الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : ( وليس لأهل مكة تمتع ولا قران ، وإنما لهم الإفراد خاصة ) خلافا للشافعي رحمه الله [ ص: 11 - 13 ] والحجة عليه قوله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } ; ولأن شرعهما للترفه بإسقاط إحدى السفرتين [ ص: 14 ] وهذا في حق الآفاقي ، ومن كان داخل الميقات فهو بمنزلة المكي حتى لا يكون له متعة ولا قران ، بخلاف المكي إذا خرج إلى الكوفة وقرن حيث يصح ; لأن عمرته وحجته ميقاتيتان فصار بمنزلة الآفاقي .

التالي السابق


( قوله : وليس لأهل مكة تمتع ولا قران ) يحتمل نفي الوجود : أي ليس يوجد لهم ، حتى لو أحرم مكي بعمرة أو بهما [ ص: 11 ] وطاف للعمرة في أشهر الحج ثم حج من عامه لا يكون متمتعا ولا قارنا ، ويوافقه ما سيأتي في الكتاب من قوله : وإذا عاد المتمتع إلى بلده بعد فراغه من العمرة ولم يكن ساق الهدي بطل تمتعه ; لأنه ألم بأهله فيما بين النسكين إلماما صحيحا وذلك يبطل التمتع . فأفاد أن عدم الإلمام شرط لصحة التمتع فينتفي لانتفائه . وعن ذلك أيضا خص القران في قوله بخلاف المكي إذا خرج إلى الكوفة وقرن حيث يصح ; لأن عمرته وحجته ميقاتيتان . قالوا : خص القران ; لأن التمتع منه لا يصح ; لأنه ملم بأهله بعد العمرة . ويحتمل نفي الحل كما يقال : ليس لك أن تصوم يوم النحر ، ولا أن تتنفل بالصلاة عند الطلوع والغروب ، حتى لو أن مكيا اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه أو جمع بينهما كان متمتعا أو قارنا آثما بفعله إياهما على وجه منهي عنه .

وهذا هو المراد بحمل ما قدمناه من اشتراط عدم الإلمام للصحة على اشتراطه لوجود التمتع الذي لم يتعلق به نهي شرعا المنتهض سببا للشكر . ويوافقه ما في غاية البيان : ليس لأهل مكة تمتع ولا قران ، ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه . وصح عن عمر رضي الله عنه أنه قال : ليس لأهل مكة تمتع ولا قران . وقال في التحفة : ومع هذا لو تمتعوا جاز وأساءوا ، وعليهم دم الجبر وسنذكر من كلام الحاكم صريحا ا هـ .

ومن حكم هذا الدم أن لا يقوم الصوم مقامه حالة العسرة ، فإذا كان الحكم في الواقع لزوم دم الجبر لزم ثبوت الصحة ; لأنه لا جبر إلا لما وجد بوصف النقصان لا لما لم يوجد شرعا . فإن قيل : يمكن كون الدم للاعتمار في أشهر الحج من المكي لا للتمتع منه ، وهذا فاش بين حنفية العصر من أهل مكة ، ونازعهم في ذلك بعض الآفاقيين من الحنفية من قريب وجرت بينهم شئون ومعتمد أهل مكة ما وقع في البدائع من قوله : ولأن دخول العمرة في أشهر الحج وقع رخصة لقوله تعالى { الحج أشهر معلومات } قيل في بعض وجوه التأويل : أي للحج أشهر معلومات ، واللام للاختصاص فاختصت هذه الأشهر بالحج ، وذلك بأن لا يدخل فيها غيره ، إلا أن العمرة دخلت فيها رخصة للآفاقي ضرورة تعذر إنشاء سفر للعمرة نظرا له ، وهذا المعنى لا يوجد في حق أهل مكة ومن بمعناهم ، فلم تكن العمرة مشروعة في أشهر الحج في حقهم ، فبقيت العمرة في أشهر الحج في حقهم معصية ا هـ .

