الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 229 ] ( وإن لم يكن محصنا وكان حرا فحده مائة جلدة ) لقوله تعالى { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } إلا أنه انتسخ في حق المحصن فبقي في حق غيره معمولا به . [ ص: 230 ] قال ( يأمر الإمام بضربه بسوط لا ثمرة له ضربا متوسطا ) لأن عليا رضي الله عنه لما أراد أن يقيم الحد كسر ثمرته . [ ص: 231 ] والمتوسط بين المبرح وغير المؤلم لإفضاء الأول إلى الهلاك وخلو الثاني عن المقصود وهو الانزجار ( وتنزع عنه ثيابه ) معناه دون الإزار لأن عليا رضي الله عنه كان يأمر بالتجريد في الحدود ، ولأن التجريد أبلغ في إيصال الألم إليه . وهذا الحد مبناه على الشدة في الضرب وفي نزع الإزار كشف العورة فيتوقاه ( ويفرق الضرب على أعضائه ) لأن الجمع في عضو واحد قد يفضي إلى التلف والحد زاجر لا متلف . قال ( إلا رأسه ووجهه وفرجه ) { لقوله عليه الصلاة والسلام للذي أمره بضرب الحد اتق الوجه والمذاكير } ولأن الفرج مقتل والرأس مجمع الحواس ، وكذا الوجه وهو مجمع المحاسن أيضا فلا يؤمن فوات شيء منها بالضرب وذلك إهلاك معنى فلا يشرع حدا . [ ص: 232 ] وقال أبو يوسف رحمه الله : يضرب الرأس أيضا رجع إليه ، وإنما يضرب سوطا لقول أبي بكر : اضربوا الرأس فإن فيه شيطانا . قلنا : تأويله أنه قال ذلك فيمن أبيح قتله . ويقال : إنه ورد في حربي كان من دعاة الكفرة والإهلاك فيه مستحق ( ويضرب في الحدود كلها قائما غير ممدود ) لقول علي رضي الله عنه : يضرب الرجال في الحدود قياما والنساء قعودا ، ولأن مبنى إقامة الحد على التشهير ، والقيام أبلغ فيه . ثم قوله : غير ممدود ، فقد قيل المد أن يلقى على الأرض [ ص: 233 ] ويمد كما يفعل في زماننا ، وقيل أن يمد السوط فيرفعه الضارب فوق رأسه ، وقيل أن يمده بعد الضرب ، وذلك كله لا يفعل لأنه زيادة على المستحق

التالي السابق


( قوله إن لم يكن محصنا وكان حرا فحده مائة جلدة لقوله تعالى { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } ) وإنما قدم الزانية مع أن العادة عكسه ; لأنها هي الأصل إذ الداعية فيها أكثر ولولا تمكينها لم يزن ، وهذا

[ ص: 230 ] عام في المحصن وغيره نسخ في حق المحصن قطعا ، ويكفينا في تعين الناسخ القاطع برجم النبي صلى الله عليه وسلم فيكون من نسخ الكتاب بالسنة . القطعية وهو أولى من ادعاء كون الناسخ : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم . لعدم القطع بثبوت كونها قرآنا ثم انتساخ تلاوتها وإن ذكرها عمر وسكت الناس ، فإن كون الإجماع السكوتي حجة مختلف فيه ، وبتقدير حجيته لا يقطع بأن جميع المجتهدين من الصحابة كانوا إذ ذاك حضورا ; ثم لا شك أن الطريق في ذلك إلى عمر ظني ، ولهذا والله أعلم قال علي رضي الله عنه فيما ذكرناه عنه : إن الرجم سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينسبه إلى القرآن المنسوخ التلاوة ، وعرف من قوله ذلك أنه قائل بعدم نسخ عموم الآية فيكون رأيه أن الرجم حكم زائد في حق المحصن ثبت بالسنة وهو قول قيل به ، ويستدل له بقوله عليه الصلاة والسلام { الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة } وفي رواية أبي داود { ورمي بالحجارة } وسيأتي الكلام عليه ( قوله بسوط لا ثمرة له ضربا متوسطا ) قيل المراد بثمرة السوط عذبته وذنبه مستعار من واحدة ثمر الشجر .

وفي الصحاح وغيره عقد أطرافه . ورجح المطرزي إرادة الأول هنا لما ذكر الطحاوي أن عليا جلد الوليد بسوط له طرفان أربعين جلدة فكانت الضربة ضربتين . وفي الإيضاح ما يوافقه قال : ينبغي أن لا يضرب بسوط له ثمرة ; لأن الثمرة إذا ضرب بها تصير كل ضربة ضربتين . وفي الدراية : لكن المشهور في الكتب لا ثمرة له : أي لا عقدة عليه .

