الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ونكاح المتعة باطل ) وهو أن يقول لامرأة أتمتع بك كذا مدة بكذا من المال [ ص: 247 ] وقال مالك رحمه الله : هو جائز لأنه كان مباحا فيبقى إلى أن يظهر ناسخه . قلنا : ثبت النسخ بإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وابن عباس رضي الله عنهما صح رجوعه إلى قولهم فتقرر الإجماع .

التالي السابق


( قوله ونكاح المتعة باطل وهو أن يقول لامرأة ) خالية من الموانع ( أتمتع بك كذا مدة ) عشرة أيام مثلا أو يقول أياما أو متعيني نفسك أياما أو عشرة أيام أو لم يذكر أياما ( بكذا من المال ) قال شيخ الإسلام في الفرق بينه وبين النكاح الموقت أن يذكر الموقت بلفظ النكاح والتزويج وفي المتعة أتمتع أو أستمتع ا هـ . يعني ما اشتمل على مادة متعة . والذي يظهر مع ذلك عدم اشتراط الشهود في المتعة وتعيين المدة ، وفي الموقت الشهود وتعيينها ، ولا شك أنه لا دليل لهؤلاء على تعيين كون نكاح المتعة الذي أباحه صلى الله عليه وسلم ثم حرمه هو ما اجتمع فيه مادة م ت ع للقطع من الآثار بأن المتحقق ليس إلا أنه أذن لهم في المتعة ، وليس معنى هذا أن من باشر هذا المأذون فيه يتعين عليه أن يخاطبها بلفظ أتمتع ونحوه لما عرف من أن اللفظ إنما يطلق [ ص: 247 ] ويراد معناه ، فإذا قال تمتعوا من هذه النسوة فليس مفهومه قولوا أتمتع بك بل أوجدوا معنى هذا اللفظ ، ومعناه المشهور أن يوجد عقدا على امرأة لا يراد به مقاصد عقد النكاح من القرار للولد وتربيته بل إلى مدة معينة ينتهي العقد بانتهائها أو غير معينة بمعنى بقاء العقد ما دمت معك إلى أن أنصرف عنك فلا عقد .

والحاصل أن معنى المتعة عقد موقت ينتهي بانتهاء الوقت فيدخل فيه ما بمادة المتعة والنكاح الموقت أيضا فيكون النكاح الموقت من أفراد المتعة وإن عقد بلفظ التزويج وأحضر الشهود وما يفيد ذلك من الألفاظ التي تفيد التواضع مع المرأة على هذا المعنى . ولم يعرف في شيء من الآثار لفظ واحد ممن باشرها من الصحابة رضي الله عنهم بلفظ تمتعت بك ونحوه والله أعلم ( قوله وقال مالك هو جائز ) نسبته إلى مالك غلط . وقوله ( لأنه كان مباحا فيبقى إلى أن يظهر النسخ ) هذا متمسك من يقول بها كابن عباس رضي الله عنهما ( قلنا قد ثبت النسخ بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ) هذه عبارة المصنف ، وليست الباء سببية فيها فإن المختار أن الإجماع لا يكون ناسخا ، اللهم إلا أن يقدر محذوف : أي بسبب العلم بإجماعهم : أي لما عرف إجماعهم على المنع علم أنه نسخ بدليل النسخ أو هي للمصاحبة : أي لما ثبت إجماعهم على المنع علم معه النسخ .