وفيه بعض اختصار ، والذي ذكره غير واحد خلافه ، وقد صرحوا في جواب الشافعي لما أجاز التمتع للمكي . وقال في بعض الأوجه نسخ منع العمرة في أشهر الحج عام فيتناول المكي كغيره ، فقالوا : أما النسخ فثابت عندنا في حق المكي أيضا حتى يعتمر في أشهر الحج ، ولا يكره له ذلك ولكن لا يدرك [ ص: 12 ] فضيلة التمتع إلى آخر ما سنذكره إن شاء الله تعالى . فإنكار أهل مكة على هذا اعتمار المكي في أشهر الحج إن كان لمجرد العمرة فخطأ بلا شك ، وإن كان لعلمهم بأن هذا الذي اعتمر منهم ليس بحيث يتخلف عن الحج إذا خرج الناس للحج بل يحج من عامه فصحيح بناء على أنه حينئذ إنكار لمتعة المكي لا لمجرد عمرته . فإذا ظهر لك صريح هذا الخلاف منه في إجازة العمرة من حيث هي مجرد عمرة في أشهر الحج .

ومنعها وجب أن يتفرع عليه ما لو كرر المكي العمرة في أشهر الحج وحج من عامه هل يتكرر الدم عليه ؟ . فعلى من صرح بحلها له ، وأن المنع ليس إلا لتمتعه لا يتكرر عليه ; لأن تكرره لا أثر له في ثبوت تكرره وتمتعه فإنما عليه دم واحد ; لأنه تمتع مرة واحدة . وعلى من منع نفس العمرة منه وأثبت أن نسخ حرمتها إنما هو للآفاقي فقط ينبغي أن يتكرر الدم بتكررها ، والله أعلم .

وإنما النظر بعد ذلك في أولى القولين ، ونظر هؤلاء إلى العمومات ، مثل " دخلت العمرة في الحج " . وصريح منع المكي شرعا لم يثبت إلا بقوله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وهو خاص بالجمع تمتعا فيبقى فيما وراءه على الإباحة ، غير أن للآخر أن يقول : دليل التخصيص مما يصح تعليله ويخرج به معه ، وتعليل منع الجمع المتبادر منه أن يحصل الرفق ودفع المشقة الآتية من قبل تعدد السفر أو إطالة الإقامة وذلك خاص ، فيبقى المنع السابق على ما كان ويختص النسخ بالآفاقي ، وللنظر بعد ذلك مجال ، والله سبحانه الموفق . ثم ظهر لي بعد نحو ثلاثين عاما من كتابة هذا الكتاب أن الوجه منع العمرة للمكي في أشهر الحج سواء حج من عامه أو لا ; لأن النسخ خاص لم يثبت ، إذ المنقول من قولهم العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور لا يعرف إلا من كلام الجاهلية دون أنه كان في شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو غيره ، ولم يبق إلا النظر في الآية .

وحاصله عام مخصوص فإن قوله ذلك إلخ تخصيص من تمتع بالعمرة إلى الحج ; لأنه مستقل مقارن . واتفقوا في تعليله بأن تجويزه للآفاقي لدفع الحرج كما عرف ومنعه من المكي لعدمه . ولا شك أن عدم الحرج في عدم الجمع لا يصلح علة لمنع الجمع ; لأنه إذا لم يحرج بعدم الجمع لا يقتضي أن يتعين عليه عدمه ، بل إنما يصلح عدم الحرج في عدم الجمع أن يجوز له كل من عدم الجمع والجمع ; لأنه كما لم يحرج في عدم الجمع لا يحرج في الجمع ، فحين وجب عدم الجمع لم يكن إلا لأمر زائد ، وليس هنا سوى كونه في الجمع موقعا العمرة في أشهر الحج . ثم لا شك أن منع نفس العمرة في أشهر الحج للمكي متعين على الاحتمال الأول الذي أبديناه في قوله وليس لأهل مكة تمتع ولا قران إلخ ، وهو أن العمرة لا تتحقق منه أصلا ; لأنه إذا لم يتحقق منه حقيقة التمتع الشرعية لا يكون منعه من التمتع إلا للعمرة ، فكان حاصل منع صورة التمتع إما لمنع العمرة أو الحج ، والحج غير ممنوع منه فتعينت العمرة غير أني رجحت أنها تتحقق ، ويكون مستأنسا بقول صاحب التحفة لكن الأوجه خلافه لتصريح أهل المذهب من أبي حنيفة وصاحبيه في الآفاقي الذي يعتمر ثم يعود إلى أهله ، ولم يكن ساق الهدي ثم حج من عامه بقولهم بطل تمتعه وتصريحهم بأن من شرط التمتع مطلقا أن لا يلم بأهله بينهما إلماما صحيحا ، ولا وجود للمشروط قبل وجود شرطه .

