الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن دخل في صلاة التطوع أو في صوم التطوع ثم أفسده قضاه ) خلافا للشافعي رحمه الله . له أنه تبرع بالمؤدى فلا يلزمه ما لم يتبرع به . ولنا أن المؤدى قربة وعمل فتجب صيانته بالمضي عن الإبطال ، وإذا وجب المضي وجب القضاء بتركه . ثم عندنا لا يباح الإفطار فيه بغير عذر في إحدى الروايتين لما بينا ويباح بعذر ، [ ص: 361 ] والضيافة عذر لقوله صلى الله عليه وسلم { أفطر واقض يوما مكانه } .

التالي السابق


( قوله ومن دخل في صوم التطوع ثم أفسده قضاه ) لا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله في وجوب القضاء إذا فسد عن قصد أو غير قصد بأن عرض الحيض للصائمة المتطوعة ، خلافا للشافعي رحمه الله ، وإنما اختلاف الرواية في نفس الفساد هل يباح أولا ؟ ظاهر الرواية لا إلا بعذر ، ورواية المنتقى يباح بلا عذر .

ثم اختلف المشايخ رحمهم الله على ظاهر الرواية هل الضيافة عذر أو لا ؟ قيل نعم ، وقيل لا ، وقيل عذر قبل الزوال لا بعده ، إلا إذا كان في عدم الفطر بعده عقوق لأحد الوالدين لا غيرهما حتى لو حلف عليه رجل بالطلاق الثلاث ليفطرن لا يفطر .

وقيل : إن كان صاحب الطعام يرضى بمجرد حضوره وإن لم يأكل لا يباح الفطر ، وإن كان يتأذى بذلك يفطر ، واعتقادي أن رواية المنتقى أوجه ، وعلى اعتبار ذلك ينصب الكلام في خلافية الشافعي رحمه الله آخرا ، ويتبين وجه اختيارنا لها في ضمنه إن شاء الله تعالى ، وأحسن ما يستدل به للشافعي رحمه الله ما في مسلم عن { عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال : هل عندكم شيء ؟ فقلنا لا ، قال : فإني إذا صائم ثم أتانا يوما آخر فقلنا : يا رسول الله أهدي لنا حيس ، قال : أرينيه [ ص: 361 ] فلقد أصبحت صائما ، فأكل وفي لفظ فأكل ، وقال : قد كنت أصبحت صائما } فهذا يدل على عدم وجوب الإتمام ، ولزوم القضاء مرتب على وجوبه فلا يجب واحد منهما .

وروى أبو داود والترمذي والنسائي عن أم هانئ موقوفا " الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر " وفي كل من سنده ومتنه اختلاف . وتكلم عليه البيهقي رحمه الله .

وقال الشافعي أيضا : صح { أنه عليه الصلاة والسلام خرج من المدينة حتى إذا كان بكراع الغميم وهو صائم رفع إناء فشرب والناس ينظرون وفي لفظ كان ذلك بعد العصر زاد مسلم عام الفتح } وفيه دلالة للتأخير .

قال الشافعي : فلما كان له قبل أن يدخل في صوم الفرض أن لا يدخل فيه للسفر كان له إذا دخل فيه أن يفطر كما فعل عليه الصلاة والسلام ، فالتطوع أولى .

وحاصله استدلال بفطره في الفرض بعد الشروع الذي لم يكن واجبا عليه على إباحة فطره في النفل بعد الشروع الذي لم يكن واجبا عليه . وهو استدلال حسن جدا . ولنا الكتاب والسنة والقياس ; أما الكتاب فقوله تعالى {ولا تبطلوا أعمالكم } وقال تعالى { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها } الآية سيقت في معرض ذمهم على عدم رعاية ما التزموه من القرب التي لم تكتب عليهم ، والقدر المؤدي عمل كذلك فوجب صيانته عن الإبطال بهذين النصين ، فإذا أفطر وجب قضاؤه تفاديا عن الإبطال ، وأما السنة فما أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن عروة عن { عائشة قالت كنت أنا وحفصة صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدرتني إليه حفصة وكانت ابنة أبيها فقالت : يا رسول الله إنا كنا صائمتين فعرض علينا طعام اشتهيناه فأكلنا منه قال : اقضيا يوما آخر مكانه }

وأعله البخاري بأنه لا يعرف لزميل سماع من عروة ، ولا ليزيد سماع من عروة ، وأعله الترمذي بأن الزهري لم يسمع من عروة .

فقال : روى هذا الحديث صالح بن أبي الأخضر ومحمد بن أبي حفصة عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها . وروى مالك بن أنس ومعمر بن عبيد الله بن عمرو بن زياد بن سعد وغير واحد من الحفاظ عن الزهري عن عائشة رضي الله عنها .

ولم يذكروا فيه عروة ، وهذا أصح ، ثم أسند إلى ابن جريج قال : سألت الزهري أحدثك عروة عن عائشة رضي الله عنها ؟ قال : لم أسمع من عروة في هذا شيئا . ولكن سمعنا في خلافة سليمان بن عبد الملك من ناس عن بعض من سأل عائشة رضي الله عنها عن هذا الحديث ا هـ .

