكرها، فإن ذكر الشر يستهوي الشباب، خصوصا إذا قدم في عرض منسق يحبب الاستماع إليه، فإنه يسري في النفوس سريان الطعام المسموم في الأجسام.

                                                          وفوق ذلك فإن كثرة ذكر السوء والفجور يزيل استنكاره في النفس، ويذهب بروعة الحق، وإن ذكر السوء لأهل السوء يثير عدوانهم ويجعلهم يتبجحون في ارتكابه، ويباعد بينهم وبين الاستجابة لداعي الهدى، ذلك أن الناس إذا استتروا في شرهم، وظنوا أن الناس لا يعلمونه كان كتمانه مسهلا لقتله في نفوسهم، فإن أعلن وفقدوا حياءهم استمرءوا الشر وأعلنوه، وكل إعلان منهم تغليق لباب الهداية في قلوبهم بيد أن الشر أحيانا يجب إعلانه لدفعه، إذا كان ثمة فريسة لهذا الشر، وتعد بالظلم، فإنه يجب دفعه، ولذلك ذكر سبحانه بعد أن قرر القاعدة العامة، وهي أنه لا يحب الجهر بالسوء استثناء حال الظلم فقال:

                                                          إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما الاستثناء هنا عند بعض العلماء استثناء منقطع، فـ"إلا" هنا معناها لكن، والمعنى: لكن من ظلم له أن يجهر بالسوء لدفع [ ص: 1932 ] ظلمه، وحدود الجهر هو مقدار دفع الظلم، فإن أمكن دفعه بغير الجهر لا يجهر، وإن لم يمكن دفعه إلا بالجهر - جهر حتى يصل إلى حقه.

                                                          وقال بعض العلماء إن الاستثناء متصل، وتأويل الكلام أن الله تعالى لا يحب الجهر بالسوء إلا جهر من ظلم فإنه ليس بخارج عن محبة الله تعالى لأن دفع الظلم واجب ولازم، ولقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض ثم تدعون فلا يستجاب لكم".

                                                          فدفع الظلم واجب، وإذا كان الجهر سبيله فهو واجب; لأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب، ولكن ما مدى الاستثناء الذي يسوغ الله سبحانه وتعالى به للمظلوم أن يجهر بالسوء، وأن يعلنه؟ نقول بالإجمال إن مداه هو منع الظالم من الاستمرار في ظلمه وحمله على الانتهاء عن غيه، وإن ذلك يشمل الأحوال الآتية: الأولى: أن يجهر الخصم بما ارتكب خصمه من مآثم في حقه أمام القاضي، فإن الجهر في هذه الحال لا يبغضه الله تعالى; لأنه إقامة حق، ودفع باطل، ولقد قال تعالى: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل [الشورى].

                                                          ولقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته" والمراد أن يغلظ له في القول، ولا يقول القاضي قولا لينا إذا ثبت مطله في أداء الدين.

                                                          الثانية: إذا كان الحاكم ظالما، فإنه يجب توجيه اللوم الشديد إليه بالنقد من غير إسفاف، ولكن لا يقول الناقد إلا حقا، ويستر نقده، حتى يرعوي هذا من غيه وذلك إذا لم تجد فيه الموعظة الحسنة، فإن كانت مجدية لا يصح الاتجاه إلى الجهر بمظالمه.

                                                          ولقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل المجاهدين رجل قال كلمة حق أمام سلطان جائر [ ص: 1933 ] فقتله"، وإن ذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن نقد الفساد هو من قبيل الإنكار بالقول، وهو المرتبة الثانية من الإنكار، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

                                                          الثالثة: الدعوة على الظالم، فإن هذه الدعوة يصح أن تكون جهرا. ومن ذلك دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- على العرب الذين ناوءوه، فقد قال -عليه الصلاة والسلام- في دعائه: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف". وخص -عليه الصلاة والسلام- أسماء بالدعاء عليهم، وقد أثر عن السلف الصالح الدعاء على من ظلمهم، وكان يوصي الحسن البصري المظلوم بأن يقول في ظالمه: "اللهم أعني عليه، اللهم استخرج حقي منه، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي".

                                                          الرابعة: أن يذكر المظلوم الظالم الذي ظلمه بالسوء في مجالسه من غير كذب ولا بهتان، وقد روي عن بعض السلف أنهم ترخصوا في ذلك، وأجازوا لمن شتم أن يرد الشتم بمثله، ولكن إن افترى عليه لا يفتري; لأن الكذب حرام لا يسوغه شيء، فلا تجوز المعاملة بالمثل فيه، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه، ويجهر له بالسوء من القول. ولقد روي أن عليا بن أبي طالب قال: "ادفعوا الحجر من حيث جاء، فإنه لا يدفع الشر إلا شر مثله". [ ص: 1934 ] هذه أحوال تسوغ النطق بالسوء دفعا لظلم أهل السوء، وكذلك الجدل في الحق، لا مانع من ذكر ما انغمس فيه أهل الباطل ولا يعد هذا جهرا بالسوء، بل هو كشف للسوء، وإن الأحوال التي يكون فيها دفع الظلم لا تعد على التحقيق جهرا بالسوء لمجرد الجهر، بل هي كشف للظالم، وإنهاء للظلم، ولذلك رجح بعض العلماء أن يكون الاستثناء منقطعا.

                                                          ومهما يكن من أمر الجهر بالسوء، فإن الله تعالى عليم بالبواعث، سميع لما يجهر به الجاهر، وما يحدث به نفسه، ولذلك ذيل سبحانه وتعالى النص بقوله تعالت كلماته: وكان الله سميعا عليما أي أنه تعالى متصف بوصف السمع الكامل، والعلم المحيط الشامل، فهو سميع لما يجهر به الإنسان، وما تحدثه به نفسه، وما هو مطوي من خلجات وجدانه، وعليم بالبواعث التي تبعثه على المنطق، ومجازيه بقوله وعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهو عليم بكل أعمال الجوارح، وما يرتكبه العباد من خير وشر علما محيطا يليق بذاته العلية.

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية