الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن لبس ثوبا مخيطا أو غطى رأسه يوما كاملا فعليه دم ، [ ص: 29 ] وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة ) وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا لبس أكثر من نصف يوم فعليه دم ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله أولا . وقال الشافعي رحمه الله : يجب الدم بنفس اللبس ; لأن الارتفاق يتكامل بالاشتمال على بدنه .

ولنا أن معنى الترفق مقصود من اللبس ، فلا بد من اعتبار المدة ; ليحصل على الكمال ويجب الدم ، فقدر باليوم ; لأنه يلبس فيه ثم ينزع عادة وتتقاصر فيما دونه الجناية فتجب الصدقة ، غير أن أبا يوسف رحمه الله أقام الأكثر مقام الكل . [ ص: 30 ] ولو ارتدى بالقميص أو اتشح به أو ائتزر بالسراويل فلا بأس به ; لأنه لم يلبسه لبس المخيط . وكذا لو أدخل منكبيه في القباء ولم يدخل يديه في الكمين خلافا لزفر ; لأنه ما لبسه لبس القباء ولهذا يتكلف في حفظه . والتقدير في تغطية الرأس من حيث الوقت ما بيناه ، ولا خلاف أنه إذا غطى جميع رأسه يوما كاملا يجب عليه الدم ; لأنه ممنوع عنه ، ولو غطى بعض رأسه فالمروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه اعتبر الربع اعتبارا بالحلق والعورة ، وهذا ; لأن ستر البعض استمتاع مقصود يعتاده بعض الناس ، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يعتبر أكثر الرأس اعتبارا للحقيقة .

التالي السابق


( قوله : وإن لبس ثوبا مخيطا إلخ ) لا فرق في لزوم الدم بين ما إذا أحدث اللبس بعد الإحرام أو أحرم وهو لابسه فدام يوما أو ليلة عليه ، بخلاف انتفاعه بعد الإحرام بالطيب السابق عليه قبله للنص فيه ولولاه لأوجبنا فيه أيضا . ولا فرق بين كونه مختارا في اللبس أو مكرها عليه أو نائما فغطى إنسان رأسه ليلة أو وجهه حتى يجب الجزاء على النائم ; لأن الارتفاق حصل له ، وعدم الاختيار أسقط الإثم عنه لا الموجب على ما عرف تحقيقه في مواضع . والتقييد بثوب في قوله وإن لبس ثوبا مخيطا ليس بمعتبر المفهوم ، بل لو جمع اللباس كله القميص والعمامة والخفين يوما كان عليه دم واحد كالإيلاجات في الجماع ; لأنه لبس واحد وقع على جهة واحدة ، وعلى القارن دمان فيما على المفرد فيه دم ، وكذا لو دام على ذلك أياما أو كان ينزعها ليلا ويعاود لبسها نهارا أو يلبسها ليلا للبرد وينزعها نهارا ما لم يعزم على الترك عند الخلع ، فإن عزم عليه ثم لبس تعدد الجزاء ، وإن كان كفر للأول بالاتفاق ; لأنه لما كفر للأول التحق بالعدم فيعتبر اللبس الثاني لبسا مبتدأ ، وإن لم يكن كفر للأول فعليه كفارتان عند أبي حنيفة وأبي يوسف . وفي قول محمد : كفارة واحدة بناء على أنه ما لم يكفر فاللبس على حاله فهو واحد ، بخلاف ما إذا كفر على ما قررنا .

وهما يقولان : لما نزع على عزم الترك نقطع حكم اللبس الأول فتعين الثاني مبتدأ . فالحاصل أن النزع مع عزم الترك يوجب اختلاف اللبسين عندهما وعنده التكفير . ولو لبس يوما فأراق دما ثم دام على لبسه يوما آخر كان عليه دم آخر بلا خلاف ; لأن الدوام على اللبس كابتدائه بدليل ما لو أحرم وهو مشتمل على [ ص: 29 ] المخيط فدام عليه بعد الإحرام يوما إذ عليه الدم .

