الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 109 ] باب مجاوزة الوقت بغير إحرام ( وإذا أتى الكوفي بستان بني عامر فأحرم بعمرة ، فإن رجع إلى ذات عرق ولبى بطل عنه دم الوقت ، وإن رجع إليه ولم يلب حتى دخل مكة وطاف لعمرته فعليه دم ) وهذا عند أبي حنيفة ، وقالا : إن رجع إليه محرما فليس عليه شيء لبى أو لم يلب . وقال زفر : لا يسقط لبى أو لم يلب لأن جنايته لم ترتفع بالعود وصار كما إذا أفاض من عرفات ثم عاد إليه بعد الغروب . ولنا أنه تدارك المتروك في أوانه وذلك قبل الشروع في الأفعال فيسقط الدم ، بخلاف الإفاضة ; لأنه لم يتدارك المتروك على ما مر . غير أن التدارك عندهما بعوده محرما ; لأنه أظهر حق الميقات كما [ ص: 110 ] إذا مر به محرما ساكنا .

وعنده رحمه الله بعوده محرما ملبيا ; لأن العزيمة في الإحرام من دويرة أهله ، فإذا ترخص بالتأخير إلى الميقات وجب عليه قضاء حقه بإنشاء التلبية فكان التلافي بعوده ملبيا ، وعلى هذا الخلاف إذا أحرم بحجة بعد المجاوزة مكان العمرة في جميع ما ذكرنا . ولو عاد بعدما ابتدأ بالطواف ، واستلم الحجر لا يسقط عنه الدم بالاتفاق ، ولو عاد إليه قبل الإحرام يسقط بالاتفاق ( وهذا ) الذي ذكرنا ( إذا كان يريد الحج أو العمرة ، [ ص: 111 ] فإن دخل البستان لحاجة فله أن يدخل مكة بغير إحرام ، ووقته البستان ، وهو وصاحب المنزل سواء ) ; لأن البستان غير واجب التعظيم فلا يلزمه الإحرام بقصده ، وإذا دخله التحق بأهله ، وللبستاني أن يدخل مكة بغير إحرام للحاجة فكذلك له .

والمراد بقوله ووقته البستان جميع الحل الذي بينه وبين الحرم وقد مر من قبل ، فكذا وقت الداخل الملحق به ( فإن أحرما من الحل ووقفا بعرفة لم يكن عليهما شيء ) يريد به البستاني والداخل فيه ; لأنهما أحرما من ميقاتهما .

[ ص: 108 ]

التالي السابق


[ ص: 108 ] باب مجاوزة الوقت بغير إحرام ) فصله عن الجنايات وأخره ; لأن المتبادر من اسم الجنايات في كتاب الحج ما يقع جناية على الإحرام وهي [ ص: 109 ] ما تكون مسبوقة به ، وهذه الجناية قبله ولا تبادر أيضا . ثم تحقيق ما تقع عليه هذه الجناية أمران : البيت ، والإحرام لا الميقات ، فإنه لم يجب الإحرام منه إلا لتعظيم غيره . فالحاصل أنه أوجب تعظيم البيت بالإحرام من المكان الذي عينه ، فإذا لم يحرم منه كان مخلا بتعظيمه على الوجه الذي أوجبه فيكون جناية على البيت ونقصا في الإحرام ; لأنه لما وجب عليه أن ينشئه من المكان الأقصى فلم يفعل فقد أوجده ناقصا . ( قوله : فإن رجع إلى ذات عرق ) ليس بقيد بل بناء على الظاهر من أنه إذا تدارك بالرجوع فإنما يرجع إلى ميقاته الذي جاوزه ، وإلا فظاهر الرواية أنه لا فرق بين أن يرجع إلى ميقاته أو إلى ميقات آخر من مواقيت الآفاقيين . وعن أبي يوسف : إن كان الذي رجع إليه محاذيا لميقاته أو أبعد منه فكميقاته ، وإلا لم يسقط الدم بالرجوع إليه ، والصحيح ظاهر الرواية ; لما قدمناه أن كلا من المواقيت ميقات لأهله ولغير أهله بالنص مطلقا بلا اعتبار المحاذاة .