وقول المصنف في الاستدلال عليه ; لأن عليا لما أراد أن يقيم الحد كسر ثمرته لا يحتمل الوجه الأول أصلا ، بل أحد الأمرين إما العقدة وإما تليين طرفه بالدق إذا كان يابسا وهو الظاهر . وروى ابن أبي شيبة : حدثنا عيسى بن يونس عن حنظلة السدوسي عن أنس بن مالك قال : كان يؤمر بالسوط فتقطع ثمرته ثم يدق بين حجرين حتى يلين ثم يضرب به . قلنا له : في زمن من كان هذا ؟ قال : في زمن عمر بن الخطاب . والحاصل أن المراد أن لا يضرب به وفي طرفه يبس ; لأنه حينئذ يجرح أو يبرح فكيف إذا كان فيه عقدة ، ويفيد ذلك ما روى عبد الرزاق عن يحيى بن أبي كثير { أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي ، فدعا عليه الصلاة والسلام بسوط فأتي بسوط شديد له ثمرة ، فقال : سوط دون هذا ، فأتي بسوط مكسور لين [ ص: 231 ] فقال : سوط فوق هذا ، فأتي بسوط بين سوطين فقال : هذا فأمر به فجلد }

ورواه ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم { أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسوط } فذكره ، وذكره مالك في الموطأ . والحاصل أن يجتنب كل من الثمرة بمعنى العقدة ومعنى الفرع الذي يصير ذنبين تعميما للمشترك في النفي ; لأنه عين العدد مائة ، ولو تجوز بالثمرة فيما يشاكل العقدة ليعم المجاز ما هو يابس الطرف على ما ذكرنا كان أولى ، فإنه لا يضرب بمثله حتى يدق رأسه فيصير متوسطا

( قوله بين الموجع وغير المؤلم ) فيكون مؤلما غير موجع ، فلزم أنه أراد بالموجع المبرح وإلا لم يستقم ، ووجه هذا ظاهر . ولو كان الرجل الذي وجب عليه الحد ضعيف الخلقة فخيف عليه الهلاك يجلد جلدا خفيفا يحتمله ( قوله وتنزع عنه ثيابه ) إلا الإزار ليستر عورته وبه قال مالك .

وقال الشافعي وأحمد : يترك عليه قميص أو قميصان ; لأن الأمر بالجلد لا يقتضي التجريد . وقول المصنف ; لأن عليا كان يأمر بالتجريد في الحدود زاد عليه شارح الكنز فقال : صح أن عليا كان يأمر بالتجريد في الحدود فأبعد عما قال المخرج إنه لم يعرف عن علي بل روي عنه خلافه . وروى عبد الرزاق بسنده عنه " أنه أتى برجل في حد فضربه وعليه كساء قسطلاني قاعدا " . وأسند إلى المغيرة بن شعبة في المحدود : أينزع عنه ثيابه ؟ قال : لا ، إلا أن يكون فروا أو محشوا . وأسند عن ابن مسعود : لا يحل في هذه الأمة تجريد ولا مد .

قوله ( ويفرق الضرب على أعضائه ) ; لأن جمعه في عضو واحد قد يفسده ، واستثنى الرأس والوجه والفرج . وذكر { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للذي أمره بضرب الحد اتق الوجه والمذاكير } ولم يحفظه المخرجون مرفوعا بل موقوفا على علي رضي الله عنه " أنه أتي برجل سكران أو في حد فقال اضرب وأعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير " رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما وسعيد بن منصور . وقال ابن المنذر : وثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال وقد أتي برجل : اضرب وأعط كل عضو حقه . قال : روينا هذا القول عن علي وابن مسعود والنخعي رضي الله عنهم .

ولا شك أن معنى ما ذكره المصنف في الصحيحين من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال { إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه والمذاكير } ولا شك أن هذا ليس مرادا على الإطلاق ; لأنا نقطع أن في حال قيام الحرب مع الكفار لو توجه لأحد ضرب وجه من يبارزه وهو في مقابلته حالة الحملة لا يكف عنه ، إذ قد يمتنع عليه بعد ذلك ويقتله ، فليس المراد إلا من يضرب صبرا في حد قتلا أو غير قتل . وفي القتل صريح ما تقدم من رواية أبي داود من حديث أبي هريرة { أنه عليه الصلاة والسلام رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة ثم قال : ارموا واتقوا الوجه } وحينئذ فلا شك أن قول عمر وعلي رضي الله عنهما : أعط كل عضو حقه كما ذكره ابن المنذر هكذا مختصرا عليه عام مخصوص ; لأنهما لا يريدان قطعا ضرب الوجه والمذاكير ، ولما كان ذلك معلوما لم يحتج إلى ذكر المخصوص ، على أنه [ ص: 232 ] ذكر في رواية غيره عن علي رضي الله عنه كما حكيناه آنفا .

