الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 32 ] قال ( ويستحب للمتوضئ أن ينوي الطهارة ) فالنية في الوضوء سنة عندنا وعند الشافعي فرض ; لأنه عبادة فلا تصح بدون النية كالتيمم . ولنا أنه لا يقع قربة إلا بالنية ، ولكنه يقع مفتاحا للصلاة لوقوعه طهارة باستعمال المطهر ، [ ص: 33 ] بخلاف التيمم لأن التراب غير مطهر إلا في حال إرادة الصلاة ، أو هو ينبئ عن القصد ( ويستوعب رأسه بالمسح ) وهو سنة . قال الشافعي : السنة التثليث بمياه مختلفة اعتبارا بالمغسول . ولنا أن أنسا رضي الله عنه توضأ ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه واحدة وقال : هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 34 ] والذي يروى من التثليث محمول عليه بماء واحد ، وهو مشروع على ما روى الحسن عن أبي حنيفة ، ولأن المفروض هو المسح وبالتكرار يصير غسلا ، ولا يكون مسنونا فصار كمسح الخف ، بخلاف الغسل لأنه لا يضره التكرار .

التالي السابق


( قوله : ويستحب إلخ ) لا سند للقدوري في الرواية ولا في الدراية في جعل النية والاستيعاب والترتيب مستحبا غير سنة ، أما الرواية فنصوص المشايخ متظافرة على السنية ، ولذا خالفه المصنف في الثلاثة وحكم بسنيتها بقوله فالنية في الوضوء سنة ونحوه في الآخرين ، وأما الدراية فسنذكره قريبا إن شاء الله تعالى .

وقيل أراد يستحب فعل هذه السنة للخروج عن الخلاف فإن الخروج عنه مستحب ، لكن قوله بالميامن عطفا على تفسير يرتب الوضوء قد يعكره ، فإن الحاصل حينئذ يستحب الترتيب ، وهو أن يبدأ بما بدأ الله به وبالميامن ، والتيامن مستحب عندهم بالمعنى المشهور ، وقد أوقعه في تفسير الترتيب فيكون الترتيب بذلك الوصف .

وأما الوجه فمنه أن الوضوء لا يقع بلا نية إلا بالفعل مع الغفلة والذهول ; إذ الفعل الاختياري لا بد في تحقيقه من القصد إليه ، وهو إذا قصد الوضوء أو رفع الحدث أو استباحة ما لا يحل إلا به كان منويا حتى إن صورة الخلاف إنما تتحقق بيننا وبين الشافعي في نحو من دخل الماء مدفوعا أو مختارا لقصد التبرد أو مجرد قصد إزالة الوسخ ، ووقوع مثل هذه الحالات له صلى الله عليه وسلم قد لا يتحقق ، ولو تحقق في بعضها لا ينفي السنية ; لأنها لو لم تقترن بالترك أصلا كان واجبا ، وسنذكر الوجه العام للثلاثة ( قوله : لأنه عبادة فلا تصح بدون النية ) لقوله صلى الله عليه وسلم { إنما الأعمال بالنيات } متفق عليه : أي صحتها واعتبارها شرعا بالنيات ، والمراد العبادات ; لأن كثيرا من المباحات تعتبر شرعا بلا نية كالطلاق والنكاح ( قوله ولنا ) قول بالموجب : أي سلمنا أن كل عبادة بنية ، والوضوء لا يقع عبادة بدونها وبذلك قضينا عهدة الحديث ، وليس الكلام في هذا بل في أنه إذا لم ينو حتى لم تقع عبادة سببا للثواب فهل يقع الشرط المعتبر للصلاة حتى تصح به أو لا ليس في الحديث دلالة على نفيه ولا إثباته ، فقلنا نعم لأن الشرط مقصود التحصيل لغيره لا لذاته فكيف حصل المقصود وصار كستر العورة وباقي شروط الصلاة لا يفتقر اعتبارها إلى أن تنوى ، [ ص: 33 ] فمن ادعى أن الشرط وضوء هو عبادة فعليه البيان .

( قوله بخلاف التيمم ) لأن التراب لم يعتبر شرعا مطهرا إلا للصلاة لا في نفسه فكان التطهير به تعبدا محضا ، وفيه يحتاج إلى النية ، أو هو : أي التيمم ينبئ لغة عن القصد فلا يتحقق دونه بخلاف الوضوء ففسد قياسه على التيمم ، وفي كل من الوجهين نظر نذكره في التيمم إن شاء الله تعالى .

والصواب إفساده بما هو متفق عليه من أن شرط القياس أن لا تكون شرعية حكم الأصل متأخرة عن حكم الفرع ، وإلا لثبت حكم الفرع بلا دليل ، وشرعية التيمم متأخرة عن الوضوء فلا يقاس الوضوء على التيمم في حكمه لكن هذا إذا قصد القياس ، أما إذا قصد الاستدلال بمعنى لما شرع التيمم بشرط النية ظهر وجوبها في الوضوء فهو بمعنى لا فارق فليس جواب إلا به كما في الكتاب ( قوله ولنا أن أنسا إلخ ) غريب ، وعزاه بعضهم إلى معجم الطبراني عن راشد أبي محمد الحماني قال : { رأيت أنسا بالزاوية فقلت : أخبرني عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه بلغني أنك كنت توضئه ، وساق الحديث إلى أن قال : ثم مسح رأسه مرة واحدة ، غير أنه أمرهما على أذنيه فمسح عليهما } . قال الزيلعي : وهذا لم أجده في معجم الطبراني ، ويضعفه ما رواه ابن أبي شيبة ، حدثنا [ ص: 34 ] إسحاق الأزرق عن أيوب بن العلاء عن قتادة عن أنس أنه كان يمسح على الرأس ثلاثا يأخذ لكل مسحة ماء جديدا . وقد روى أبو داود عن ابن عباس أنه رآه صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثلاثا ثلاثا ومسح رأسه وأذنيه مسحة واحدة . وفيه عبادة بن منصور فيه مقال وتقدمت رواية أصحاب السنن الأربعة عن علي أنه مسح مرة واحدة وفيه ضعف . وروى الدارقطني عن عثمان في حكايته مسح برأسه مرة واحدة . وقول الزيلعي في المعزو إلى معجم الطبراني لم أجده فيه سهو عنه ، أو كان ساقطا في نسخته ، وإلا فقد وجد في الأوسط من مسند إبراهيم البغوي ( قوله والذي يروى ) بالتمريض يشعر بضعفه ، وقد روي عن عثمان من حديث عامر بن شقيق ، وفيه ذلك المقال المتقدم ، قال أبو داود : ورواه وكيع عن إسرائيل فقال : توضأ ثلاثا ثلاثا فقط .

قال : وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن المسح مرة واحدة فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا ثلاثا ، وقالوا : ومسح برأسه لم يذكروا عددا انتهى .

وروى أبو داود والطبراني عن علي في حكايته المسح ثلاثا ، قال البيهقي : وقد روي من أوجه غريبة عن عثمان رضي الله عنه تكرار المسح ، إلا أنه مع خلاف الحفاظ ليس بحجة عند أهل العلم ( قوله وهو مشروع ) روى الحسن عن أبي حنيفة في المجرد إذا مسح ثلاثا بماء واحد كان مسنونا ، وما سوى ذلك من تقرير الكتاب [ ص: 35 ] غني عن البيان .




الخدمات العلمية