الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن مات وعليه قضاء رمضان فأوصى به أطعم عنه وليه لكل يوم مسكينا نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير ) لأنه عجز عن الأداء في آخر عمره [ ص: 358 ] فصار كالشيخ الفاني ، ثم لا بد من الإيصاء عندنا خلافا للشافعي رحمه الله ، وعلى هذا الزكاة . هو يعتبره بديون العباد إذ كل ذلك حق مالي تجري فيه النيابة . ولنا أنه عبادة ولا بد فيه من الاختيار . وذلك في الإيصاء دون الوراثة لأنها جبرية ، ثم هو تبرع ابتداء حتى [ ص: 359 ] يعتبر من الثلث ، والصلاة كالصوم باستحسان المشايخ ، وكل صلاة تعتبر بصوم يوم [ ص: 360 ] هو الصحيح ( ولا يصوم عنه الولي ولا يصلي ) لقوله صلى الله عليه وسلم { لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد } .

التالي السابق


( قوله وصار كالشيخ الفاني ) إلحاقا بطريق الدلالة لا بالقياس . وجهه أن الكلام في مريض عجز عن الأداء وعليه الصوم ، ولا شك أن كل من سمع أن الشيخ الفاني الذي لا يقدر على الصوم يجزي عنه الإطعام علم أن سبب ذلك عجزه عجزا مستمرا إلى الموت ، فإن الشيخ الفاني الذي علق عليه هذا الحكم هو الذي كل يوم في نقص إلى أن يموت فيكون الوارد في الشيخ الفاني واردا في المريض الذي هو بتلك الصفة ، لا فرق إلا بأن الوجوب لم يسبق حال جواز الإطعام في الشيخ الفاني إلا بقدر ما يثبت ثم ينتقل ، والمريض تقرر الوجوب عليه قبله بإدراك العدة وعجزه الآن بسبب تقصيره في المسارعة إلى القضاء ، ومعلوم أنه إذا كان الوجوب على التراخي لا يكون بذلك التأخير جانيا فلا أثر لهذا الفرق في إيجاب افتراق الحكم . واعلم أنهم منعوا في الأصول الإلحاق بالشيخ الفاني بطريق الدلالة كما منعوه بطريق القياس ، لأن شرطه ظهور المؤثر وأثره غير أنه في الدلالة لا يفتقر إلى أهلية الاجتهاد بخلاف القياس ، وذلك منتف في الشيخ الفاني ، فإن ظهور المؤثر فيه وهو العجز إنما يصلح لإسقاط الصوم . وهنا مقام آخر وهو وجود الفدية ولا يعقل العجز مؤثرا في إيجابها ، لكنا نقول ذلك في غير المنصوصة ، وكون العجز سببا لوجوب الفدية علة منصوصة ، لأن ترتيب الحكم على المشتق نص على علية مبدأ الاشتقاق وإن لم يكن من قبيل الصريح عندنا بل بالإشارة ، وقد قال تعالى { وعلى الذين يطيقونه فدية } أي لا يطيقونه .

( قوله ثم لا بد من الإيصاء عندنا ) أي في لزوم الإطعام على الوارث ( خلافا للشافعي رحمه الله وعلى هذا الزكاة ) أي إذا مات من عليه دين الزكاة بأن استهلك مال الزكاة بعد الحول والعشر بعد وقت وجوبه لا يجب على وارثه أن يخرج عنه الزكاة والعشر إلا أن يوصي بذلك ، ثم إذا أوصى فإنما يلزم الوارث إخراجهما إذا كانا يخرجان من الثلث ، فإن زاد دينهما على الثلث لا يجب على الوارث ، فإن أخرج كان متطوعا عن الميت ويحكم بجواز إجزائه .

ولذا قال محمد في تبرع الوارث : يجزيه إن شاء الله تعالى ، كما إذا أوصى بالإطعام عن الصلوات على ما يذكر ، ويصح التبرع في الكسوة والإطعام لا الإعتاق لأن في الإعتاق بلا إيصاء إلزام الولاء على الميت ، ولا إلزام في الكسوة والإطعام .

وجه قول الشافعي ما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : [ ص: 359 ] { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم ، قال : فدين الله أحق } وفي رواية { جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ الحديث ، إلى أن قال فصومي عن أمك } .