وبما سمعته تعلم أن ما أورده المصنف دليل على بعض المطلوب ، والبعض الآخر وهو ضرب الرأس ملحق بالمعنى الذي ذكره وهو أنه مجمع الحواس الباطنة فربما تفسد وهو إهلاك معنى . وهذا من المصنف ظاهر في القول بأن العقل في الرأس إلا أن يئول ، وهي مختلفة بين الأصوليين . وما قيل في المنظومة والكافي إن الشافعي رحمه الله يخص الظهور واستدلال الشارحين عليه { بقوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية البينة وإلا فحد في ظهرك } غير ثابت في كتبهم ، بل الذي فيها كقولنا .

وإنما تلك رواية عن مالك أنه خص الظهر وما يليه . وأجيب بأن المراد بالظهر نفسه : أي حد عليك بدليل ما ثبت عن كبار الصحابة عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم ، وما استنبطناه من قوله صلى الله عليه وسلم { إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه } وأنه في نحو الحد فما سواه داخل في الضرب ، ثم خص منه الفرج بدليل الإجماع .

وعن محمد رحمه الله في التعزير : يضرب الظهر وفي الحدود الأعضاء والمذاكير جمع ذكر بمعنى العضو فرقوا في جمعه بين الذكر بمعنى الرجل حيث قالوا ذكران وذكورة وذكارة وبمعنى العضو . ثم جمعه باعتبار تسمية ما حوله من كل جزء ذكرا كما قالوا : شابت مفارقه وإنما له مفرق واحد ( قوله وقال أبو يوسف : يضرب الرأس ضربة واحدة رجع إليه ) بعد أن كان أولا يقول : لا يضرب كما هو المذهب لحديث أبي بكر الذي ذكره . ورواه ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع عن المسعودي عن القاسم أن أبا بكر رضي الله عنه أتي برجل انتفى من أبيه فقال : اضرب الرأس فإن فيه شيطانا . والمسعودي مضعف . ولكن روى الدارمي في مسنده عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وأعد له عراجين النخل فقال له : من أنت فقال : أنا عبد الله صبيغ ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه على رأسه وقال : أنا عبد الله عمر ، وجعل يضربه حتى دمي رأسه ، فقال : يا أمير المؤمنين حسبك فقد ذهب الذي كنت أجد في رأسي . وهذا ينافي جواب المصنف بأن ذلك كان في مستحق القتل .

ولو قلنا : إن واقعة أبي بكر رضي الله عنه كانت فيه فإن ضرب عمر الرأس كان لرجل مسلم ، وكذا ضرب أبي بكر للذي انتفى من أبيه . هذا واستثنى بعض المشايخ وهو رواية عن أبي يوسف أيضا الصدر والبطن ، وفيه نظر ، بل الصدر من المحامل ، والضرب بالسوط المتوسط عددا يسيرا لا يقتل في البطن فكيف بالصدر . نعم إذا فعل بالعصا كما يفعل في زماننا في بيوت الظلمة ينبغي أن لا يضرب البطن ( قوله : ويضرب في الحدود كلها ) وكذا التعزير ( قائما غير ممدود لقول علي رضي الله عنه إلخ ) روى عبد الرزاق في مصنفه قال : أخبرنا الحسن بن عمارة عن الحكم عن يحيى بن الجزار عن علي رضي الله عنه قال : يضرب الرجل قائما والمرأة قاعدة في الحدود ( ولأن مبنى الحد على التشهير ) زجرا للعامة عن مثله ( والقيام أبلغ فيه ) والمرأة مبنى أمرها على الستر فيكتفى بتشهير الحد فقط بلا زيادة ( وقوله غير ممدود قيل المد أن يلقى على الأرض [ ص: 233 ] كما يفعل في زماننا ، وقيل أن يمد السوط بأن يرفعه الضارب فوق رأسه ، وقيل أن يمده بعد وقوعه على جسد المضروب على الجسد ) وفيه زيادة ألم وقد يفضي إلى الجرح ( وكل ذلك لا يفعل ) فلفظ ممدود معمم في جميع معانيه ; لأنه في النفي فجاز تعميمه ، وإن امتنع الرجل ولم يقف ويصبر لا بأس بربطه على أسطوانة أو يمسك




الخدمات العلمية