الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن أصابت الأرض نجاسة فجفت بالشمس وذهب أثرها جازت الصلاة على مكانها ) [ ص: 199 ] وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا تجوز لأنه لم يوجد المزيل ( و ) لهذا ( لا يجوز التيمم به ) ولنا قوله عليه الصلاة والسلام { ذكاة الأرض يبسها } وإنما لا يجوز التيمم به لأن طهارة الصعيد ثبتت شرطا بنص الكتاب فلا تتأدى بما ثبت بالحديث .

التالي السابق


( قوله فجفت بالشمس ) اتفاقي لا فرق بين الجفاف بالشمس والنار أو الريح ، والمراد [ ص: 199 ] من الأثر الذاهب : اللون أو الريح . وحديث ذكاة الأرض يبسها ذكره بعض المشايخ أثرا عن عائشة ، وبعضهم عن محمد بن الحنفية ، وكذا رواه ابن أبي شيبة عنه ، ورواه أيضا عن أبي قلابة . وروى عبد الرزاق عنه : جفوف الأرض طهورها ، ورفعه المصنف ، وذكره في المبسوط : أيما أرض جفت فقد ذكت . حديثا مرفوعا ،

والله أعلم به .

وفي سنن أبي داود : باب طهور الأرض إذا يبست وساق بسنده عن ابن عمر قال : كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت فتى شابا عزبا ، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك ، فلولا اعتبارها تطهر بالجفاف كان ذلك تبقية لها بوصف النجاسة مع العلم بأنهم يقومون عليها في الصلاة ألبتة إذ لا بد منه مع صغر المسجد وعدم من يتخلف للصلاة في بيته ; وكون ذلك يكون في بقاع كثيرة من المسجد لا في بقعة واحدة حيث كانت تقبل وتدبر وتبول ، فإن هذا التركيب في الاستعمال يفيد تكرر الكائن منها أو لأن تبقيتها نجسة ينافي الأمر بتطهيرها فوجب كونها تطهر بالجفاف ، بخلاف { أمره صلى الله عليه وسلم بإهراق ذنوب من ماء على بول الأعرابي في المسجد } لأنه كان نهارا والصلاة فيه تتابع نهارا ، وقد لا يجوز قبل وقت الصلاة فأمر بتطهيرها بالماء ، بخلاف مدة الليل ، أو لأن الوقت كان إذ ذاك قد آن أو أريد أن ذاك أكمل الطهارتين للتيسر في ذلك الوقت ، هذا وإذا قصد تطهير الأرض صب عليها الماء ثلاث مرات وجففت في كل مرة بخرقة طاهرة ، وكذا لو صب عليها ماء بكثرة ولم يظهر لون النجاسة ولا ريحها فإنها تطهر ، ولو كبسها بتراب ألقاه عليها إن لم توجد رائحة النجاسة جازت الصلاة على ذلك التراب وإلا فلا .

واختلفوا في النابت كالشجر والكلإ ، قيل يطهر بالجفاف ما دام قائما عليها ، وبعد القطع يجب الغسل ، وكذا الحصى حكمه حكم الأرض ، أما الآجرة المفروشة فتطهر بالجفاف وإن كانت موضوعة تنقل فلا ، فإن كانت النجاسة فيما يلي الأرض جازت الصلاة عليها .

وفي الظهيرية : إذا صلى على وجهها الطاهر إن كان مركبا جاز ، وإلا قيل لا يجوز انتهى .

