الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ثم التسحر مستحب ) لقوله عليه الصلاة والسلام { تسحروا فإن في السحور بركة } ( والمستحب تأخيره ) لقوله عليه الصلاة والسلام { ثلاث من أخلاق المرسلين : تعجيل الإفطار ، وتأخير السحور ، والسواك } [ ص: 374 ] ( إلا أنه إذا شك في الفجر ) ومعناه تساوي الظنين ( الأفضل أن يدع الأكل ) تحرزا عن المحرم ، ولا يجب عليه ذلك ، ولو أكل فصومه تام لأن الأصل هو الليل . وعن أبي حنيفة رحمه الله : إذا كان في موضع لا يستبين الفجر ، أو كانت الليلة مقمرة أو متغيمة . أو كان ببصره علة وهو يشك لا يأكل ، ولو أكل فقد أساء لقوله عليه الصلاة والسلام { دع ما يريبك إلى ما لا يريبك } وإن كان أكبر رأيه أنه أكل والفجر طالع فعليه قضاؤه عملا بغالب الرأي ، وفيه الاحتياط . وعلى ظاهر الرواية لا قضاء عليه لأن اليقين لا يزال إلا بمثله ، ولو ظهر أن الفجر طالع لا كفارة عليه لأنه بنى الأمر على الأصل فلا تتحقق العمدية ( ولو شك في غروب الشمس لا يحل له الفطر ) [ ص: 375 ] لأن الأصل هو النهار ( ولو أكل فعليه القضاء ) عملا بالأصل ، وإن كان أكبر رأيه أنه أكل قبل الغروب فعليه القضاء رواية واحدة لأن النهار هو الأصل ، ولو كان شاكا فيه وتبين أنها لم تغرب ينبغي أن تجب الكفارة نظرا إلى ما هو الأصل وهو النهار .

التالي السابق


وحديث { تسحروا فإن في السحور بركة } رواه الجماعة إلا أبا داود عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { تسحروا فإن في السحور بركة } قيل : المراد بالبركة حصول التقوي به على صوم الغد ، بدليل ما روي عنه عليه الصلاة والسلام { استعينوا بقائلة النهار على قيام الليل ، وبأكل السحر على صيام النهار } . أو المراد زيادة الثواب لاستنانه بسنن المرسلين . قال عليه الصلاة والسلام { فرق ما بين صومنا وصوم أهل الكتاب أكلة السحر } ولا منافاة فليكن المراد بالبركة كلا من [ ص: 374 ] الأمرين ، والسحور ما يؤكل في السحر وهو السدس الأخير من الليل ، وقوله في النهاية : هو على حذف مضاف تقديره في أكل السحور بركة بناء على ضبطه بضم السين جمع سحر فأما على فتحها وهو الأعرف في الرواية فهو اسم للمأكول في السحر ، كالوضوء بالفتح ما يتوضأ به . وقيل : يتعين الضم لأن البركة ونيل الثواب إنما يحصل بالفعل لا بنفس المأكول . وحديث { ثلاث من أخلاق المرسلين } على الوجه الذي ذكره المصنف الله أعلم به . والذي في معجم الطبراني حدثنا جعفر بن محمد بن حرب العباداني حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن علي بن أبي العالية عن مورق العجلي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ثلاث من أخلاق المرسلين : تعجيل الإفطار ، وتأخير السحور ، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة } . ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه موقوفا ، وذكر أن الدارقطني في الأفراد رواه من حديث حذيفة مرفوعا بنحو حديث أبي الدرداء ومما يدل على المطلوب مما في الصحيح حديث البخاري عن سهل بن سعد قال كنت أتسحر ثم يكون لي سرعة أن أدرك صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين عن { زيد بن ثابت قال تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة ، قلت : كم كان قدر ما بينهما ؟ قال : قدر خمسين آية } .

( قوله إلا أنه إذا شك ) استثناء من قوله ثم التسحر مستحب ، وأخذ الظن في تفسير الشك بناء على استعمال لفظ الظن في الإدراك مطلقا .