والحاصل أن الآفاقي إذا وصل إلى ميقات من مواقيت الآفاقيين فإما أن يكون بعد ميقات آخر في طريقه أو لا . فإن كان جاز له مجاوزته إلى الميقات الأخير ، وإن لم يكن وجب عليه الإحرام منه كالميقات الأخير . فإن لم يحرم حتى جاوزه ، فإن عاد قبل استلام الحجر إلى الميقات فلبى عنده سقط عنه دم المجاوزة اتفاقا . وإن لم يلب لا يسقط عند أبي حنيفة . عندهما يسقط ، وإن لم يلب ، وعند زفر لا يسقط وإن لبى فيه . ( قوله : بخلاف الإفاضة فإنه لم يتدارك المتروك ) ; لأن الواجب عليه [ ص: 110 ] إذا وقف نهارا إما الكون بها وقت الغروب أو مده إلى الغروب على حسب اختلافهم على ما قدمناه .

وبالعود بعد الغروب لم يتدارك واحد منهما ، أما ما نحن فيه فالواجب التعظيم بالكون محرما في الميقات ; ليقطع المسافة التي بينه وبين مكة متصفا بصفة الإحرام ، وهذا حاصل بالرجوع محرما إليه . وعلى هذا الوجه لا تجب التلبية فيه ، إلا أن أبا حنيفة ألزم ; لسقوط الدم التلبية تحصيلا للصورة بالقدر الممكن ، وفي صورة إنشاء الإحرام لا بد من التلبية أو ما يقوم مقامها ، وكذا إذا أراد أن يجبره ، بخلاف ما إذا رجع محرما حتى جاوز الميقات فلبى ثم رجع ومر به ولم يلب يجوز ; لأنه فوق الواجب عليه في تعظيم البيت .

( قوله : ولو عاد بعدما ابتدأ بالطواف ) ولو شوطا ( لا يسقط بالاتفاق ) ; لأن السقوط بالرجوع باعتبار مبتدإ الإحرام عند الميقات ، وهذا الاعتبار بعد الشروع في الأفعال يستلزم اعتبار بطلان ما وجد منه من الطواف ، ولا سبيل إليه بعد وقوعه معتدا به فكان اعتبارا ملزوما ; للفاسد وملزوم الفاسد فاسد ، وكذا إذا لم يعد حتى شرع في الوقوف بعرفة من غير أن يطوف ; لما ذكرناه بعينه . ( قوله : وهذا إذا أراد الحج أو العمرة ) يوهم ظاهره أن ما ذكرنا من أنه إذا جاوز غير محرم وجب الدم إلا أن يتلافاه محله ما إذا كان الكوفي قاصدا للنسك ، فإن لم يقصده بل قصد التجارة أو السياحة لا شيء عليه بعد الإحرام وليس كذلك ، [ ص: 111 ] بل يجب أن يحمل على أنه إنما ذكره بناء على أن الغالب في قاصدي مكة من الآفاقيين قصد النسك ، فالمراد بقوله إذا أراد الحج أو العمرة : إذا أراد مكة ، وذلك أنه إنما يريد بيان أن ما ذكره من لزوم الإحرام من الميقات إنما هو على من قصد مكة ، أما من قصد مكانا آخر من الحل داخل الميقات فلا يجب عليه الإحرام منه ; لتعظيم مكة ; لأن الإحرام منه ; لتعظيم مكة لا ; لتعظيم ذلك المكان ولا نفس الميقات ، ولذا قابل قوله وهذا إذا أراد الحج بقوله فإن دخل البستان لحاجة إلخ ، ثم موجب هذا الحمل أن جميع الكتب ناطقة بلزوم الإحرام على من قصد مكة سواء قصد النسك أو لا ، ويطول تفصيل المنقولات في ذلك ، وقد صرح به المصنف في فصل المواقيت حيث قال : ثم الآفاقي إذا انتهى إليها على قصد دخول مكة فعليه أن يحرم سواء قصد الحج أو العمرة أو لم يقصد عندنا ; لقوله عليه الصلاة والسلام : { لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما } ولأن وجوب الإحرام ; لتعظيم هذه البقعة الشريفة فيستوي فيه التاجر والمعتمر وغيرهما ، ولا أصرح من هذا شيء بل ينبغي أن يعلم قصد الحرم في كونه موجبا ; للإحرام كقصد مكة .

( قوله : فإن دخل البستان إلخ ) اعلم أن عند أبي يوسف أنه إنما يجوز له المجاوزة بغير إحرام إذا كان على قصد أن يقيم بالبستان خمسة عشر يوما ، وإلا لم يجز بغير إحرام ; لأنه يبقى على حكم السفر الأول ولذا يقصر الصلاة ، والأول أوجه ; للمتأمل




الخدمات العلمية