ويمكن أن يجرى فيه الخلاف بين أبي يوسف ومحمد في اللبد وقد قدمناه أول الباب ( قوله لأن طهارة الصعيد ثبتت شرطا بنص الكتاب ) فلا تتأدى هذه الطهارة بخبر الواحد الظني بخصوص هذا [ ص: 200 ] الموضع ، فإن ما كلف به قطعا لا يلزم في إثبات مقتضاه القطع به ، فإن طهارة الماء والصعيد المكلف بتحصيلهما يخرج عن عهدة التكليف البناء على الأصل فيهما ، وذلك لا يفيد القطع بل يجوز المستعمل نجاستهما في نفس الأمر ، وقد تكون ثابتة والعلوم لا تحتمل النقيض في نفس الأمر ولا عند من قامت به لو قدره ، لكن امتنع هنا لاستلزامه نوع معارضة للكتاب ، وذلك لأن المعروف شرعا أن التطهير باستعمال المطهر ولم يفعل فلا يكون طاهرا فكان النص طالبا للتيمم بهذا التراب على هذا الوجه ، والخبر يجيز استعماله على غير هذا الوجه فلا يعتبر ، بخلاف طهارة المكان في الصلاة فإن دلالة النص بعد دخولها التخصيص بالقليل الذي لا يحترز عنه إجماعا ، وما دون الدرهم عندنا تطلبه على غير هذا الوجه فجاز أن يعارض بخبر الواحد ويثبت حكمه .

لكن قد يقال : إن النص إنما يطلبه طاهرا فقط ، وكون المعروف من الشرع أن التطهير باستعمال المطهر على إرادة الحصر ممنوع ، إذ قد عرف منه أيضا أنها بالجفاف في الأرض فيثبت به نوع آخر من أسباب الطهارة ظنا فيتأدى به الواجب قطعا .

والحاصل أن محل القطع هو نفس التكليف بالطاهر ، ومحل الظن كونه طاهرا فلم يتلاقيا في محل فلا تعارض .

والأولى ما قيل إن الصعيد علم قبل التنجس طاهرا وطهورا وبالتنجس علم زوال الوصفين ، ثم ثبت بالجفاف شرعا : أحدهما أعني الطهارة فيبقى الآخر على ما علم من زواله وإذا لم يكن طهورا لا يتيمم به هذا .

وقد ظهر إلى هنا أن التطهير يكون بأربعة أمور : بالغسل ، والدلك ، والجفاف ، والمسح في الصقيل دون ماء .

والفرك يدخل في الدلك ، بقي المسح بالماء في محاجمه ثلاثا بثلاث خرق طاهرة ، وقياسه ما حول محل القصد إذا تلطخ ويخاف من الإسالة السريان إلى الثقب ، وآخر مختلف فيه بين أبي يوسف ومحمد وهو بانقلاب العين في غير الخمر كالخنزير والميتة تقع في المملحة فتصير ملحا تؤكل ، والسرقين والعذرة تحترق فتصير رمادا تطهر عند محمد خلافا لأبي يوسف ، وكلام المصنف في التجنيس ظاهر في اختيار قول أبي يوسف قال : خشبة أصابها بول فاحترقت ووقع رمادها في بئر يفسد الماء ، وكذلك رماد العذرة ، وكذا الحمار إذا مات في مملحة لا يؤكل الملح ، وهذا كله قول أبي يوسف خلافا لمحمد لأن الرماد أجزاء لتلك النجاسة فتبقى النجاسة من وجه فالتحقت بالنجس من كل وجه احتياطا انتهى .

وكثير من المشايخ اختاروا قول محمد ، وهو المختار لأن الشرع رتب وصف النجاسة على تلك [ ص: 201 ] الحقيقة ، وتنتفي الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها فكيف بالكل ، فإن الملح غير العظم واللحم ، فإذا صار ملحا ترتب حكم الملح ونظيره في الشرع النطفة نجسة وتصير علقة وهي نجسة وتصير مضغة فتطهر ، والعصير طاهر فيصير خمرا فينجس ويصير خلا فيطهر ، فعرفنا أن استحالة العين تستتبع زوال الوصف المرتب عليها . وعلى قول محمد فرعوا الحكم بطهارة صابون صنع من زيت نجس ، وفرع بعضهم عليه أن الماء والتراب النجسين إذا اختلط وحصل الطين كان الطين طاهرا لأنه صار شيئا آخر ، وهذا بعيد فقد اختلف فيما لو كان أحدهما طاهرا فقيل العبرة للماء إن كان نجسا فالطين نجس وإلا فطاهر ، وقيل للتراب ، وقيل للغالب ، والأكثر على أن أيهما كان طاهرا فالطين طاهر ، فأهل هذه الأقوال كلها على نجاسته إذا كانا نجسين ، بخلاف قولهم في الطين المعجون بتبن نجس بالطهارة فيصلي في المكان المطين به ولا ينجس الثوب المبلول إذا نشر عليه لأن ذلك إذا لم ير عين التبن لا إذا رئيت ، وعلله في التجنيس بأن التبن مستهلك إذا لم تر عينه ، بخلاف ما إذا رئيت ، ثم قال : وإن تر طباعا نجسا انتهى . وكأنه بناء على إحدى الروايتين في أمثاله . وقال قبله في علامة النوازل : إذا نزح الماء النجس من بئر كره أن يبل به الطين ليطين به المسجد أو أرضه لأن الطين يصير نجسا ، وإن كان البئر طاهرا ترجيحا للنجاسة احتياطا بعد إذ لا ضرورة إلى إسقاط اعتبارها ، بخلاف السرقين إذا جعل في الطين للتطيين لأن فيه ضرورة إلى إسقاط اعتباره إذ ذلك النوع لا يتهيأ إلا بذلك ، فعرفنا رأي المصنف في هذا إذ لم يتعقبه كما هو شأنه فيما يخالف مختاره .