ولا شك أنهم قالوا بوجود الفاسد مع الإثم ولم يقولوا بوجود الباطل شرعا مع ارتكاب النهي كبيع الحر ليس ببيع شرعي . ومقتضى كلام أئمة المذهب أولى بالاعتبار من كلام بعض المشايخ ، وإنما لم نسلك في منع العمرة في أشهر الحج مسلك صاحب البدائع ; لأنه بناه على [ ص: 13 ] أمر لم يلزم ثبوته على الخصم ، وهو قوله : جاء في بعض الأوجه أن المراد للحج أشهر واللام للاختصاص ، وهذا مما للخصم منعه ، ويقول : بل جاز كون المراد أن الحج في أشهر معلومات فيفيد أنه يفعل فيها لا في غيرها وهو لا يستلزم أن لا يفعل فيها غيره ، والله أعلم .

( قوله : والحجة عليه ) مدار احتجاج الشافعي على أن نسخ ترك العمرة في أشهر الحج عام في حق المكي وغيره ، ومعلوم شرعية الحج في حق الكل فجاز التمتع للكل وقوله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } لا ينفيه ، إذ مرجع الإشارة إلى الهدي لا التمتع فثبت بذلك جواز المتعة لهم وسقوط الهدي عنهم . قلنا : بل مرجع الإشارة التمتع لوصلها باللام ، وهي تستعمل فيما لنا أن نفعله ، والتمتع لنا أن نفعله ، بخلاف الهدي فإنه علينا ، فلو كان مرادا لجيء مكان اللام بعلى فقيل ذلك على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام . فإن قيل : شرع العمرة في أشهر الحج عام . قلنا ممنوع بل ذلك على القول الذي رددناه .

وعلى تقديره أيضا لا يفيد ; لأنا نجيز للمكي العمرة في أشهر الحج ، فإن أريد المجموع من العمرة مع الحج من عامه ، وهو المعبر عنه بالتمتع بالعمرة إلى الحج في النص فهو أول المسألة ومحل النزاع . ثم إن عللنا دليل التخصيص أعني قوله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } بكونه ملما بأهله بين أدائهما فلم يكمل [ ص: 14 ] معنى الارتفاق في حق أهل مكة بشرعهما في أشهر الحج ، بخلاف الآفاقي فتقاصر عن إيجاب الشكر بإراقة الدم بالنسبة إلى الآفاقي فعديناه إلى كل من ألم بأهله بين النسكين حتى إذا اعتمر الآفاقي في أشهر الحج ثم رجع إلى أهله فأقام ثم حج من عامه لا يكون متمتعا ، وصار شرط التمتع المأذون فيه شرعا أن لا يلم بأهله بهذا المأخذ ، إلا أن أبا حنيفة فرق بين كون العود مستحقا على الآفاقي بأن كان ساق الهدي أو لا فجعل الإلمام عند استحقاق العود شرعا كعدمه وسيأتي .

وإذا علمت هذا فمقتضاه مع ما قدمنا من الحق من أن التمتع بإطلاق القرآن الكريم وألفاظ الصحابة يعم القران ; لأنه تمتع للارتفاق بالعمرة في أشهر الحج اشترط عدم الإلمام للقران المأذون فيه أيضا ، فيقتضى في المكي إذا خرج إلى الكوفة ثم عاد فأحرم بهما من الميقات في أشهر الحج ثم فعلهما أن لا يكون القران الشرعي المستعقب للحكم المعلوم من إيجاب الدم شكرا ، وهو خلاف ما ذكروه مما نص عليه المصنف بقوله : بخلاف المكي إذا خرج إلى الكوفة إلخ . قالوا : خص المكي بالقران ; لأنه لا تمتع له في مثل هذه الصورة ; لأنه ملم بأهله بعد العمرة ولو ساق الهدي ; لأن العود غير مستحق عليه ، ومقتضى الدليل ما أعلمتك ، بل ويقتضي أيضا بأدنى تأمل وجوب الدم جبرا على الآفاقي إذا عاد وألم ثم رجع وحج من عامه إذا كانوا أوجبوه على المكي إذا تمتع ; لارتكابه النهي ، وأنت علمت أن مناط نهيه وجود الإلمام ، وهو ثابت في الآفاقي الملم ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

