الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 136 ] ( وإذا قال الرجل لامرأته : أنت طالق إن شاء الله تعالى متصلا لم يقع الطلاق ) [ ص: 137 ] لقوله صلى الله عليه وسلم { من حلف بطلاق أو عتاق وقال : إن شاء الله تعالى متصلا به فلا حنث عليه } [ ص: 138 ] ولأنه أتى بصورة الشرط فيكون تعليقا من هذا الوجه وإنه إعدام قبل الشرط والشرط لا يعلم هاهنا فيكون إعداما من الأصل ولهذا يشترط أن يكون متصلا به بمنزلة سائر الشروط ( ولو سكت ثبت حكم الكلام الأول ) [ ص: 139 - 140 ] فيكون الاستثناء أو ذكر الشرط بعده رجوعا عن الأول . قال رضي الله عنه :

التالي السابق


( قوله وإذا قال لامرأته : أنت طالق إن شاء الله إلخ ) وكذا إذا قال : إن لم يشأ الله أو ما شاء الله أو فيما شاء الله أو إلا أن يشاء الله أو إن شاء الجن أو الحائط وكل من لم يوقف له على مشيئة لم يقع إذا كان متصلا فلا يفتقر إلى النية ، حتى لو جرى على لسانه من غير قصد لا يقع . وحكي عندنا فيه خلاف قال خلف : يقع ، وقال أسد لا يقع ، وهو الظاهر من المذهب لأن الطلاق مع الاستثناء ليس طلاقا ، وقال : رأيت أبا يوسف في النوم فسألته فقال : لا يقع ، فقلت لم ؟ قال : أرأيت لو قال : أنت طالق فجرى على لسانه أو غير طالق أكان يقع ؟ قلت : لا ، قال كذا هذا ، وكذا إذا لم يدر ما هو إن شاء الله لما ذكرنا ، وصار كسكوت البكر إذا زوجها أبوها فسكتت ولا تدري أن السكوت رضا يمضي به العقد عليها .

وفي خارج المذهب خلاف في النية . قيل يشترط نية الاستثناء من أول الكلام ، وقيل قبل فراغه ، وقيل : ولو بعد فراغه ، وقيل : ولو بالقرب من الكلام ولا يشترط اتصالها به .

واعلم أن ما شاء الله يجوز كون ما فيه موصولا اسميا فمقتضاه أن تطلق واحدة رجعية لأن الغيب هو ما شاء الله من الواقع واحدة أو ثنتين أو ثلاثا ، ولا شك في أنت طالق المذكور فصار كقوله أنت طالق كيف شاء الله ، ويحتمل كونها حرفيا : أي مدة مشيئة الله فلا تطلق ، فالحكم بعدم الوقوع بعد ظهوره بالمنجز لا يخلو عن نظر ، وإنما يكون الظاهر عدم الوقوع مع المشيئة إذا كان الأظهر كونها المصدرية الظرفية ليترجح تعليقه بالمشيئة ، لكن الثابت لكثرة استعمالها موصولا اسميا ، ثم لا يقع قضاء ولا ديانة إذا قلنا بتساوي استعماليها ، وأخبر أنه أراد الظرف ، أما إذا لم يكن نية فينبغي أن يقع وعلمت أنه لا يحتاج إلى نية ، أما لو قال : إن شاء زيد فهو تمليك منه معتبر فيه مجلس علمه ، فإن شاء فيه طلقت وإلا خرج الأمر من يده ، وكذا إلا أن يشاء زيد أو يريد أو يجب أو يرضى أو يهوى أو يرى أو إلا أن يبدو له غير ذلك تقيد بمجلس العلم ، ويعتبر في ذلك كله إخبار فلان بلسانه لا مشيئته ورضاه بقلبه لأن المشيئة وأخواتها أمر باطن ، وله دليل ظاهر وهو العبارة فيقام مقامه ، كذا في شرح الجامع ، وكذا إذا أضاف المشيئة والثلاثة بعدها إليه تعالى بالباء فقال : طالق بمشيئة الله تعالى وإرادته ومحبته ورضاهلا يقع لأنه معنى التعليق ، إذ الباء للإلصاق ، والكائن في التعليق إلصاق الجزاء بالشرط وإن أضاف الأربعة وما بعدها بالباء إلى العبد كان تمليكا ، وإن قال بأمره أو بحكمه أو بقضائه أو بإذنه أو بعلمه أو بقدرته وقع في الحال سواء أضافه إليه تعالى أو إلى العبد لأنه يراد به في مثله التنجيز عرفا ، وإن قال بحرف اللام يقع في الوجوه [ ص: 137 ] كلها ، سواء أضافه إلى الله تعالى أو إلى العبد لأنه تعليل للإيقاع كقوله طالق لدخولك الدار .

