الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 44 ] ( وإن جامع في أحد السبيلين قبل الوقوف بعرفة فسد حجه وعليه شاة ، ويمضي في الحج كما يمضي من لم يفسده ، وعليه القضاء ) والأصل فيه ما روي { أن رسول الله عليه الصلاة والسلام سئل عمن واقع امرأته وهما محرمان بالحج قال : يريقان دما ويمضيان في حجتهما وعليهما الحج من قابل } [ ص: 45 ] وهكذا نقل عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم . وقال الشافعي رحمه الله : تجب بدنة اعتبارا بما لو جامع بعد الوقوف ، والحجة عليه إطلاق ما روينا ، ولأن القضاء لما وجب ولا يجب إلا لاستدراك المصلحة خف معنى الجناية فيكتفي بالشاة بخلاف ما بعد الوقوف ; لأنه لا قضاء . ثم سوى بين السبيلين . وعن أبي حنيفة رحمه الله أن في غير القبل منهما لا يفسد لتقاصر معنى الوطء فكان عنه روايتان ( وليس عليه أن يفارق امرأته في قضاء ما أفسداه ) [ ص: 46 ] عندنا خلافا لمالك رحمه الله إذا خرجا من بيتهما . ولزفر رحمه الله إذا أحرما . وللشافعي رحمه الله إذا انتهيا إلى المكان الذي جامعها فيه . لهم أنهما يتذاكران ذلك فيقعان في المواقعة فيفترقان . ولنا أن الجامع بينهما وهو النكاح قائم فلا معنى للافتراق قبل الإحرام لإباحة الوقاع ولا بعده ; لأنهما يتذاكران ما لحقهما من المشقة الشديدة بسبب لذة يسيرة فيزدادان ندما وتحرزا فلا معنى للافتراق .

التالي السابق


( قوله : فسد حجه وعليه شاة ) وكذا إذا تعدد الجماع في مجلس واحد لا مرأة أو نسوة ، والوطء في الدبر كهو في القبل عندهما ، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة ، وفي أخرى عنه : لا يتعلق به فساد والأولى أصح . فإن جامع في مجلس آخر قبل الوقوف ، ولم يقصد به رفض الحجة الفاسدة لزمه دم آخر عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، ولو نوى بالجماع الثاني رفض الفاسدة لا يلزمه بالثاني شيء كذا في خزانة الأكمل وقاضي خان . وقدمنا من المبسوط قريبا لزوم تعدد الموجب ; لتعدد المجالس عندهما من غير هذا القيد . وقال محمد : يلزمه كفارة واحدة إلا أن يكون كفر عن الأولى فيلزمه أخرى ، والحق اعتباره على أن تصير الجنايات المتعددة بعده متحدة ، فإنه نص في ظاهر الرواية على أن المحرم إذا جامع النساء ورفض إحرامه ، وأقام يصنع ما يصنعه الحال من الجماع وقتل الصيد فعليه أن يعود حراما كما كان . قال في المبسوط : لأن بإفساد الإحرام لم يصر خارجا عنه قبل الأعمال ، وكذا بنية الرفض وارتكاب المحظورات فهو محرم على حاله إلا أن عليه بجميع ما صنع دما واحدا ; لما بينا أن ارتكاب المحظورات استند إلى قصد واحد وهو تعجيل الإحلال فيكفيه لذلك دم واحد . ا هـ .

فكذا لو تعدد جماع بعد الأول لقصد الرفض فيه دم واحد . وما يلزم به الفساد والدم على الرجل يلزم مثله على المرأة ، وإن كانت مكرهة أو ناسية إنما ينتفي بذلك الإثم . ولو كان الزوج صبيا يجامع مثله فسد حجها دونه ، ولو كانت هي الصبية أو مجنونة انعكس الحكم . ولو جامع بهيمة وأنزل لم يفسد حجه وعليه دم ، وإن لم ينزل فلا شيء عليه ، والاستمناء بالكف على هذا . ثم إذا كانت مكرهة حتى فسد حجها ولزمها دم هل ترجع على الزوج ؟ عن ابن شجاع لا ، وعن القاضي أبي حازم نعم . والقارن إذا جامع قبل الوقوف وقبل أن يطوف لعمرته أربعة أشواط فسد حجه وعمرته وعليه أن يمضي فيهما ويتمهما على الفساد وشاتان وقضاؤهما . فلو جامع بعدما طاف لعمرته أربعة أشواط فسد حجه دون عمرته ، وإذا فسد الحج سقط دم القران ; لأنه لم يجتمع له نسكان صحيحان ، وعليه دمان ; لفساد الحج وللجماع في إحرام العمرة ; لأنه باق فيقضي الحج فقط ، ولذا لو أحرم بعمرة فأفسدها ثم أهل بحجة ليس بقارن لهذا .

