الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد .

                                                          وفي تفصيل التطهر لأداء الصلاة وهي عماد الدين قال: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم

                                                          وفي تفصيل عماد الدنيا وهو الشهادة بالقسط في إقامة حقوق الله قال: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط

                                                          فالمقصود بهذا إشعار المؤمنين بأن إيفاءهم بالعقود جملة وتفصيلا هو من مقتضى الإيمان، وأن نكث العهود والإخلال بما تقتضيه العقود لا يتفق والإيمان. فالمؤمن حقا يوفي بالتزاماته لربه ولنفسه ولغيره. ومن هنا نفهم معنى الحديث: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن".

                                                          وإن من أوائل الأحكام الشرعية ما أحله الله تعالى، وما أحله سبحانه قيده بقيود، ولذا قال تعالى:

                                                          أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم ابتدأ الحكم ببيان الحلال من الأطعمة، لسببين: أولهما: أن العرب كانوا يحرمون في الجاهلية على أنفسهم بعض الحيوان لأوهام ورثوها، لم يأت بها دين، ولم يتصورها عقل، وليس للتحريم سبب يدركه أهل العقول. ثانيهما: أن النص جاء للإباحة مع القيد، فهي حلال بشرط ألا تكون مما يتلى تحريمه، وسيبينه الله تعالى من بعد، والتحريم سببه أحد أمرين: أولهما: ذاتي في ذات الحيوان كالخنزير والميتة، وما يشبه الميتة من التي تردت في منخفض من الأرض فنفقت، أو نطحت فهلكت، والثاني: عرضي بحال معينة كتحريم الصيد، فالنص لإباحة مقيدة مع ذكر القيد بالإشارة إليه ثم بيانه. [ ص: 2014 ] والبهيمة: اسم لكل حيوان أعجم، لإبهامه من جهة نقص النطق، وعدم تمييزه.

                                                          والنعم في أصل الإطلاق العربي يكون على الإبل والبقر والغنم، واشتقاقها من النعمة; لأنها من نعمه سبحانه وتعالى التي أنعم الله بها، كما قال تعالى: والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون [النحل].

                                                          ويصح أن يكون مثل الإبل والبقر والغنم كل حيوان أو طير يتغذى من النبات، ولم يرد نص بتحريمه فيدخل الظبي وحمار الوحش وغيرهما من آكلات الأعشاب، كما يدخل الطير غير سباعه، وغيرها.

                                                          أحلت لكم بهيمة الأنعام البهيمة في اللغة العربية: هي كل ذات أربع من الدواب. والأنعام هي الإبل والبقر والغنم ذكورها وإناثها، وقد بينها الله سبحانه في سورة الأنعام بأنها ثمانية أزواج: من الضأن اثنين -الكبش والنعجة- ومن المعز اثنين -الجدي والعنز- ومن الإبل اثنين -الجمل والناقة- ومن البقر اثنين -الثور أو الفحل والبقرة أو الجاموسة-. فهذه هي الأنعام في لسان القرآن.

                                                          ولما أمر الله المؤمنين بأن يوفوا بالعقود أخذ يفصل لهم العقود التي أمرهم أن يوفوا بها، وبدأ بأولها وأحقها بالإيفاء وهي عقودهم مع ربهم بمقتضى إيمانهم، وبدأ من هذه العقود ببيان ما أباح لهم أكله والانتفاع به من الحيوان، وما حرمه، لأن هذا الأكل والانتفاع أكثر ما يعرض للإنسان، وأكثر ما يحتاج إلى معرفة حكمه، ولأن أهل الجاهلية كانوا قد جاروا وظلموا في حكمهم في الأنعام، وبنوا تحريمهم لما حرموه منها، وتحليلهم ما أحلوه منها على نزعات وثنية، وأوهام لا يصح أن يبنى عليها تحريم ولا تحليل، فجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم.

                                                          وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم [ ص: 2015 ] على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء.

                                                          وجعلوا من الأنعام بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميا، وهكذا ساروا في تحريم الأنعام وإحلالها على ما تقتضيه وثنيتهم، لا على ما تقتضيه مصلحتهم. فالله سبحانه بدأ عقوده مع المؤمنين ببيان أنه أباح لهم الأنعام كلها إلا ما يتلو عليهم تحريمه منها. فهو سبحانه بدأ ببيان ما فيه قضاء على وثنيات الجاهلية، وبما فيه إشعار المؤمنين بكمال النعمة عليهم، إذ أباح لهم الأنعام كلها والانتفاع بها بكل وجوه الانتفاع، ولم يقيد هذه الإباحة بما كانت تقيده به أهل الجاهلية من قيود وشروط لا تقوم على أساس من المصلحة، وإنما تقوم على أوهام وأباطيل لا يصح أن يبنى عليها تحريم ما رزق الله به عباده من الطيبات، بل قيدها باستثناء ما فيه ضرر بصحة الإنسان أو دينه. وعلى النفع والإضرار يبنى التحليل والتحريم. ومن هذا نفهم الحكمة في أن الله سبحانه قال: أحلت لكم بهيمة الأنعام ولم يقل أحلت لكم الأنعام; لأنه أراد سبحانه التنبيه إلى أن الأنعام أحلت بوصف أنها بهيمة، وكل الأنعام ذكورها وإناثها متحقق فيها هذا الوصف، فكل الأنعام حلال لكم. وإضافة لفظ بهيمة للأنعام لتأكيد عموم الأنعام التي أحلت، وللإشارة إلى أن التفريق بين بعض الأنعام وبعضها -مع أنها كلها بهيمة- ظلم وحظر لما لا مبرر لحظره. وفي سورة الحج: وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم [الحج].

                                                          إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد هذان استثناءان من العموم الذي دلت عليه أحلت لكم بهيمة الأنعام لأن معناها أحلت الأنعام كلها لكم جميعا.

                                                          استثنى سبحانه من الأنعام التي أحلت الأنعام التي يتلو على المؤمنين آيات تحريمها في قوله سبحانه:

                                                          يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد [المائدة]،

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية