الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن قلد بدنة تطوعا أو نذرا أو جزاء صيد أو شيئا من الأشياء وتوجه معها يريد الحج فقد أحرم ) لقوله عليه الصلاة والسلام { من قلد بدنة فقد أحرم } ولأن سوق الهدي في معنى التلبية في إظهار الإجابة لأنه لا يفعله إلا من يريد الحج أو العمرة ، وإظهار الإجابة قد [ ص: 515 ] يكون بالفعل كما يكون بالقول فيصير به محرما لاتصال النية بفعل وهو من خصائص الإحرام . وصفة التقليد أن يربط على عنق بدنته قطعة نعل أو عروة مزادة أو لحاء شجرة ( فإن قلدها وبعث بها ولم يسقها لم يصر محرما ) لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : { كنت أفتل قلائد هدي رسول الله عليه الصلاة والسلام فبعث بها وأقام في أهله حلالا } ( فإن توجه بعد ذلك لم يصر محرما حتى يلحقها ) لأن عند التوجه إذا لم يكن بين يديه هدي يسوقه لم يوجد [ ص: 516 ] منه إلا مجرد النية ، وبمجرد النية لا يصير محرما ، فإذا أدركها وساقها أو أدركها فقد اقترنت نيته بعمل هو من خصائص الإحرام فيصير محرما كما لو ساقها في الابتداء . قال ( إلا في بدنة المتعة فإنه محرم حين توجه ) معناه إذا نوى الإحرام وهذا استحسان . وجه القياس فيه ما ذكرنا .

ووجه الاستحسان أن هذا الهدي مشروع على الابتداء نسكا من مناسك الحج وضعا لأنه مختص بمكة ، ويجب شكرا للجمع بين أداء النسكين ، وغيره قد يجب بالجناية وإن لم يصل إلى مكة فلهذا اكتفى فيه بالتوجه ، وفي غيره توقف على حقيقة الفعل

التالي السابق


( قوله أو جزاء صيد ) إما بأن يكون عليه جزاء صيد في حجة سابقة فقلده في السنة الثانية أو جزاء صيد الحرم اشترى بقيمته هديا ( قوله وتوجه معها يريد الحج ) أفاد أنه لا بد من ثلاثة : التقليد والتوجه معها ونية النسك . وما في شرح الطحاوي : لو قلد بدنة بغير نية الإحرام لا يصير محرما ، ولو ساقها هديا قاصدا إلى مكة صار محرما بالسوق نوى الإحرام أو لم ينو مخالف لما في عامة الكتب فلا يعول عليه .

وما في الإيضاح من قوله السنة أن يقدم التلبية على التقليد لأنه إذا قلدها فربما تسير فيصير شارعا في الإحرام والسنة أن يكون الشروع بالتلبية يجب حمله على ما إذا كان المقلد ناويا ( قوله لقوله عليه الصلاة والسلام { من قلد بدنة } إلخ ) غريب مرفوعا ، ووقفه ابن أبي شيبة في مصنفه على ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم قال : حدثنا ابن نمير ، حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : من قلد فقد أحرم .

حدثنا وكيع [ ص: 515 ] عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس قال : من قلد أو جلل أو أشعر فقد أحرم . ثم أخرج عن سعيد بن جبير أنه رأى رجلا قلد فقال : أما هذا فقد أحرم . وورد معناه مرفوعا أخرجه عبد الرزاق ، ومن طريقه البزار في مسنده عن عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة أنه سمع بني جابر يحدثان عن أبيهما جابر بن عبد الله قال { بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه رضي الله عنهم إذ شق قميصه حتى خرج منه فسئل فقال : واعدتهم يقلدون هديي اليوم فنسيت } وذكره ابن القطان في كتابه من جهة البزار قال : ولجابر بن عبد الله ثلاثة أولاد عبد الرحمن ومحمد وعقيل ، والله أعلم من هما من الثلاثة .

وأخرجه الطحاوي أيضا عن عبد الرحمن بن عطاء ، وضعف ابن عبد الحق وابن عبد البر عبد الرحمن بن عطاء ووافقهما ابن القطان .

وروى الطبراني : حدثنا محمد بن علي الصائغ المكي ، حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد ، حدثني أبي عن يونس عن ابن شهاب ، أخبرني ثعلبة بن أبي مالك القرظي : أن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه كان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الحج فرجل أحد شقي رأسه ، فقام غلامه فقلد هديه ، فنظر إليه قيس فأهل وحل شق رأسه الذي رجله ولم يرجل الشق الآخر .