( قوله : والأصل إلخ ) روى أبو داود في المراسيل عن يحيى بن أبي كثير : حدثنا يزيد بن نعيم أو زيد بن نعيم شك فيه أبو توبة { أن رجلا من جذام جامع امرأته وهما محرمان ، فسأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اقضيا حجكما واهديا هديا } قال ابن القطان : لا يصح فإن زيد بن نعيم مجهول ، ويزيد بن نعيم بن هزال ثقة ، وقد شك أبو توبة في أيهما حدثه به ا هـ . قلنا : قد رواه البيهقي وقال : إنه منقطع ، وهو يزيد بن نعيم بلا شك . وقوله : منقطع بناء على الاختلاف في سماع يزيد هذا من جابر بن عبد الله وفي صحبة أبيه فإنه سمع من أبيه . واختلف في صحبة أبيه ، فمن قال إنه صحابي ، وإنه سمع من جابر جعله مرسلا وعليه مشى أبو داود ، فإنه أورد هذا الحديث في المراسيل [ ص: 45 ] ومن قال لم يسمع من جابر وليس لأبيه صحبة يجعله منقطعا فإنه لم يعلم سماعه من صحابي آخر .

وليس في سند أبي داود انقطاع ، فإنه رواه عن أبي توبة الربيع بن نافع عن معاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير قال : أخبرني يزيد بن نعيم أو زيد بن نعيم ، وهذا سند متصل كله ثقات بتقدير يزيد ، ولا شك فيه في طريق البيهقي فيحصل اتصاله وإرساله ، وهو حجة عندنا وعند أكثر أهل العلم . وروى ابن وهب بسند فيه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب " أن رجلا من جذام الحديث ، وفيه : حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فأحرما وتفرقا " الحديث إلى أن قال : وأهديا . وضعف بابن لهيعة ، ويشد المرسل ، والمذكور منه ما سوى الزيادة . وروي بالزيادة عن جماعة من الصحابة في مسند ابن أبي شيبة إلى من سأل مجاهدا عن المحرم يواقع امرأته فقال : كان ذلك على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يقضيان حجهما ثم يرجعان حالين ، فإذا كان من قابل حجا وأهديا وتفرقا من المكان الذي أصابها فيه . وروى الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال فيه : بطل حجه ، قال له السائل فيقعد ؟ قال لا ، بل يخرج مع الناس فيصنع ما يصنعون ، فإذا أدركه من قابل حج وأهدى . ووافقه على هذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وصحح البيهقي إسناده عنهم . وفي موطإ مالك من بلاغاته عن علي وعمر وأبي هريرة رضي الله عنهم نحوه ، إلا أن عليا قال فيه : يفترقان حتى يقضيا حجهما .

( قوله : اعتبارا بما لو جامع بعد الوقوف ) بل أولى ; لأن الجماع قبله في مطلق الإحرام بخلافه بعده ( قوله : والحجة عليه ما رويناه ) يعني لفظ الشاة ، وعلى [ ص: 46 ] ما خرجنا إطلاق لفظ الهدي وهو يصدق بالتناول على الشاة كان في البدنة أكمل ، والواجب انصراف المطلق إلى الكامل في الماهية لا إلى الأكمل ، وماهية الهدي كاملة فيها . بخلاف السمك بالنسبة إلى لفظ اللحم فإن ماهية اللحم ناقصة فيه على ما ستعرف إن شاء الله تعالى . ثم بين المقامين فرق ، وهو وجوب القضاء فإنه لا يجب إلا ليقوم مقام الأول ، وهو معنى استدراك المصلحة ، فبعد قيامه مقامه لم يبق إلا جزاء تعجيل الإحلال ، ويكفي فيه الشاة كالمحصر ، بل أولى ; لأن الإحلال لم يتم بالجماع ولهذا يمضي فيه ، ولا يحل إلا مع الناس غير أنه أخر المعتد به إلى قابل ثم لا تجب عمرة ; لعدم فوات حجه بخلاف المحصر .

( قوله : فلا معنى للافتراق ) وهذا ; لأن الافتراق ليس بنسك في الأداء فكذا في القضاء ، فلم يكن أمر من روي عنه من الصحابة الأمر بالافتراق أمر إيجاب بل أمر ندب مخافة الوقوع ; لظهور أنه لا يصبر أحدهما عن الآخر لما ظهر منهما في الإحرام الأول فكان كالشاب في حق القبلة في الصوم لا ; لأنهما يتذاكران فيقعان ; لأنه معارض بأنهما يتذاكران فلا يقعان ; لتذكرهما ما حصل لهما من المشقة للذة يسيرة ، ونحن نقول باستحباب الافتراق لذلك .




الخدمات العلمية