الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن كانت آيسة فاعتدت بالشهور ثم رأت الدم انتقض ما مضى من عدتها وعليها أن تستأنف العدة بالحيض ) ومعناه إذا رأت الدم على العادة لأن عودها يبطل الإياس هو الصحيح ، فظهر أنه لم يكن خلفا وهذا لأن شرط الخلفية تحقق اليأس وذلك باستدامة العجز إلى الممات كالفدية [ ص: 318 - 319 ] في حق الشيخ الفاني .

التالي السابق


( قوله وإن كانت آيسة فاعتدت بالشهور ) يمكن كون كان تامة : يعني إذا وجدت امرأة آيسة فاعتدت بالشهور .

( قوله ثم رأت الدم ) بعد انقضاء الأشهر أو في خلالها ( انتقض ما مضى من عدتها ) وظهر فساد نكاحها الكائن بعد تلك العدة ، حتى لو كانت حبلت من الزوج الآخر انتقضت عدتها وفسد نكاحها صرحوا به ، ويندرج في إطلاق الانتقاض وهو لازم للتعليل الذي ذكره في الكتاب بقوله ( لأن عودها يبطل الإياس هو الصحيح فظهر أنه لم يكن خلفا ) وعلله بأنه شرط الخلفية : أي خلفية الاعتداد بالأشهر عن الحيض تحقق الإياس بالنص وهو قوله تعالى { واللائي يئسن من المحيض } الآية ، والإياس لا يتحقق [ ص: 318 ] إلا باستدامة العجز إلى الممات كالفدية في حق الشيخ الفاني ، فإذا ظهر الدم ظهر عدم الخلفية فظهر عدم انقضاء العدة ، إلا أن هذا يتوقف على كون ذلك الدم حيضا ، وهذا ليس بلازم من مجرد وجوده لجواز كونه دما فاسدا فلذا قيده بقوله ومعناه إذا رأت الدم على العادة لأنه حينئذ ظاهر في أنه ذلك المعتاد ، وعود العادة يبطل الإياس ثم فسر بعضهم هذا بأن تراه سائلا كثيرا جعله احترازا عما إذا رأت بلة يسيرة ونحوها ، وقيدوه أيضا بأن يكون أحمر أو أسود ، فلو كان أصفر أو أخضر أو تربية لا يكون حيضا ، ومنهم من لم يتصرف فيه فقال معناه : إذا رأته على العادة الجارية ، وهو يفيد أنها إذا كانت عادتها قبل الإياس أصفر فرأته كذلك أو علقا فرأته كذلك كان حيضا مظهرا عدم انقضاء العدة بالأشهر ، ثم أطلق المصنف انتقاض العدة والاستئناف ، فاقتضى ثبوت ذلك سواء قلنا بتقدير الإياس بمدة أو لا . وذكر في المحيط أن في ذلك روايتين : في رواية لا تقدير فيه ، وإياسها على هذه أن تبلغ من السن ما لا يحيض فيه مثلها ، فإذا بلغت هذا المبلغ وانقطع الدم حكم بإياسها ، فإن رأت بعد دما يكون حيضا على هذه الرواية فيبطل الاعتداد بتلك الأشهر ويظهر فساد النكاح .

ويمكن كون المراد بمثلها فيما ذكر المماثلة في تركيب البدن والسمن والهزال . وفي رواية : يقدر بخمس وخمسين سنة وهو رواية الحسن ، وعليه أكثر المشايخ ، وفي المنافع وعليه الفتوى . وعن محمد أنه قدره في الروميات بخمس وخمسين سنة ، وفي غيرهن بستين وعنه بسبعين ، وبه قال الصفار . وقال أبو الليث : لو حاضت ثم انقطع عنها الدم تصير ستين سنة وتعتد ، ولو كانت عادة أمها وأخواتها انقطاعه قبل الستين تأخذ بعادتهن وبعد الستين لا تأخذ بعادتهن .

وقال الأقطع : فإذا رأت الدم بعد ذلك لا يكون حيضا كالدم الذي تراه الصغيرة التي لا يحيض مثلها . وهذه العبارة تفيد أنه لا يحتاج إلى حكم القاضي بالإياس ، وكذا العبارة القائلة إذا بلغت المقدر : يعني وانقطع حيضها حكم بإياسها ، فإن رأت الدم بعد ذلك لا يكون حيضا إنما يقتضي أن يكون عند بلوغ المقدر مع الانقطاع يحكم به شرعا . وقيل يكون حيضا ويبطل به الاعتداد بالأشهر ويظهر فساد النكاح ، لأن الحكم بالإياس بعد خمس وخمسين إذا لم تر الدم بالاجتهاد والدم حيض بالنص ، فإذا رأته فقد وجد النص ، بخلاف الاجتهاد فيبطل ، كذا نقله بعضهم ، وهو يفيد كون الخلاف إنما هو على رواية التقدير ، وأما على رواية عدمه فلا خلاف في الانتقاض .

