الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن أوصى بأن يحج عنه فأحجوا عنه رجلا فلما بلغ الكوفة مات [ ص: 155 ] أو سرقت نفقته وقد أنفق النصف يحج عن الميت من منزله بثلث ما بقي ) وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله ( وقالا : يحج عنه من حيث مات الأول ) فالكلام هاهنا في اعتبار الثلث وفي مكان الحج .

أما الأول فالمذكور قول أبي حنيفة رحمه الله . أما عند محمد يحج عنه بما بقي من المال المدفوع إليه إن بقي شيء وإلا بطلت الوصية اعتبارا بتعيين الموصي إذ تعيين الوصي كتعيينه وعند أبي يوسف رحمه الله يحج عنه بما بقي من الثلث الأول لأنه هو المحل لنفاذ الوصية .

ولأبي حنيفة أن قسمة الوصي وعزله المال لا يصح إلا بالتسليم إلى الوجه الذي سماه الموصي لأنه لا خصم له ليقبض ولم يوجد التسليم إلى ذلك الوجه فصار كما إذا هلك قبل الإفراز والعزل فيحج بثلث ما بقي . [ ص: 156 ] وأما الثاني فوجه قول أبي حنيفة رحمه الله وهو القياس أن القدر الموجود من السفر قد بطل في حق أحكام الدنيا ، قال صلى الله عليه وسلم { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث } الحديث ، وتنفيذ الوصية من أحكام الدنيا فبقيت الوصية من وطنه كأن لم يوجد الخروج .

وجه قولهما وهو الاستحسان أن سفره لم يبطل لقوله تعالى { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله } الآية ، وقال صلى الله عليه وسلم { من مات في طريق الحج كتب له حجة مبرورة في كل سنة } وإذا لم يبطل سفره اعتبرت الوصية من ذلك المكان ، وأصل الاختلاف في الذي [ ص: 157 - 158 ] يحج بنفسه ، وينبني على ذلك المأمور بالحج .

التالي السابق


( قوله ومن أوصى بأن يحج عنه إلخ ) لا خلاف أن [ ص: 155 ] إطلاق الوصية بالحج إذا كان الثلث يحتمل الإحجاج من بلده راكبا ولم يكن الموصي حاجا عن نفسه مات في الطريق ولم يعين المكان الذي مات فيه ، أو مكانا آخر يوجب تعيين البلد والركوب ، وقد قدمنا في مقدمة الباب أنه لو حج المأمور ماشيا وأمسك مئونة الكراء لنفسه يقع عن نفسه ويضمن النفقة ، فأما إذا كان الثلث لا يبلغ إلا ماشيا فقال رجل أنا أحج عنه من بلده ماشيا جاز .

وعن محمد لا يجزيه ويحج عنه من حيث يبلغ راكبا . وروى الحسن عن أبي حنيفة إن أحجوا عنه من بلده ماشيا جاز ، ومن حيث يبلغ راكبا جاز ، لأن في كل نقصا من وجه زيادة من وجه آخر فاعتدلا ; ولو أحجوا من موضع يبلغ وفضل من الثلث وتبين أنه يبلغ راكبا من موضع أبعد يضمن الوصي ويحج عنه من حيث يبلغ إلا إذا كان الفاضل شيئا يسيرا من زاد وكسوة لا يكون مخالفا كذا في البدائع .

هذا إذا لم يعين كمية ، فإن عين بأن قال أحجوا عني بألف أو بثلث مالي ، فإن لم يبلغ من بلده جاء ما قلناه وإن بلغ واحدة لزمت وإن بلغ حججا كثيرة . فأما مسألة الألف فذكرها في المبسوط قال : الوصي بالخيار إن شاء دفع عنه كل سنة حجة وإن شاء أحج عنه رجالا في سنة واحدة ، وهو أفضل لأن الوصية بالحج بمال مقدر كالوصية بالتصدق به ، وفي ذلك الوصي بالخيار بين التقديم والتأخير ، والتعجيل أفضل لأنه بعد من فوات المقصود بهلاك المال .

وأما مسألة الثلث فذكرها في البدائع ، وذكر الجواب على نحو مسألة الألف نقلا عن القدوري ، إلا أنه حكى فيها خلافا ; فقيل : إن القاضي : يعني الإسبيجابي قد ذكر في شرح الطحاوي أن يحج عنه حجة واحدة من وطنه وهي حجة الإسلام ، إلا إذا قال بجميع الثلث .