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عنه عليه الصلاة والسلام { من مات وعليه صيام صام عنه وليه } قلنا : الاتفاق على صرف الأول عن ظاهره فإنه لا يصح في الصلاة الدين ، وقد أخرج النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو راوي الحديث الأول في سننه الكبرى أنه قال " لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد " وفتوى الراوي على خلاف مرويه بمنزلة روايته للناسخ ، ونسخ الحكم يدل على إخراج المناط عن الاعتبار ، ولذا صرحوا بأن من شرط القياس أن لا يكون حكم الأصل منسوخا لأن التعدية بالجامع ، ونسخ الحكم يستلزم إبطال اعتباره ، إذ لو كان معتبرا لاستمر ترتيب الحكم على وفقه .

وقد روي عن عمر رضي الله عنه نحوه ، أخرجه عبد الرزاق وذكره مالك في الموطإ بلاغا فقال مالك : ولم أسمع عن أحد من الصحابة ولا من التابعين رضي الله تعالى عنهم بالمدينة أن أحدا منهم أمر أحدا أن يصوم عن أحد ولا يصلي عن أحد ا هـ .

وهذا مما يؤيد النسخ ، وأنه الأمر الذي استقر الشرع عليه آخرا ، وإذا أهدر كون المناط الدين فإنما يعلل لوجوب الأداء عن الميت على الوارث بدين العباد فإنه محل الاتفاق ، وليس هو الكائن في صورة النزاع فلا يجب على الوارث إلا بالإيصاء ، ثم إذا أوصى لا يجب عليه إلا بقدر الثلث إلا أن يتطوع ، وعلى هذا دين صدقة الفطر والنفقة الواجبة والكفارات المالية والحج وفدية الصيامات التي عليه والصدقة المنذورة والخراج والجزية ، وهذا لأن هذه بين عقوبة وعبادة ، فما كان عبادة فشرط إجزائها النية ليتحقق أداؤها مختارا فيظهر اختياره الطاعة من اختياره المعصية الذي هو المقصود من التكليف ، وفعل الوارث من غير أمر المبتلى بالأمر والنهي لا يحقق اختياره ، بل لما مات من غير فعل ولا أمر به فقد تحقق عصيانه بخروجه من دار التكليف ولم يمتثل ، وذلك يقرر عليه موجب العصيان ، إذ ليس فعل الوارث الفعل المأمور به فلا يسقط به الواجب ، كما لو تبرع به حال حياته وما كان فيها مع ذلك معنى العقوبة ، فلا يخفى أنه فات فيه الأمران إذ لم يتحقق إيقاع ما يستشقه منه ليكون زاجرا له ، بخلاف ديون العباد فإن المقصود من الأمر بأدائها وصول المال إلى من هو له ليدفع به حاجته ، ولذا إذا ظفر من له بجنسه كان له أخذه ويسقط عن ذمة من عليه فلزمت من غير إيصاء لتحقق حصول المقصود بفعل الوارث هنا ، وعن هذا قلنا : لا يورث خيار الشرط والرؤية لأنه رأي كان للميت ، بخلاف خيار العيب لأنه جزء من العين في المعنى احتبس عند البائع .

وإذا علمت ما ذكرنا علمت أن المقصود من حقوق الله تعالى إنما هي الأفعال إذ بها تظهر الطاعة والامتثال ، وما كان ماليا منها ، فالمال متعلق المقصود : أعني الفعل ، وقد سقطت الأفعال كلها بالموت لتعذر ظهور طاعته بها في دار التكليف ، فكان الإيصاء بالمال الذي هو متعلقها تبرعا من الميت ابتداء فيعتبر من الثلث ، بخلاف دين العباد لأن المقصود فيها نفس المال لا الفعل ، وهو موجود في التركة فيؤخذ منها بلا إيصاء .

( قوله والصلاة كالصوم باستحسان المشايخ ) وجهه : أن المماثلة قد ثبتت شرعا بين الصوم والإطعام [ ص: 360 ] والمماثلة بين الصلاة والصوم ثابتة ، ومثل مثل الشيء جاز أن يكون مثلا لذلك الشيء وعلى تقدير ذلك يجب الإطعام ، وعلى تقدير عدمها لا يجب ، فالاحتياط في الإيجاب ، فإن كان الواقع ثبوت المماثلة حصل المقصود الذي هو السقوط وإلا كان برا مبتدأ يصلح ماحيا للسيئات ، ولذا قال محمد فيه يجزيه إن شاء الله تعالى من غير جزم كما قال في تبرع الوارث بالإطعام ، بخلاف إيصائه به عن الصوم فإنه جزم بالإجزاء .

( قوله هو الصحيح ) احتراز من قول ابن مقاتل : إنه يطعم لكل صلاة يوم مسكينا لأنها كصيام يوم ثم رجع إلى ما في الكتاب ، لأن كل صلاة فرض على حدة فكانت كصوم يوم .




الخدمات العلمية