واعلم أن ما ذكرناه من اتحاد الجزاء إذا لبس جميع المخيط محله ما إذا لم يتعدد سبب اللبس ، فإن تعدد كما إذا اضطر إلى لبس ثوب فلبس ثوبين ، فإن لبسهما على موضع الضرورة فعليه كفارة واحدة يتخير فيها . وكذلك نحو أن يضطر إلى لبس قميص فلبس قميصين أو قميصا وجبة أو اضطر إلى لبس قلنسوة فلبسها مع عمامة ، وإن لبسهما على موضعين موضع الضرورة وغيرها كالقلنسوة مع القميص في الوجه الأول والثاني كان عليه كفارتان يتخير في إحداهما وهي ما للضرورة ، والأخرى لا يتخير فيها وهي ما لغيرها .

ومن صور تعدد السبب واتحاده ما إذا كان به مثلا حمى يحتاج إلى اللبس لها ويستغني عنه في وقت زوالها فإن عليه كفارة واحدة وإن تعدد اللبس ما لم تزل عنه . فإن زالت وأصابه مرض آخر أو حمى غيرها وعرف ذلك فعليه كفارتان سواء كفر للأولى أو لا عندهما . وعند محمد كفارة واحدة ما لم يكفر للأولى ، فإن كفر فعليه أخرى ، وكذا إذا حصره عدو فاحتاج إلى اللبس للقتال أياما يلبسها إذا خرج إليه وينزعها إذا رجع فعليه كفارة واحدة ما لم يذهب هذا العدو ، فإن ذهب وجاء عدو غيره لزمه كفارة أخرى . والأصل في جنس هذه المسائل أنه ينظر إلى اتحاد الجهة واختلافها لا إلى ضرورة اللبس كيف كانت .

ولو لبس للضرورة فزالت فدام بعدها يوما أو يومين فما دام في شك من زوال الضرورة ليس عليه إلا كفارة واحدة ، وإن تيقن زوالها فاستمر كان عليه كفارة أخرى لا يتخير فيها . ( قوله : وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة ) في خزانة الأكمل : في ساعة نصف صاع . وفي أقل من ساعة قبضة من بر . ( قوله : فلا بد من اعتبار المدة ; ليحصل على الكمال ) يتضمن منع قول الشافعي : إن الارتفاق يتكامل بالاشتمال بل مجرد الاشتمال ، ثم النزع في الحال لا يجد الإنسان به ارتفاقا فضلا عن كماله . وقوله في وجه التقدير بيوم ( لأنه يلبس فيه ثم ينزع عادة ) يفيد أنه لا يقتصر على اليوم بل لبس الليلة الكاملة كاليوم ; لجريان المعنى المذكور فيه ونص عليه في الأسرار وغيره .

( قوله : غير أن أبا يوسف أقام الأكثر مقام الكل ) كما اعتبره في كشف العورة في الصلاة . وعن محمد في لبس بعض اليوم قسطه من الدم كثلث اليوم [ ص: 30 ] فيه ثلث الدم وفي نصفه نصفه ، وعلى هذا الاعتبار يجري ( قوله : لأنه لم يلبسه لبس المخيط ) لبس المخيط أن يحصل بواسطة الخياطة اشتمال على البدن واستمساك ، فأيهما انتفى انتفى لبس المخيط ; ولذا قلنا فيما لو أدخل منكبيه في القباء دون أن يدخل يديه في الكمين أنه لا شيء عليه . وكذا إذا لبس الطيلسان من غير أن يزره عليه لعدم الاستمساك بنفسه فإن زر القباء أو الطيلسان يوما لزمه دم ; لحصول الاستمساك بالزر مع الاشتمال بالخياطة ، بخلاف ما لو عقد الرداء أو شد الإزار بحبل يوما كره له ذلك للشبه بالمخيط ولا شيء عليه ; لانتفاء الاشتمال بواسطة الخياطة . وفي إدخال المنكبين القباء خلاف زفر . ولا بأس أن يفتق السراويل إلى موضع التكة فيأتزر به ، وأن يلبس المكعب الذي لا يبلغ إذا كان في وسط القدم ; لأن الحاصل حينئذ هو الحاصل من قطع الخفين أسفل من الكعبين ، وقد ورد النص بإطلاق ذلك ، بخلاف الجورب فإنه كالخف فلبسه يوما موجب للدم .