قال : وما ذكره القدوري أثبت لأن الوصية بجميع الثلث وبالثلث واحدة لأنه اسم لجميع السهم ، وذكرها في المبسوط أيضا وأجاب بصرفه إلى الحج إذا لم يقل حجة ، ولم يذكر خلافا ، قال : لأنه جعل الثلث مصروفا إلى هذا النوع من القربة فيجب [ ص: 156 ] تحصيل مقصوده في جميع الثلث ، كما لو أوصى أن يفعل بثلثه طاعة أخرى ، ولو ضم إلى الحج غيره والثلث يضيق عن الجميع ، إن كانت متساوية بدئ بما بدأ به الموصي كالحج والزكاة . وعن أبي يوسف تقديم الزكاة لأن فيها حقين . والحج والزكاة يقدمان على الكفارات ، والكفارات على صدقة الفطر وهي على النذر ، وهو والكفارات على الأضحية ، والواجب على النفل ، والنوافل يقدم منها ما بدأ به الميت . وحكم الوصية بالعتق إذا لم يعين عن كفارة حكم النفل والوصية لآدمي كالفرائض : أعني المعين .

فإن قال للمساكين فهو كالنفل . ومن الصور المنقولة أوصى بحجة الفرض وعتق نسمة ولا يسعهما الثلث يبدأ بالحجة ، ولو أوصى بالحجة ولأناس ولا يسعهما الثلث قسم الثلث بينهم بالحصص يضرب للحج بأدنى ما يكون من نفقة الحج ثم ما خص الحج يحج به من حيث يبلغ لأنه هو الممكن ، ولو أوصى لرجل بألف وللمساكين بألف وأن يحج عنه بألف وثلثه ألفان يقسم بينهم أثلاثا ثم ينظر إلى حصة المساكين فيضاف إلى الحجة فما فضل فهو للمساكين بعد تكميل الحج لأن الصدقة تطوع والحج فرض ، إلا أن يكون زكاة فيتحاصصون في الثلث ثم ينظر إلى الزكاة والحج فيبدأ بما بدأ به الميت ، ولو أوصى بكفارة إفساد رمضان ولا يخرج من الثلث العتق ولم تجز الورثة يطعم ستين مسكينا .

هذا وأما ما يرجع إلى تعيين الوطن فلا يخلو من أن يكون له وطن واحد أو أوطان ، فإن اتحد تعين . ومن فروعه ما عن محمد في خراساني أدركه الموت بمكة فأوصى أن يحج عنه يحج عنه من خراسان ، وما عن أبي يوسف في مكي قدم إلى [ ص: 157 ] الري فحضره الموت فأوصى أن يحج عنه يحج عنه من مكة .

أما لو أوصى أن يقرن عنه فإنه حينئذ يقرن عنه من الري لأنه لا قران لأهل مكة فيحمل عليه من حيث هو ، وإن كانت له أوطان في بلدان يحج عنه من أقربها إلى مكة ، ولو عين مكانا جاز منه اتفاقا ، وكذا إذا عين مكانا مات فيه ، فلو لم يعين مكان موته وقد مات في سفر ، إن كان سفر الحج فهو على الخلاف الذي ذكر في الكتاب بقوله : وأصل الخلاف في الذي يحج عن نفسه : يعني إذا مات في الطريق وأوصى أن يحج عنه وأطلق يلزم الحج من بلده عنده إلا إن عجز الثلث ، وعندهما من حيث مات .

ولو كان سفر تجارة حج عنه من بلده اتفاقا لأن تعين مكان موته في سفر الحج عندهما بناء على أنه لا تبطل عبادة سفره من بلده إلى محل موته ، فبالسفر منه يتحقق سفر الحج من بلده ، ولا عبادة في سفر التجارة ليعتبر البعض الذي قطع عبادة مع البعض الذي بقي فيجب إنشاء السفر من البلد تحصيلا للواجب . فإن الخطاب يتوجه عليه وهو في بلده بالخروج إلى الحج وهو العادة أيضا أن يخرج الإنسان من بلده مجهزا فينصرف المطلق إليه ولهذا وافقا أبا حنيفة في الحاج الذي مات في الطريق فيما لو أقام في بعض البلاد في طريقه حتى تحولت السنة ثم مات فأوصى مطلقا أن يحج عنه من بلده لأن ذلك السفر لما لم يتصل به الحجة التي خرج لها في تلك السنة لم يعتد به عن الحج إذا حصلنا على هذا ، فلو أوصى على وجه انصرفت إلى بلده ولم يعين مالا ففعل الواجب فأحجوا منها ومات في أثناء الطريق وقد أنفق بعضها أو سرقت كلها قال أبو حنيفة : يحج عنه ثانيا من بلده من ثلث ما بقي . وقالا : من حيث مات .