وأخرجه البخاري في صحيحه مختصرا عن ابن شهاب بأن قيس بن سعد الأنصاري وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الحج فرجل ا هـ ( قوله أو لحاء شجرة ) هو بالمد قشرها ، والمعني بالتقليد إفادة أنه عن قريب يصير جلدا كهذا اللحاء والنعل في اليبوسة لإراقة دمه ، وكان في الأصل يفعل ذلك كي لا تهاج عن الورود والكلإ ولترد إذا ضلت للعلم بأنها هدي ( قوله لما روي عن عائشة رضي الله عنها ) أخرج الستة عنها { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي فأنا فتلت قلائدها بيدي من عهن كان عندنا ثم أصبح فينا حلالا يأتي ما يأتي الرجل من أهله } وفي لفظ { لقد رأيتني أفتل القلائد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث به ثم يقيم فينا حلالا } وأخرجا واللفظ للبخاري عن مسروق { أنه أتى عائشة رضي الله عنها فقال لها : يا أم المؤمنين إن رجلا يبعث بالهدي إلى الكعبة ويجلس في المصر فيوصي أن تقلد بدنته فلا يزال من ذلك اليوم محرما حتى يحل الناس ، قال : فسمعت تصفيقها من وراء الحجاب فقالت : لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله [ ص: 516 ] صلى الله عليه وسلم فيبعث هديه إلى الكعبة ، فما يحرم عليه ما أحل للرجل من أهله حتى يرجع الناس } ا هـ .

وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال { من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج ، فقالت عائشة : رضي الله عنها : ليس كما قال ، أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدها ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم عليه صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي } وهذان الحديثان يخالفان حديث عبد الرحمن بن عطاء صريحا فيجب الحكم بغلطه . والحاصل أنه قد ثبت أن التقليد مع عدم التوجه معها لا يوجب الإحرام .

وأما ما تقدم من الآثار مطلقة في إثبات الإحرام فقيدناها به حملا لها على ما إذا كان متوجها جمعا بين الأدلة وشرطنا النية مع ذلك لأنه لا عبادة إلا بالنية بالنص فكل شيء روي من التقليد مع عدم الإحرام ، فما كان محله إلا في حال عدم التوجه والنية فلا يعارض المذكور شيء منها .

وما في فتاوى قاضي خان : لو لبى ولم ينو لا يصير محرما في الرواية الظاهرة مشعر بأن هناك رواية بعدم اشتراطها مع التلبية ، وما أظنه إلا نظر إلى بعض الإطلاقات ، ويجب في مثلها الحمل على إرادة الصحيح وأن لا تجعل رواية ( قوله فإذا أدركها وساقها أو أدركها ) ردد بين السوق وعدمه لاختلاف الرواية فيه . شرط في المبسوط السوق مع اللحوق ، ولم يشترطه في الجامع الصغير .

وقال في الأصل : ويسوقه ويتوجه معه وهو أمر اتفاقي ، فلو أدرك فلم يسق وساق غيره فهو كسوقه لأن فعل الوكيل بحضرة الموكل كفعل الموكل ( قوله إلا في هدي المتعة ) استثناء من قوله لم يصر محرما حتى يلحقها [ ص: 517 ] يعني حين خرج على إثرها وإن لم يدركها استحسانا . وهنا قيد لا بد منه وهو أنه إنما يصير محرما في هدي المتعة بالتقليد ، والتوجه إذا حصلا في أشهر الحج ، فإن حصلا في غيرها لا يصير محرما ما لم يدركها ويسر معها ، كذا في الرقيات ، وذلك لأن تقليد هدي المتعة قبل أشهر الحج لا عبرة به من أفعال المتعة ، وأفعال المتعة قبل أشهر الحج لا يعتد بها فيكون تطوعا . وفي هدي التطوع ما لم يدركه ويسر معه لا يصير محرما .

وذكر أبو اليسر : دم القران يجب أن يكون كالمتعة ، وجه القياس ظاهر . وحاصل وجه الاستحسان زيادة خصوصية هدي المتعة بالحج ، فالتوجه إليه توجه إلى ما فيه زيادة خصوصية بالحج حتى شرط لذبحه الحرم ويبقى بسبب سوقه الإحرام ، فلما ظهر أثره في الإحرام بقاء أظهرنا له في ابتدائه نوع اختصاص ، وهو أن بالتوجه إليه مع قصد الإحرام يصير محرما ، بخلاف غيره لأنه قد يجب بالجناية وإن لم يصل إلى مكة ويذبح قبل مكة ولم يظهر له أثر شرعا في الإحرام أصلا




الخدمات العلمية