( قوله فصومه تام ) أي ما لم يتيقن أنه أكل بعد الفجر فيقضي حينئذ .

( قوله وعن أبي حنيفة إلخ ) يفيد المغايرة بين هذه وبين تلك الرواية ، فإن استحباب الترك لا يستلزم ثبوت الإساءة إن لم يترك يستلزم كون ذلك مفضولا ، وفعل المفضول لا يستلزم الإساءة ، ثم استدل على هذه الرواية بقوله عليه الصلاة والسلام { دع ما يريبك إلى ما لا يريبك } رواه النسائي والترمذي ، وزاد { فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة } قال الترمذي : حديث حسن صحيح . فتقول : المروي لفظ الأمر ، فإن كان على ظاهره كان مقتضاه الوجوب فيلزم بتركه الإثم لا الإساءة ، وإن صرف عنه بصارف كان ندبا ولا إساءة بترك المندوب ، بل إن فعله نال ثوابه وإلا لم ينل شيئا فهو دائر بين كونه دليل الوجوب أو الندب فلا يصلح جعله دليلا على هذه إلا أن يراد إساءة معها إثم ، والله أعلم .

( قوله فعليه قضاؤه ) ولا كفارة .

( قوله وعلى ظاهر الرواية لا قضاء عليه لأن اليقين لا يزال بالشك ) والليل أصل ثابت بيقين فلا ينتقل عنه إلا بيقين ، وصححه في الإيضاح . واعلم أن التحقيق هو أن المتيقن [ ص: 375 ] إنما هو دخول الليل في الوجود لا امتداده إلى وقت تحقق ظن طلوع الفجر لاستحالة تعارض اليقين مع الظن لأن العلم بمعنى اليقين لا يحتمل النقيض ، فضلا أن يثبت ظن النقيض ، فإذا فرض تحقق ظن طلوع الفجر في وقت فليس ذلك الوقت محل تعارض الظن به ، واليقين ببقاء الليل ، بل التحقيق أنه محل تعارض دليلين ظنيين في بقاء الليل وعدمه ، وهما الاستصحاب والأمارة التي بحيث توجب ظن عدمه لا تعارض ظنين في ذلك أصلا إذ ذاك لا يمكن ، لأن الظن هو الطرف الراجح من الاعتقاد فإذا فرض تعلقه بأن الشيء كذا استحال تعلق آخر بأنه لا كذا من شخص واحد في وقت واحد ، إذ ليس له إلا طرف واحد راجح ، فإذا عرف هذا فالثابت تعارض ظنين في قيام الليل وعدمه فيتهاتران ، لأن موجب تعارضهما الشك لا ظن واحد فضلا عن ظنين ، وإذا تهاترا عمل بالأصل وهو الليل فحقق هذا وأجره في مواطن كثيرة كقولهم : في شك الحدث بعد يقين الطهارة اليقين لا يزال بالشك ونحوه .

( قوله ولو أكل فعليه القضاء ) وفي الكفارة روايتان ، ومختار الفقيه أبي جعفر لزومها لأن الثابت حال غلبة ظن الغروب شبهة الإباحة لا حقيقتها ، ففي حال الشك دون ذلك وهو شبهة الشبهة وهي لا تسقط العقوبات ، هذا إذا لم يتبين الحال ، فإن ظهر أكل قبل الغروب فعليه الكفارة لا أعلم فيه خلافا ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وهو الذي ذكره بقوله ولو كان شاكا إلى قوله ينبغي أن تجب الكفارة .

( قوله فعليه القضاء رواية واحدة ) أي إذا لم يستبن شيء أو تبين أنه أكل قبل الغروب لأن النهار كان ثابتا بيقين وقد انضم إليه أكبر رأيه . وأورد لو شهد اثنان بأنها غربت واثنان بأن لا فأفطر ثم تبين عدم الغروب لا كفارة مع أن تعارضهما يوجب الشك . أجيب بمنع الشك فإن الشهادة بعدمه على النفي فبقيت الشهادة بالغروب بلا معارض فتوجب ظنه ، وفي النفس منه شيء يظهر بأدنى تأمل .




الخدمات العلمية