الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن زنى بجارية فقتلها فإنه يحد وعليه القيمة ) معناه : قتلها بفعل الزنا لأنه جنى جنايتين فيوفر على [ ص: 275 ] كل واحد منهما حكمه . وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يحد لأن تقرر ضمان القيمة سبب لملك الأمة فصار كما إذا اشتراها بعد ما زنى بها [ ص: 276 ] وهو على هذا الاختلاف ، واعتراض سبب الملك قبل إقامة الحد يوجب سقوطه ، كما إذا ملك المسروق قبل القطع . ولهما أنه ضمان قتل فلا يوجب الملك لأنه ضمان دم ، ولو كان يوجبه فإنما يوجبه في العين كما في هبة المسروق لا في منافع البضع لأنها استوفيت والملك يثبت مستندا فلا يظهر في المستوفى لكونها معدومة ، وهذا بخلاف ما إذا زنى بها فأذهب عينها حيث تجب عليه قيمتها ، ويسقط الحد لأن الملك هنالك يثبت في الجثة العمياء وهي عين فأورث شبهة .

التالي السابق


( قوله ومن زنى بجارية فقتلها ) أي بفعل الزنا ( فإنه يحد وعليه قيمتها ) ، وإنما قيد بالجارية لتكون [ ص: 275 ] صورة الخلاف ، فإنه لو زنى بحرة فقتلها يحد اتفاقا ويجب عليه الدية . وقوله ( وعن أبي يوسف أنه لا يحد ) ذكره بلفظ عن ليفيد أنه ليس ظاهر المذهب عنه ، فإن محمدا لم يذكر فيها خلافه في الجامع الصغير ، وعادته إذا كان خلافه ثابتا ذكره ، وكذا الحاكم الشهيد لم يذكر في الكافي خلافا ، وإنما نقل الفقيه أبو الليث خلافه فقال ذكر أبو يوسف في الأمالي أن هذا قول أبي حنيفة خاصة ، وفي قول أبي يوسف لا حد عليه ، وحيث نقل قوله خاصة ذكره في المنظومة في باب قول أبي يوسف على خلاف قول أبي حنيفة ، ولا قول لمحمد فيها .

وقيل الأشبه كون قول محمد مثل قول أبي حنيفة ، وبه قال الشافعي وأحمد ; لأنه لو قال لا قول له بأن توقف لذكره ، وإنما قال أبو يوسف هذا قول أبي حنيفة خاصة لأن محمدا كان في عداد تلامذته فلم يعتبر ما قاله قولا ينقله هو ، وعلى كون الخلاف هكذا مشى المصنف حيث قال : ولهما أنه ضمان قتل .

وجه قول أبي يوسف أنه لا يحد لأن تقرر ضمان القيمة على الزاني بسبب أن قتله سبب لملك الأمة ، وإذا ملكها قبل إقامة الحد سقط الحد ، كما لو ملك السارق المسروق قبل القطع حيث يسقط ، بخلاف الحرة لأنها لا تملك بالضمان ، وعلى هذا قال فيما لو زنى بها ثم قتلها أو ملكها بالفداء بأن زنى بجارية جنت عليه فدفعت إليه بالجناية أو بالشراء أو النكاح أنه لا يحد في ذلك كله . وعند أبي حنيفة يحد في الكل . وقال أبو يوسف : بالدفع يثبت الملك مستندا ، وكذا إذا ملكها بالشراء أو النكاح لأن اعتراض سبب الملك قبل إقامة الحد يسقط الحد على ما ذكرنا .

ولأبي حنيفة أنه زنى وجنى فيؤاخذ بموجب كل من الفعلين ، ولا منافاة فيجمع بين الحد والضمان ، وكون الضمان يمنع الحد لاستلزامه الملك ممنوع لأن هذا ضمان دم حتى وجب في ثلاث سنين على العاقلة ولا تجب بالغة ما بلغت ، وهو يوجب ملكا لأن محل الملك المال ، والدم ليس بمال ، ثم تنزل فقال ما حاصله : إنه لو فرض أن الضمان يوجب الملك لكان يوجبه في العين القائمة لأنه يثبت بطريق الاستناد ، والاستناد إنما يظهر في القائم دون الفائت ، ومنافع البضع التي استوفيت فائتة وليس محلها وهو العين قائما ليثبت شبهة قيام المنافع فتثبت شبهة ملكها فلم يظهر الملك فيها لا شبهته فلم يكن كالمسروق ، ولم يفد [ ص: 276 ] الملك المسبب عن الضمان ملك تلك المنافع ليسقط الحد ، بخلاف السرقة فإن شرط إقامة حد السرقة الخصومة وبالهبة انقطعت ، بخلاف حد الزنا فبطل القياس ، ومآل هذا التقرير إلى أن الثابت بهذا الضمان شبهة شبهة ملك تلك المنافع ; لأن الثابت شبهة ملك العين لا حقيقته ، وبحقيقته تثبت شبهة ملك المنافع ، فإذا كان الثابت شبهة ملك العين فهو شبهة شبهة ملك المنافع وشبهة الشبهة غير معتبرة .

وحاصل التقرير أن أبا يوسف أثبت شبهة ملك المنافع المستوفاة ونحن نفيناه ، وليس أحد يثبت بالضمان حقيقة ملك المنافع . وعلى الوجه الذي قررناه بقليل تأمل يظهر ما في تقرير المصنف للتنزل من التساهل . وبالوجه الذي قررناه يتضح حسن اتصال قوله ( بخلاف ما إذا زنى بها فأذهب عينها حيث يجب عليه قيمتها ويسقط به الحد ; لأن الملك ثمة يثبت في الجثة العمياء وهي عين فأورث شبهة ) أي في ملك المنافع تبعا فيندرئ عنها الحد ، أما هاهنا فالعين فائتة بالقتل فلا تملك بعد الموت ، ولا يقال : هذا التمليك بطريق الاستناد فلا يضره انتفاء المملوك . لأنا نقول : المستند يثبت أولا ثم يستند ، فاستدعى ثبوت المحل حال الأولية وهو منتف . وثمرته أن الثابت في المنافع شبهة الشبهة على ما ذكرنا . فإن قيل : ينبغي أن لا يجب الحد ولو تم [ ص: 277 ] ملك المقتول لأن بعض القيمة لا بد أن يصير بإزاء منافع البضع التي يجب الحد لأجلها فيجب أن لا يحد ، وإلا وجب ضمانان بإزاء مضمون واحد . أجيب بأنه لما لم يوضع الفعل للقتل كان أوله كجراحة اندملت ثم حدث القتل فكان الضمان كله بإزائه . وفي الفوائد الظهيرية : لو غصبها ثم زنى بها ثم ضمن قيمتها فلا حد عليه عندهم جميعا خلافا للشافعي . أما لو زنى بها ثم غصبها وضمن قيمتها لم يسقط الحد . وفي جامع قاضي خان : لو زنى بحرة ثم نكحها لا يسقط الحد بالاتفاق




الخدمات العلمية