وأما في جانب المال فقال محمد : ينظر إن بقي من المدفوع شيء حج به وإلا بطلت الوصية . وقال أبو يوسف . إن كان المدفوع تمام الثلث كقول محمد ، وإن كان بعضه يكمل ، فإن بلغ باقيه ما يحج به وإلا بطلت .

وقال أبو حنيفة : من ثلث ما بقي ثم وثم إلى أن لا يبقى ما يبلغ فحينئذ تبطل ، مثلا : كان المخلف أربعة آلاف دفع الوصي ألفا فهلكت يدفع إليه ما يكفيه من ثلث الباقي أو كله وهو ألف ، فلو هلكت الثانية دفع إليه من ثلث الباقي بعدها هكذا مرة بعد مرة إلا أن لا يبقى ما ثلثه يبلغ الحج فتبطل .

وعند أبي يوسف : يأخذ ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين وثلثا فإنها مع تلك الألف ثلث الأربعة الآلاف ، فإن كفت وإلا بطلت الوصية . وعند محمد : إن فضل من الألف الأولى ما يبلغ وإلا بطلت . فالخلاف في موضعين فيما يدفع ثانيا وفي المحل الذي يجب الإحجاج منه ثانيا . أما الأول فلمحمد أن تعيين الوصي كتعيين الموصي ، ولو عين الموصي مالا فهلكت بطلت الوصية ، فكذا إذا عين الوصي .

وأبو يوسف يقول : محل الوصية الثلث فتعيين الوصي إياه صحيح وتعيينه [ ص: 158 ] فيه غير صحيح لأن جميع الثلث محل الوصية ، فما بقي شيء منه يجب تنفيذ الوصية فيه . وأبو حنيفة يقول : المال ليس بمقصود للموصي بل مقصوده الحج به . فإذا لم يفد هذا التعيين هذا المقصود صار كعدمه ، وما هلك من المال كان كأن لم يكن بمنزلة ما إذا هلك قبل هذا الإفراز والوصية باقية بعد بالإحجاج مطلقا فينصرف إلى ثلث الباقي إذا صار الهالك كأن لم يكن قبل الوصية فيكون محلها ثلثه .

وأما الثاني فمبناه على أن السفر هل بطل بالموت أو لا فقالا لا وهو استحسان ، وقال نعم وهو قياس ، وقوله في الأول أوجه وهما هنا أوجه . له قوله عليه الصلاة والسلام { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث . صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له } رواه مسلم وأبو داود والنسائي .

ولهما في أنه لم يبطل ما أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو يعلى والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ، ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ، ومن خرج غازيا في سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة } قال الحافظ المنذري .

رواه أبو يعلى من رواية محمد بن إسحاق ، وبقية رواته ثقات . وأنت قد أسمعناك أن الحق في ابن إسحاق أنه ثقة أيضا . ثم ما رواه إنما يدل على انقطاع العمل والكلام في بطلان القدر الذي وجد في حكم العبادة والثواب وهو غيره وغير لازمه ، لأن انقطاع العمل لفقد العامل لا يستلزم ما كان قد وجد في سبيل الله ، وقال تعالى { وما كان الله ليضيع إيمانكم } فيما كان معتدا به حين وجد ثم طرأ المنع منه .

وجواب أبي حنيفة أن المراد بعدم الانقطاع في أحكام الآخرة والانقطاع في أحكام الدنيا وهو الذي يوجبه هنا كمن صام إلى نصف النهار في رمضان ثم حضره الموت يجب أن يوصي بفدية ذلك اليوم وإن كان ثواب إمساك ذلك اليوم باقيا .



[ فرع ]

مات وترك ابنين وأوصى أن يحج عنه بثلاثمائة وترك تسعمائة فأنكر أحد الابنين واعترف الآخر فدفع من حصته مائة وخمسين لمن يحج بها ثم اعترف الآخر ، فإن كان حج بأمر الوصي يأخذ المقر من الجاحد خمسة وسبعين لأنه جاز عن الميت بمائة وخمسين وبقيت مائة وخمسون ميراثا بينهما ، وإن حج بغير أمر الوصي يحج مرة أخرى بثلاثمائة




الخدمات العلمية