وإن قال بحرف " في " إن أضافه إليه تعالى لا يقع في الوجوه كلها إلا في قوله طالق في علم الله تعالى فإنه يقع في الحال لأن في بمعنى الشرط فيكون تعليقا بما لا يوقف عليه فلا يقع إلا في العلم لأنه يذكر للمعلوم وهو واقع ، ولأنه لا يصح نفيه عنه تعالى بحال فكان تعليقا بأمر موجود فيكون تنجيزا ، ولا يلزم القدرة لأن المراد منها هنا التقدير ، وقد يقدر شيئا وقد لا يقدره ، حتى لو أراد حقيقة قدرته تعالى يقع في الحال كذا في الكافي .

والأوجه أن يراد العلم على مفهومه ، وإذا كان في علمه تعالى أنها طالق فهو فرع تحقق طلاقا ، وكذا نقول القدرة على مفهومها ولا يقع ، لأن معنى أنت طالق في قدرة الله تعالى : أي في قدرته تعالى وقوعه وذلك لا يستلزم سبق تحققه . يقال للفاسد الحال في قدرة الله صلاحه مع عدم تحققه في الحال . وفيه أيضا : وإن أضاف إلى العبد بفي كان تمليكا في الأربع الأول وما بمعناها من الهوى والرؤية تعليقا في الستة الأواخر ، ولا يخفى أن ما ذكره في التنجيز بقوله في علم الله يأتي في قوله في إرادته ومحبته ورضاه فيلزم الوقوع ، بخلاف توجيهنا .

ولو قال : طالق واحدة إن شاء الله وثنتين إن لم يشأ الله لم يقع شيء لأن الأول لحقه الاستثناء فبطل ، والثاني باطل لأنه لو وقع لشاء الله فيعدم الشرط فلم يقع فكان في تصحيحه إبطاله ; ولو قال : طالق واحدة اليوم إن شاء الله وإن لم يشأ فثنتين فمضى اليوم ولم يطلقها وقع ثنتان ، لأنه لو شاء الله تعالى الواحدة في اليوم لطلقها فيه فيثبت أنه لم يشأ الله الواحدة فتحقق شرط وقوع الثنتين وهو عدم مشيئته تعالى الواحدة بخلاف السابقة لأن شرط وقوع الثنتين فيها عدم مشيئتها فلا يمكن وقوعها مع عدم مشيئته تعالى عز وجل ، والمسألتان مذكورتان في النوازل وقال في المنتقى : لو قال : طالق اليوم ثنتين إن شاء الله وإن لم يشأ في اليوم فطالق ثلاثا فمضى اليوم ولم يطلقها طلقت ثلاثا ووجهه ما بيناه .

وقال : لو لم يقيد باليوم في اليمينين فهو إلى الموت ، فإن لم يطلقها طلقت قبل الموت ثلاثا بلا فصل ، وقد ظن أنه مخالف مسألة النوازل والجواب أن مسألة المنتقى تعليق الثلاث بعدم مشيئة الله تعالى التطليقتين وقد وجد المعلق عليه قبل الموت ، إذ لو شاء الله تعالى التطليقتين لأوقعهما الزوج .