قلنا : قول البخاري مبني على اشتراط العلم بذلك ، والمختار الاكتفاء بالعلم بالمعاصرة على ما مر غير مرة ، ولو سلم إعلاله وإعلال الترمذي فهو قاصر على هذا الطريق فإنما يلزم لو لم يكن له طريق آخر ، لكن قد رواه ابن حبان في صحيحه من غيرها عن جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن [ ص: 362 ] { عائشة قالت أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين } الحديث ، ورواه ابن أبي شيبة من طريق آخر غيرهما عن خصيف عن سعيد بن جبير أن عائشة وحفصة الحديث .

ورواه الطبراني في معجمه من حديث خصيف عن عكرمة عن ابن عباس أن عائشة وحفصة ورواه البزار من طريق غيرها عن حماد بن الوليد عن عبيد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن نافع عن ابن عمر قال أصبحت عائشة وحفصة رضي الله عنهما وحماد بن الوليد لين الحديث ، وأخرجه الطبراني من غير الكل في الوسيط .

حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا محمد بن مهران الجمال قال : ذكره محمد بن أبي سلمة المكي عن محمد بن عمرويه عن أم سلمة عن أبي هريرة قال { أهديت لعائشة وحفصة رضي الله عنهما هدية وهما صائمتان فأكلتا منها فذكرتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اقضيا يوما مكانه ولا تعودا } فقد ثبت هذا الحديث ثبوتا لا مرد له لو كان كل طريق من هذه ضعيفا لتعددها وكثرة مجيئها ، وثبت في ضمن ذلك أن ذلك المجهول في قول الزهري فيما أسند الترمذي إليه عن بعض من سأل عائشة رضي الله عنها عن هذا الحديث ثقة أخبر بالواقع ، فكيف وبعض طرقه مما يحتج به .

وحمله على أنه أمر ندب خروج عن مقتضاه بغير موجب ، بل هو محفوف بما يوجب مقتضاه ويؤكد ، وهو ما قدمناه من قوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } كلام المفسرين فيها على أن المراد لا تحبطوا الطاعات بالكبائر ، كقوله تعالى { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } إلى أن قال { أن تحبط أعمالكم } وكلام ابن عمر رضي الله عنه ظاهر في أن هذا قول الصحابة ، أو لا تبطلوها بمعصيتهما : أي معصية الله ورسوله ، أو الإبطال بالرياء والسمعة ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه ، وعنه بالشك والنفاق أو بالعجب ، والكل يفيد أن المراد بالإبطال إخراجها عن أن تترتب عليها فائدة أصلا كأنها لم توجد .

وهذا غير الإبطال الموجب للقضاء فلا تكون الآية باعتبار المراد دليلا على منع هذا الإبطال ، بل دليلا على منعه بدون قضاء ، فيكون دليل رواية المنتقى على ما قدمناه من أنها إباحة الفطر مع إيجاب القضاء ، ولهذا اخترناها لأن الآية لا تدل باعتبار المراد منها على سوى ذلك .

والأحاديث المذكورة لا تفيد سوى إيجاب القضاء إلا ما كان من الزيادة التي في رواية الطبراني وهي قوله " ولا تعودا " وهي مع كونها متفردا بها لا تقوى قوة حديث مسلم المتقدم الاستدلال به للشافعي ، فبعد تسليم ثبوت الحجية يحمل على الندب ، وكذا حديث البخاري { آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء ، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها ما شأنك ؟ قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا ، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال كل ، قال : فإني صائم ، قال : ما آكل حتى تأكل فأكل ، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم ، فقال له سلمان نم فنام ، ثم ذهب يقوم فقال نم ، فلما كان من آخر الليل قال سلمان قم الآن ، قال : فصليا فقال له سلمان : إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال عليه الصلاة والسلام : صدق سلمان } وهذا مما استدل به القائلون بأن الضيافة عذر ، وكذا ما أسند الدارقطني إلى جابر قال { صنع رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 363 ] طعاما فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فلما أتى بالطعام تنحى رجل منهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : ما لك ؟ قال : إني صائم ، فقال عليه الصلاة والسلام : تكلف أخوك وصنع طعاما ثم تقول إني صائم ، كل وصم يوما مكانه } .

فإن كلا منهما يدل على عدم كون الفطر ممنوعا إذ لا يعهد للضيافة أثر في إسقاط الواجبات ، ولذا منع المحققون كونها عذرا كالكرخي وأبي بكر الرازي ، واستدلا بما روي عنه عليه الصلاة والسلام { إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب ، فإن كان مفطرا فليأكل ، وإن كان صائما فليصل : أي فليدع لهم } والله أعلم بحال هذا الحديث .

وقول بعضهم : ثبت موقوف على إبداء ثبت ، ثم لا يقوى قوة حديث سلمان . والحاصل أن على رواية المنتقى تتظافر الأدلة ولا يعارض ما استدل به الشافعي رحمه الله ما يثبتها على ما لا يخفى ، وأما القياس فعلى الحج والعمرة النفلين حيث يجب قضاؤهما إذا أفسدا .




الخدمات العلمية