وفي الغاية معزيا إلى الإسبيجابي على رواية عدم التقدير . قالوا : ولو اعتدت بالأشهر ثم رأت الدم لا تبطل الأشهر ، وهو المختار عندنا ، فثبت اختلاف المشايخ على الروايتين . وفي بعض العبارات ما يفيد أن عدم الانتقاض إذا حكم القاضي بالإياس ، ويقيد الانتقاض بعدم حكمه به . ففي الخلاصة نقل من نوادر الصلاة عن محمد في العجوز الكبيرة إذا رأت الدم مدة الحيض فهو حيض . ثم نقل قول ابن مقاتل إنها محمولة على ما إذا لم يحكم بإياسها ، أما إذا انقطع وحكم بإياسها وهي ابنة سبعين سنة أو نحوه فرأت الدم لا يكون حيضا . وقال بعده بخطوط : وطريق القضاء أن يدعي أحد الزوجين فساد النكاح بسبب قيام العدة فيقضي القاضي بجوازه بانقضاء العدة بالأشهر . قال : وكان الصدر الشهيد يفتي بأنها لو رأت بعد ذلك دما يكون حيضا ، ويفتي ببطلان الاعتداد بالأشهر إن كانت رأت الدم قبل تمام الأشهر ، وإن كانت رأته بعد تمام الاعتداد بالأشهر لا تبطل الأنكحة قضى القاضي بجواز النكاح أو لم يقض . ثم ذكر الخلاف صريحا مبنيا على ما قلناه من مجموع النوازل أن الآيسة إذا اعتدت بالشهور وتزوجت ثم رأت الدم [ ص: 319 ] يكون النكاح فاسدا عند بعض المشايخ رحمهم الله ، إلا إذا قضى القاضي بجواز النكاح ثم رأت الدم لا يكون النكاح فاسدا . ثم قال : والأصح أن النكاح يكون جائزا ولا يشترط القضاء . وفي المستقبل : العدة بالحيض . انتهى .

فتحصل في المسألة أقوال على التقدير وعدمه ، وهي تنتقض إذا رأته قبل انقضاء الأشهر وبعدها في الماضي والمستقبل قدر أقل مدة الإياس أو لا حكم بالإياس أو لا ، وهو ظاهر مختار المصنف من التصوير والتعليل لا تنتقض مطلقا ، تنتقض كذلك إذا رأته قبل تمام الأشهر ، وإن كان بعدها فلا يبطل فلا تنتقض الأنكحة قضى بالإياس أو لا ، وهو قول الشهيد تنتقض إذا لم يكن قضى بإياسها كما قلنا : لا تنتقض إن كان حكم بإياسها ، وهو بأن يدعى فساد النكاح فيحكم بصحته وبانقضاء العدة ، وتنتقض إذا لم يكن حكم بالإياس . والقول الصحيح المصحح في النوازل انتقض في المستقبل فلا تعتد إلا بالحيض لا الماضي ، فلا تفسد الأنكحة المباشرة عن الاعتداد بالأشهر .

وإذا عرفت هذا فقول المصنف هو الصحيح احتراز عن كل قول يخالف إطلاق الانتقاض مطلقا كان أو مفصلا ، ومبنى مختاره على اشتراط تحقق الإياس لخلفية الأشهر بالنص ، وإن تحقق اليأس لا يكون إلا باستدامة الانقطاع إلى الممات ، ولا شك في الأول ، لكن كون تحققه موقوفا على استدامة الانقطاع لا أعلم فيه دليلا سوى ما يتوهم من لفظ اليأس أنه يقتضي ذلك ، ولا شك أن اليأس من مقولة الإدراك فإنه ليس إلا اعتقاد أن الشيء لا يقع أبدا ; أما أنه يستدعي كون ذلك الاعتقاد علما حتى لا يتصور وجود خلاف متعلقه فلا ، ولذا قد يتحقق اليأس من الشيء ثم يوجد ، وكثيرا ما يقال في الوقائع كنت آيست من كذا ثم وجدته . فإنما يستدعي سببا له ، وكونه بأن ينعدم الحيض ويمتد وينتفي مخايل وجوده في باقي العمر لكبر السن كاف فيه ، وعلى هذا إذا رأته بعد الإياس لا ينتقض ما مضى ، ولا يفسد النكاح المباشر عن اعتداد بالأشهر لوقوعه معتبرا لوجود شرطه ، ويبقى النظر بعد ذلك في أنه هل ينتقض فيما يستقبل فلا تعتد إلا بالحيض فيكون هذا ما صححه في مجموع النوازل ، أو لا ينتقض فيما يستقبل أيضا كقول الصفار وغيره ، وهو ينبني على النظر فيما يترجح في هذا المرئي بعد الإياس أهو حيض أم دم فاسد ، ولا تعلق له بالقضاء بالإياس وعدمه ، إذ القضاء لا يرفع وجود المحسوسات في المستقبل ، والوجه يقتضي الاختلاف في المستقبل فلا ينتقض ما مضى لوجود الشرط وهو الإياس لوجود سببه وهو الانقطاع في سنه وهو الذي يغلب فيه ارتفاع الحيض وهو الخمس والخمسون وعدم مخايل كونه امتدادا للطهر ولا يجوز في المستقبل إلا الحيض لتحقق الدم المعتاد خارجا من الفرج على غير وجه الفساد بل على الوجه المعتاد ، وقد علمت أن الإياس لا ينافيه ، فإذا تحقق الإياس تحقق حكمه ، وإذا تحقق الحيض تحقق حكمه ، والله سبحانه أعلم .

وأما كون العجز المستدام شرطا في الشيخ الفاني فلا يستلزم مثله في الإياس إذ لا ملازمة بينهما تثبت شرعا ، والمسألة نصية لا قياسية ، نص تعالى على تعليق الاعتداد بالأشهر عند الإياس وقد وجد فثبت الاعتداد بها بالنص ثم زال الإياس فثبت الاعتداد بالأقراء بالنص .




الخدمات العلمية