وفي مسألة النوازل تعليق التطليقتين بعدم مشيئة الله إياهما فلا يقعان أبدا ( قوله لقوله صلى الله عليه وسلم { من حلف بطلاق } إلخ ) غريب بهذا اللفظ ، ومعناه مروي . أخرج أصحاب السنن الأربعة من حديث أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من حلف على يمين فقال : إن شاء الله فقد استثنى } لفظ النسائي ، ولفظ الترمذي { فلا حنث عليه } وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي : حديث حسن غريب . وقد روى نافع عن ابن عمر موقوفا ، وعن سالم عن ابن عمر موقوفا ، ولا نعلم أحدا رفعه غير أيوب السختياني . وقال إسماعيل بن إبراهيم : كان أيوب أحيانا يرفعه وأحيانا لا يرفعه ا هـ . وهذا كله غير قادح في الرفع لما قدمنا في نظائره غير مرة من تعارض الوقف والرفع واعلم أن مالكا رحمه الله يقول بوقوع الطلاق مع لفظ إن شاء الله . والاستدلال بالحديث المورد في اليمين لا يتم في مجرد أنت طالق إن شاء الله ، وسنبين إن شاء الله ذلك في كتاب الأيمان . وأما ما أخرج ابن عدي في الكامل عن إسحاق بن أبي يحيى الكعبي عن عبد العزيز أبي رواد عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : من قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله تعالى أو لغلامه أنت حر إن شاء الله تعالى أو على المشي إلى بيت الله إن شاء الله فلا شيء عليه } [ ص: 138 ] وهو معلول بإسحاق ، هذا نقل تضعيفه عن الدارقطني وابن حبان ولم يعلم توثيقه عن غيرهما . وأخرج الدارقطني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من طلق واستثنى فله ثنياه } ضعفه عبد الحق بحميد ، وتعدد طرق الضعيف عندنا وإن كان يخرجه إلى الحسن إذا لم يكن ضعفه بالوضع ، لكن هذا القدر من التعدد لا يكفي ( قوله ولأنه أتى بصورة الشرط ) أي بحرفه دون حقيقته لأن مشيئة الله تعالى إما ثابتة قطعا أو منتفية قطعا فلا تردد في حكمها ، وما يكون كذلك فهو تعليق ( فيكون تعليقا من هذا الوجه ) يعني من حيث الصورة .

( وأنه إعدام ) أي التعليق إعدام العلية قبل وجود الشرط ( قوله والشرط لا يعلم هنا فيكون إعداما من الأصل ) يشير إلى أن التعليق بالمشيئة إبطال ، وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لقوله تعالى { حتى يلج الجمل في سم الخياط } وقال :

إذا شاب الغراب أتيت أهلي وعاد القار كاللبن الحليب

وعند أبي يوسف تعليق ملاحظة للصيغة وهما لاحظا المعنى وهو أولى ، وقد نقل الخلاف بين أبي يوسف ومحمد على عكسه .

وثمرته تظهر فيما إذا قدم الشرط فقال إن شاء الله أنت طالق تطلق على التعليق لعدم الفاء في موضع وجوبها فلا يتعلق ولا تطلق على الإبطال . وفي شرح المجمع للمصنف عكس هذا ، وهو غلط فاجتنبه ، بخلاف قوله إن شاء الله فأنت طالق وفيما إذا جمع بين يمينين فقال أنت طالق إن دخلت الدار وعبدي حر إن كلمت زيدا إن شاء الله ، فعلى التعليق يعود إلى الجملة الثانية ، فلو كلمت زيدا لا يقع ، ولو دخلت الدار يقع ، وعلى الإبطال إلى الكل لعدم الأولوية بالإبطال ، فلو كلمت زيدا أو دخلت الدار لا يقع ، ولو أدخله في الإيقاعين فقال : أنت طالق وعبدي حر إن شاء الله ينصرف إلى الكل فلا تطلق ولا يعتق بالإجماع ، أما عندهما فلما قلنا من عدم الأولوية بالإبطال .

وأما عند أبي يوسف فلأنه كالشرط والشرط إذا دخل على إيقاعين يتعلقان به ، وفيما إذا حلف لا يحلف بالطلاق وقاله حنث على التعليق لا الإبطال . وفي فتاوى قاضي خان : الفتوى على قول أبي يوسف إلا أنه عزى إليه الإبطال فتحصل أن الفتوى على أنه إبطال ( قوله ولو سكت ثبت حكم الكلام الأول ) أي إذا [ ص: 139 ] سكت كثيرا بلا ضرورة بخلافه بجشاء أو تنفس وإن كان له منه بد ، بخلاف ما لو سكت قدر التنفس ثم استثنى لا يصح الاستثناء للفصل وللفصل اللغو تطلق ثلاثا في قوله : أنت طالق ثلاثا وثلاثا إن شاء الله ، عند أبي حنيفة خلافا لهما ، لأن التكرار للتأكيد شائع فيحمل عليه كقوله طالق واحدة إن شاء الله وهو يقول قوله وثلاثا لغو فيقع فاصلا فيبطل الاستثناء فتطلق ثلاثا ، وعلى هذا الخلاف عبده حر وحر إن شاء الله .