وأما دليل النسخ بعينه ما في صحيح مسلم { أنه صلى الله عليه وسلم حرمها يوم الفتح } وفي الصحيحين { أنه صلى الله عليه وسلم حرمها يوم خيبر } والتوفيق أنها نسخت مرتين . قيل ثلاثة أشياء نسخت [ ص: 248 ] مرتين : المتعة ، ولحوم الحمر الأهلية ، والتوجه إلى بيت المقدس في الصلاة . وقيل لا يحتاج إلى الناسخ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما كان أباحها ثلاثة أيام فبانقضائها تنتهي الإباحة ، وذلك لما قال محمد بن الحسن في الأصل : بلغنا { عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أحل المتعة ثلاثة أيام من الدهر في غزاة غزاها اشتد على الناس فيها العزوبة ثم نهى عنها } . وهذا لا يفيد أن الإباحة حين صدرت كانت مقيدة بثلاثة أيام ولذا قال ثم نهى عنها . وهو يشبه ما أخرجه مسلم عن سبرة بن معبد الجهني قال : { أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة ، فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر كأنها بكرة عيطاء فعرضنا عليها أنفسنا فقالت : ما تعطيني ؟ فقلت ردائي وقال صاحبي ردائي ، وكان رداء صاحبي أجود من ردائي وكنت أنا أشب منه ، فإذا نظرت إلى رداء صاحبي أعجبها ، وإذا نظرت إلي أعجبتها ، ثم قالت : أنت ورداؤك تكفيني ، فمكثت معها ثلاثا ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع بهن فليخل سبيلها } فهذا مثله من حيث إنه إنما يدل على أن الإباحة أقامت ثلاثا لا أنها تعلقت مقيدة بالثلاث فلا بد من الناسخ .

وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم { كنت أذنت لكم في الاستمتاع بالنساء وقد حرم الله ذلك إلى يوم القيامة } والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة . وأما ظاهر الألفاظ التي تعطي الإجماع فما أخرجه الحازمي بسنده إلى جابر { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك ، حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام جاءت نسوة فذكرنا تمتعنا منهن وهن يظعن في رحالنا ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليهن وقال : من هؤلاء النسوة ؟ فقلنا : يا رسول الله نسوة تمتعنا منهن ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه وتمعر وجهه ، وقام فينا خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم نهى عن المتعة ، فتوادعنا يومئذ الرجال والنساء ولم نعد ولا نعود إليها أبدا } وابن عباس صح رجوعه بعدما اشتهر عنه من إباحتها ، فما ذكر من رجوعه أن عليا قال له : إنك رجل تائه { إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء } . وفي صحيح مسلم { أن عليا رضي الله عنه سمع ابن عباس يلين في متعة النساء فقال : مهلا يا ابن عباس ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر ، وعن لحوم الحمر الإنسية } .

وهذا ليس صريحا في رجوعه بل في قول علي له ذلك ، ويدل على أنه لم يرجع حين قال له علي ذلك ما في صحيح مسلم عن عروة بن الزبير " أن عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال : إن ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل فناداه فقال : إنك لجلف جاف ، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين ، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له ابن الزبير : فجرب نفسك ، فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك " الحديث ، ورواه النسائي أيضا ، ولا تردد في أن ابن عباس هو الرجل المعرض به وكان رضي الله عنه قد كف [ ص: 249 ] بصره ، فلذا قال ابن الزبير كما أعمى أبصارهم ، وهذا إنما كان في خلافة عبد الله بن الزبير وذلك بعد وفاة علي ، فقد ثبت أنه مستمر القول على جوازها ولم يرجع إلى قول علي ، فالأولى أن يحكم بأنه رجع بعد ذلك بناء على ما رواه الترمذي عنه أنه قال : إنما كانت المتعة في أول الإسلام ، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه ، حتى إذا نزلت الآية { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } قال ابن عباس : فكل فرج سواهما فهو حرام ا هـ .

فهذا يحمل على أنه اطلع على أن الأمر إنما كان على هذا الوجه فرجع إليه أو حكاه ، وقد حكي عنه أنه إنما أباحها حالة الاضطرار والعنت في الأسفار . أسند الحازمي من طريق الخطابي إلى المنهال عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : لقد سارت بفتياك الركبان وقال فيها الشعراء قال : وما قالوا ؟ قلت قالوا :

قد قلت للشيخ لما طال محبسه يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس هل لك في رخصة الأطراف آنسة
تكون مثواك حتى يصدر الناس

فقال : سبحان الله ما بهذا أفتيت وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير لا تحل إلا للمضطر ا هـ . ولهذا قال الحازمي : إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم ، وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات حتى حرمها عليهم في آخر سنيه في حجة الوداع ، وكان تحريم تأبيد لا خلاف فيه بين الأئمة وعلماء الأمصار إلا طائفة من الشيعة .




الخدمات العلمية