( قوله : ولو غطى بعض رأسه فالمروي عن أبي حنيفة اعتبار الربع ) إن بلغ قدر الربع فدام يوما لزمه دم ( اعتبارا بالحلق والعورة ) حيث يلزم الدم بحلق ربع الرأس أو اللحية ، وفساد الصلاة بكشف ربع العورة . وقوله : ( وهذا ; لأن ستر البعض استمتاع مقصود يعتاده بعض الناس ) يصلح إبداء للجامع : أي العلة التي بها وجب في حلق الربع الدم وهي الارتفاق به على وجه الكمال وإن كان هناك أكمل منه ثابتة في تغطية البعض ; ولذا يعتاده بعض الناس ، وإنما يعتاده تحصيلا للارتفاق وإلا كان عبثا ، وإن كان الجامع هذا فلا يصح اعتبار العورة أصلا لانتفاء هذا الجامع ، إذ ليس فساد الصلاة بانكشاف الربع لذلك بل لعده كثيرا عرفا ، وليس الموجب هذا هنا ; ألا ترى أن أبا حنيفة لم يقل بإقامة الأكثر مقام الكل في اليوم أو الليل الواقع فيهما التغطية واللبس ; لأن النظر هنا ليس إلا لثبوت الارتفاق كاملا وعدمه ، وكذا إذا غطى ربع وجهه أو غطت المرأة ربع وجهها .

( قوله : وعن أبي يوسف أنه يعتبر أكثر الرأس اعتبارا للحقيقة ) ولم يذكر لمحمد قولا . ونقل في البدائع عن نوادر ابن سماعة عن محمد رحمه الله [ ص: 31 ] عين هذا القول ، ولم يحك خلافا في الأصل . وهذا القول أوجه في النظر ; لأن المعتبر الارتفاق الكامل ، واعتياد تغطية البعض دليل على تحصيله به ، لكن ذلك البعض المعتاد ليس هو الربع ، فإن ما يفعله من نعلم من اليمانيين الذين يلبسون السرقوج يشدونه تحت الحنك تغطية البعض الذي هو الأكثر ، فإن البادي منهم هو الناصية ليس غير ، ولعل تغطية مجرد الربع فقط على وجه يستمسك مما لم يتحقق إلا أن يكون نحو جبيرة تشد .

وحينئذ ظهر أن ما عينه جامعا في الحلق غير صحيح ; لأن العلة في الأصل حصول الارتفاق كاملا بحلق الربع بدليل القصد إليه على وجه العادة ، والثابت في الفرع الاعتياد بتغطية البعض الذي هو الأكثر لا الأقل ، وهو الدليل على الارتفاق به فلم يتحد في الأصل والفرع ، ولذا لم يعين المصنف رحمه الله في الفرع سوى مطلق البعض ، فإن عنى به الربع منعنا وجوده في الفرع . ومن فروع اعتبار الربع ما لو عصب المحرم رأسه بعصابة أو وجهه يوما أو ليلة فعليه صدقة ، إلا أن يأخذ قدر الربع . ولو عصب موضعا آخر من جسده لا شيء عليه وإن كثر ، لكنه يكره من غير عذر كعقد الإزار وتخليل الرداء لشبه المخيط ، بخلاف لبس المرأة القفازين ; لأن لها أن تستر بدنها بمخيط وغيره فلم يكره لها . ولا بأس أن يغطي أذنيه وقفاه ومن لحيته ما هو أسفل من الذقن بخلاف فيه وعارضه وذقنه . ولا بأس أن يضع يده على أنفه دون ثوب . وعلى القارن في جميع ما تقدم أن فيه دما أو صدقة دمان أو صدقتان لما سنذكر .




الخدمات العلمية