الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 179 ] فصل في الاستحاضة ( والمستحاضة ومن به سلس البول والرعاف الدائم والجرح الذي لا يرقأ يتوضئون لوقت كل صلاة فيصلون بذلك الوضوء في الوقت ما شاءوا من الفرائض والنوافل ) وقال الشافعي رحمه الله : تتوضأ المستحاضة لكل مكتوبة لقوله عليه الصلاة والسلام { المستحاضة تتوضأ لكل صلاة } ولأن اعتبار طهارتها ضرورة أداء المكتوبة فلا تبقى

[ ص: 180 ] بعد الفراغ منها . ولنا قوله عليه الصلاة والسلام { المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة } وهو المراد بالأول لأن اللام تستعار للوقت ، يقال آتيك لصلاة الظهر : أي وقتها ، ولأن الوقت أقيم مقام الأداء تيسيرا فيدار الحكم عليه ( وإذا خرج الوقت بطل وضؤهم واستأنفوا الوضوء لصلاة أخرى ) وهذا عند علمائنا الثلاثة .

[ ص: 181 ] وقال زفر : استأنفوا إذا دخل الوقت ( فإن توضئوا حين تطلع الشمس أجزأهم عن فرض الوقت حتى يذهب وقت الظهر ) وهذا عند أبي حنيفة ومحمد ، وقال أبو يوسف وزفر أجزأهم حتى يدخل وقت الظهر ، وحاصله أن طهارة المعذور تنتقض بخروج الوقت : أي عنده بالحدث السابق عند أبي حنيفة ومحمد ، وبدخوله فقط عند زفر ، وبأيهما كان عند أبي يوسف

[ ص: 182 ] وفائدة الاختلاف لا تظهر إلا فيمن توضأ قبل الزوال كما ذكرنا أو قبل طلوع الشمس . لزفر أن اعتبار الطهارة مع المنافي للحاجة إلى الأداء ولا حاجة قبل الوقت فلا تعتبر .

[ ص: 183 ] ولأبي يوسف أن الحاجة مقصورة على الوقت فلا تعتبر قبله ولا بعده . ولهما أنه لا بد من تقديم الطهارة على الوقت ليتمكن من الأداء كما دخل الوقت ، وخروج الوقت دليل زوال الحاجة ، فظهر اعتبار الحدث عنده ، والمراد بالوقت وقت المفروضة حتى لو توضأ المعذور لصلاة العيد له أن يصلي الظهر به عندهما وهو الصحيح لأنها بمنزلة صلاة الضحى ، ولو توضأ مرة للظهر في وقته وأخرى فيه للعصر فعندهما ليس له أن يصلي العصر به لانتقاضه بخروج وقت المفروضة

[ ص: 179 ]

التالي السابق


[ ص: 179 ] ( فصل )

( قوله لقوله صلى الله عليه وسلم { توضئي لكل صلاة } ) هو المروي في حديث فاطمة بنت أبي حبيش ، وأما حديث المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة فذكر سبط بن الجوزي أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه رواه ا هـ . وفي شرح مختصر الطحاوي : روى أبو حنيفة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت أبي حبيش { وتوضئي لوقت كل صلاة } ذكره محمد في الأصل معضلا . وقال ابن قدامة في المغني : وروي في بعض ألفاظ حديث فاطمة بنت أبي حبيش { وتوضئي لوقت كل صلاة } ولا شك أن هذا [ ص: 180 ] محكم بالنسبة إلى كل صلاة لأنه لا يحتمل غيره ، بخلاف الأول فإن لفظ الصلاة شاع استعمالها في لسان الشرع والعرف في وقتها ، فمن الأول قوله صلى الله عليه وسلم { إن للصلاة أولا وآخرا } الحديث : أي وقتها ، وقوله صلى الله عليه وسلم { أيما رجل أدركته الصلاة فليصل } ومن الثاني آتيك لصلاة الظهر : أي لوقتها ، وهو مما لا يحصى كثرة فوجب حمله على المحكم . وقد رجح أيضا بأنه متروك الظاهر بالإجماع للإجماع على أنه لم يرد حقيقة كل صلاة لجواز النفل مع الفرض بوضوء واحد ( قوله وإذا خرج الوقت بطل وضوءهم ) هذا إذا توضؤا على السيلان أو