وقوله : ( لأن عمرته وحجته ميقاتيتان فكان كالآفاقي ) . قالوا : يشير إلى أن عدم صحة التمتع منه إذا كان بمكة لإخلاله بميقات أحد النسكين ; لأنه إن أحرم بهما من الحرم أخل بميقات العمرة ، أو من الحل فبميقات الحج للمكي فيكره ويلزمه الرفض ، ولا يخفى أن ترك الإحرام من الميقات لا يوجب عدم صحة النسك المعين ، ألا ترى لو أن آفاقيا جاوز الميقات ثم أحرم بهما وفعلهما أنه يكون قارنا ، ويلزمه دم القران مع دم الوقت كما لو جنى على إحرامه بل أولى إذا تأملت . على أن المانع لو كان هذا لصح قران كل مكي بطريق أن يخرج إلى أدنى الحل كالتنعيم فيحرم بعمرة ثم يخطو خطوة فيدخل أرض الحرم فيحرم بالحج ، لكن المنع عام ، وسببه ليس إلا الآية ، والقران من التمتع ، وقد صرح به المصنف فقال في آخر الباب : والقران منه : أي من التمتع . هذا ثم قيد المحبوبي قران المكي بأن يخرج من الميقات إلى الكوفة مثلا قبل أشهر الحج .

أما إذا خرج بعد دخولها فلا قران له ; لأنه لما دخلت أشهر الحج وهو داخل المواقيت فقد صار ممنوعا من القران شرعا فلا يتغير ذلك بخروجه من الميقات ، هكذا روي عن محمد . وقد يقال : إنه لا يتعلق به خطاب المنع مطلقا ، بل ما دام بمكة ، فإذا خرج إلى الآفاق التحق بأهله لما عرف أن كل من وصل إلى مكان صار ملحقا بأهله ، كالآفاقي إذا قصد بستان بني عامر حتى جاز له دخول مكة بلا إحرام [ ص: 15 ] وغير ذلك .

وأصل هذه الكلية الإجماع ، على أن الآفاقي إذا قدم بعمرة في أشهر الحج إلى مكة كان إحرامه بالحج من الحرم وإن لم يقم بمكة إلا يوما واحدا فإطلاق المصنف حينئذ هو الوجه . هذا وأما على ما قدمناه من البحث فلا يصح منه القران الجائز ما لم ينقض وطنه بمكة للزوم اشتراط عدم الإلمام فيه كالمتمتع ، فإن قرن لزمه دم كما لو قرن وهو بمكة لما علمت من أن القران من ماصدقات التمتع بالنظم القرآني ويلزم فيه وجود أكثر أشواط العمرة في أشهر الحج ; لأنه التمتع بالعمرة إلى الحج في أشهر الحج . ووجوب الشكر بالدم ما كان إلا لفعل العمرة فيها ثم الحج فيها ، وهذا في القران كما هو في التمتع .

وما عن محمد فيمن أحرم بهما وطاف لعمرته في رمضان أنه قارن ولا دم عليه مراد به القارن بالمعنى اللغوي ، إذ لا شك في أنه قرن : أي جمع ، ألا ترى أنه نفى لازم القران بالمعنى الشرعي المأذون فيه وهو لزوم الدم ونفي اللازم الشرعي نفي الملزوم الشرعي . والحاصل أن النسك المستعقب للدم شكرا هو ما تحقق فيه فعل المشروع المرتفق به الناسخ لما كان في الجاهلية ، وذلك بفعل العمرة في أشهر الحج ، فإن كان مع الجمع في الإحرام قبل أكثر طواف العمرة فهو المسمى بالقران وإلا فهو التمتع بالمعنى العرفي وكلاهما التمتع بالإطلاق القرآني وعرف الصحابة ، وهو في الحقيقة إطلاق اللغة لحصول الرفق بهذا النسخ . هذا كله على أصول المذهب ، وأما ما أعتقده مقتضى الدليل فسأذكره من قريب إن شاء الله تعالى .




الخدمات العلمية