وفي الخلاصة العبرة للنجس منهما أيهما كان نجسا فالطين نجس ، وبه أخذ الفقيه أبو الليث ، وكذا روي عن أبي يوسف ، وقال محمد بن سلام أيهما كان طاهرا فالطين طاهر ، هذا قول محمد حيث صار شيئا آخر .

واعلم أن الأرض إذا طهرت بالجفاف والخف بالدلك والثوب بفرك المني والسكين بالمسح والبئر إذا غار ماؤها بعد تنجسها قبل النزح وجلد الميتة إذا دبغ تشميسا أو تتريبا ثم أصابها الماء هل تنجس إذا ابتلت بعد ذلك ؟ فيه روايتان عن أبي حنيفة ، والآجرة المفروشة إذا تنجست فجفت ثم قلعت هل تعود نجسة ؟ فيها الروايتان ، ومن المشايخ من يقتصر في بعضها على حكاية الخلاف ، والأولى طرد الروايتين في الكل لأنها نظائر ، وقد قال تصير في البئر بالطهارة ، ومحمد بن سلمة بالنجاسة وفي الينابيع . وروي عن محمد مثل ما قال ابن سلمة ، واختار المصنف في التجنيس في السكين الطهارة ، فلو قطع البطيخ واللحم أكل ، وقيل لا يؤكل ، واختار قبله في مسألة الفرك الطهارة ، وفي مسألة الجفاف النجاسة ، قال : لأن النجس لا يطهر إلا بالتطهير والفرك تطهير كالغسل ولم يوجد في الأرض تطهير .

وفصل بعضهم في السكين والسيف بين كون المنجس بولا فلا بد من الغسل أو دما فيطهر بالمسح .

وفي شرح الكنز : إذا فرك يحكم بطهارته عندهما ، وفي أظهر الروايتين عن أبي حنيفة تقل النجاسة ولا تطهر حتى لو أصابه ماء عاد نجسا عنده لا عندهما ، ولها أخوات فذكر ذلك الخف وجفاف الأرض والدباغة ومسألة البئر ، قال : فكلها على الروايتين ، وظاهره كون الظاهر النجاسة في الكل ، والأولى اعتبار الطهارة في الكل كما اختاره شارح المجمع في الأرض ، وهي أبعد الكل إذ لا صنع فيها أصلا ليكون تطهيرا لأنه [ ص: 202 ] محكوم بطهارتها شرعا بالجفاف على ما فسر به معنى الذكاة في الآثار وملاقاة الطاهر الطاهر لا يوجب التنجيس بخلاف المستنجي بالحجر ونحوه لو دخل في الماء القليل نجس على ما قالوا لأن غير المائع لم يعتبر مطهرا في البدن إلا في المني على رواية ، والجواز بغيره لسقوط ذلك المقدار عفوا لا طهارته فعنه آخذوا كون قدر الدرهم في النجاسات عفوا .




الخدمات العلمية