[ ص: 181 ] وجد السيلان بعد الوضوء ، أما إن كان على الانقطاع ودام إلى خروج الوقت فلا يبطل بالخروج ما لم يحدث حدثا آخر أو يسل دمها ( قوله أي عنده بالحدث السابق ) فقولنا خروج الوقت ناقض أو الدخول مجاز عقل في الإسناد ، وأورد لو استند النقض إلى السابق لوجب إذا شرعت في التطوع ثم خرج الوقت عدم لزوم قضائها لأنها حينئذ تعلم أنها شرعت بغير طهارة . أجيب بأنه ليس طهورا من كل وجه بل من وجه واقتصار من وجه ، فأظهرنا الاقتصار في القضاء والظهور في حق المسح ، كذا في الذخيرة : يعني المسح على الخفين ، وإنما لم يعكس للاحتياط والذي يظهر أنه اقتصار من كل وجه ، وكونه بالحدث السابق لا يستلزم الاستناد ليظهر عدم صحة الصلاة إذ المراد أن ذلك الحدث محكوم بارتفاعه إلى غاية معلومة فيظهر عندها مقتصرا ، لا أن يظهر قيامه شرعا من ذلك الوقت ، ومن حقق أن هذه اعتبارات شرعية لا يشكل عليه مثله ( قوله وبدخوله فقط عند زفر وبأيهما كان عند أبي يوسف ) رأى فخر الإسلام أن زفر لم ير ذلك ولا أبا يوسف ، فالكل متفقون على انتقاضه عند الخروج ،

[ ص: 182 ] وإنما لم ينتقض عند زفر بطلوع الشمس لأن قيام الوقت جعل عذرا وقد بقيت شبهته فصلحت لبقاء حكم العذر تحقيقا ، وإنما تحتاج للطهارة للظهر عند أبي يوسف فيما إذا توضأت قبل الزوال ودخل وقت الظهر لأن طهارتها ضرورية ، ولا ضرورة في تقديمها على الوقت لا لأن طهارتها انتقضت عند الدخول ، وهذا يفيد أن طهارتها لم تصح حتى لا تجوز الصلاة بها قبل دخول الوقت لا أنها صحت وانتقضت . وقوله في الهداية ( لزفر أن اعتبار الطهارة مع المنافي للحاجة إلى الأداء ولا حاجة قبل الوقت ، ولأبي يوسف أن الحاجة مقصورة على الوقت فلا تعتبر قبله ولا بعده ) صريح في موافقة كلام فخر الإسلام ، وفي أن الطهارة تقبله لم تصح لا أنها انتقضت بعد الصحة ، وحينئذ فالخلاف فيمن توضأ قبل الزوال أو قبل الشمس ابتدائي في نفس صحة الوضوء وعدمه بالنسبة إلى الوقت لا مبني على مناط النقض فليس وضع الخلاف صحيحا : فما ذكر في النهاية من أنها طهارة معتبرة في حق النفل وقضاء الفوائت وعدم اعتبارها باعتبار أن الحاجة المتعلقة بأداء الوقتية منعدمة في حق تلك الطهارة لا أنها

[ ص: 183 ] غير معتبرة أصلا حسن ( قوله فعند هما ليس له أن يصلي العصر بهذه الطهارة ) فإنما خصهما مع أن الكل على هذا لأن الشبهة تأتي على قولهما ، إذ له أن يقدم الطهارة على الوقت ولا ينتقض بالدخول ، ومع هذا لا يصلي العصر بهذه لأنه دخول مشتمل على خروج ، ولا يخفى أن عدم جواز العصر بهذه الطهارة فيما إذا كانت على السيلان [ ص: 184 ] أو وجد بعدها وإلا فله ذلك .




الخدمات العلمية