ولو قال : حر حر بلا واو واستثنى لا يعتبر فاصلا بلا خلاف لظهور التأكيد . وقياسه إذا كرر ثلاثا بلا واو أن يكون مثله . ولو قال : عبده حر وعتيق إن شاء الله صح فلا يعتق ، بخلاف حر وحر لأن العطف التفسيري إنما يكون بغير لفظ الأول فلا يصح ، وحر لقوله حر تفسيرا فكان فاصلا بخلاف حر وعتيق ، ومثل ثلاثا وثلاثا لو قال : أنت طالق وطالق وطالق إن شاء الله طلقت ثلاثا عند أبي حنيفة .

وعندهما يصح الاستثناء كقوله طالق أربعا إن شاء الله . ولو قال : طالق واحدة وثلاثا إن شاء الله صح الاستثناء اتفاقا لأنه ليس لغوا لأنه يثبت به تكميل الأول . ولو قال : ثلاثا بوائن أو ألبتة لا يصح الاستثناء في ظاهر الرواية لأنه مع الثلاث لغو . وعن محمد يصح هذا ويتراءى خلاف في الفصل بالذكر القليل ، فإنه ذكر في النوازل : لو قال : والله لا أكلم فلانا أستغفر الله إن شاء الله هو مستثن ديانة لا قضاء . وفي الفتاوى : لو أراد أن يحلف رجلا ويخاف أن يستثني في السر يحلفه ويأمره أن يذكر عقيب اليمين موصولا سبحان الله أو غيره من الكلام .

والأوجه أن لا يصح الاستثناء بالفصل بالذكر ، ولو كان بلسانه ثقل وطال تردده ثم قال : إن شاء الله أو أراد أن يقول فسد إنسان فاه ساعة ثم أطلقه فاستثنى متصلا برفعه صح . وعن هشام : سألت محمدا عمن قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا وهو يريد أن يستثني فأمسكت فاه قال : يلزمه الطلاق قضاء وديانة : يعني إذا لم يستثن بعد التخلية ، ولا يكتفي بذلك الفصل ، واشتراط الاتصال قول جماهير العلماء منهم الأربعة . وعن ابن عباس جوازه إلى سنة . وعنه أبدا .

وقال سعيد بن جبير : إلى أربعة أشهر ، وعن الحسن البصري تقيد بالمجلس وهو قول الأوزاعي استدلالا بحديث { سليمان عليه السلام لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كل تلد غلاما فقال له صاحبه : يعني الملك ، قل : إن شاء الله ، فنسي إلى آخره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قالها لقاتلوا جميعا } قلنا : يحتمل قول الملك له قبل فراغه ، وقوله صلى الله عليه وسلم { لو قالها } : يعني متصلا .

واستدل المطلقون بظواهر منها { أنه صلى الله عليه وسلم قال في مكة لا يختلى خلاها الحديث ، فقال له العباس رضي الله عنه : إلا الإذخر ، فسكت ثم قال : إلا الإذخر } ومنها أنه { قال في أسرى بدر : لا يفلت أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق ، فقال ابن مسعود : إلا سهيل بن البيضاء ، فقال : إلا سهيل بن البيضاء } وما أجيب به عن هذين بأنه كان على جهة النسخ دفع بأنه بإلا وهي تؤذن باتصال ما بعدها بما قبلها ، وليس بلازم لأن المقصود الرفع بنفس لفظ القائل إيذانا بأنه وافق الشرع المتجدد ، وفي العرفيات مثل هذا كثير فيقدر له جملة تشاكل الأولى مدلول عليه بها كأنه قال : لا يختلى خلاها إلا الإذخر .

ومنها ما رواه أبو داود فإن { رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا ، ثم سكت ثم قال : إن شاء الله ثم لم يغزهم } ويجاب بأن كونه لم يغزهم لا يدل على أنه لم يكفر ولم يحنث ، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حلف أنه لا يحلف على يمين فيرى غيرها خيرا منها إلا أتى التي هي خير وكفر عنها . فحين رأى أن عدم غزوهم خير لم يفعل ما حلف عليه . [ ص: 140 ] ومنها إطلاق قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق { فلا حنث عليه } والجواب أنه محمول على الاتصال بالعرف العملي ، لأن عرف جميع الناس وصل الاستثناء لا فصله لو لم يكن في لفظ الحديث ما يدل عليه ، فكيف ولفظه يدل عليه حيث قال بالفاء الدالة على الوصل والتعقيب بلا مهلة { من حلف على يمين فقال : إن شاء الله } ثم يوجبه أيضا اللوازم المذكورة في الأصل من أنه يستلزم أن لا يحكم بوقوع طلاق ولا عتاق ولا إقرار بمال ولا ما لا يحصى من اللوازم الباطلة ، وبذلك أخاف أبو حنيفة المنصور حين وشى به أعداؤه إليه بأنه يرد رأي جدك ابن عباس في جواز الاستثناء المنفصل ، فقال له ما معناه : إن مخالفته فيها تحصين الخلافة عليك ومنع خروج المحالفين لك من الخروج عليك ، وإلا جاز لهم أن يستثنوا إذا خرجوا من عندك .

ومذهب الشافعي كمذهبنا في أنه إذا قال متصلا بقوله طالق أو حرة إن شاء الله لا يقع الطلاق والعتاق . وقال مالك وأحمد في ظاهر الرواية عنه : يتنجزان لأنه علقهما بشرط محقق ، لأنه لو لم يشأ الله كلا من طلاقها وعتاقها لم يمكنه التلفظ به ، ويوضحه أنه إذا أراد صدور اللفظ منه فقد شاء الله صدوره ، وإن أراد وجود الطلاق والعتاق فقد حكمت الشريعة أنه إذا صدر اللفظ وجب كل منهما ، وإن أراد ما يكون من المشيئة فيما بعد فمشيئته قديمة عند أهل السنة والجماعة فظنه أنها تتجدد محال .

والحجة لنا ما روينا وبينا من المعنى . والجواب عن متمسكه أنه لم يعلقه بمحقق لأنه لا يمكن الاطلاع على ما في مشيئة الله تعالى ، ونختار أنه أراد تعليق وجود الطلاق والعتاق بمشيئة الله تعالى ، وقوله فقد حكمت الشريعة إلى آخره ليس على إطلاقه ، إذ التعليقات من نحو أنت طالق إن قدم زيد أو دخلت الدار وجد فيه لفظ الطلاق ولم تحكم الشريعة بوقوعه في الحال بالإجماع وما نحن فيه من هذا القبيل .

( قوله فيكون الاستثناء أو ذكر الشرط إلخ ) إنما نوعه لما ذكرنا أنه على قول محمد استثناء ، وعلى قول أبي يوسف تعليق على أحد وجهي النقل عنهما ، وقريب من الاستثناء لو قال : إن دخلت فلله علي أن أتصدق بمائة مثلا ، قال في النوازل : هذا قريب من الاستثناء لأن من الأمثال ما ليس به حقيقة ، ولأن المثل تشبيه ولا يكون في التشبيه إيجاب المال ، قال : وبه نأخذ إلا أن يريد الإيجاب على نفسه .



[ فروع ]

طلق أو خلع ثم ادعى الاستثناء أو الشرط ولا منازع لا إشكال في أن القول قوله ، وكذا إذا كذبته المرأة فيه ذكره في الحاوي للإمام محمود البخاري ولو شهد عليه بأنه طلق أو خالعها بغير الاستثناء أو قالا : لم يستثن قبلت ، وهذه من المسائل التي تقبل فيها الشهادة على النفي ، فإن لم يشهدا على النفي بل قالا : لم نسمع منه غير لفظة الطلاق والخلع والزوج يدعي الاستثناء . ففي المحيط القول قوله . وفي فوائد شمس الإسلام الأوزجندي : لا يسمع دعوى الاستثناء إذا عرف الطلاق بالبينة بل إذا عرف بإقراره ، ومثله إذا قال لعبده : أعتقتك أمس وقلت : إن شاء الله لا يعتق .

وفي الفتاوى للنسفي : لو ادعى الاستثناء وقالت : بل طلقني فالقول لها ولا يصدق الزوج إلا ببينة ، بخلاف [ ص: 141 ] ما لو قال لها : قلت لك : أنت طالق إن دخلت فقالت : طلقني منجزا القول قوله . وفي الفتاوى الصغرى : إذا ذكر الجعل لا تسمع دعوى الاستثناء والطلاق على مال كالخلع .

ونقل نجم الدين النسفي عن شيخ الإسلام أبي الحسن أن مشايخنا أجابوا في دعوى الاستثناء في الطلاق أن لا يصدق الزوج إلا ببينة لأنه خلاف الظاهر وقد فسد حال الناس . والذي عندي أن ينظر ، فإن كان الرجل معروفا بالصلاح والشهود لا يشهدون على النفي ينبغي أن يؤخذ بما في المحيط من عدم الوقوع تصديقا له ، وإن عرف بالفسق أو جهل حاله ينبغي أن لا يؤخذ بقول المانع لغلبة الفساق في هذا الزمان .




الخدمات العلمية