الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 310 ] ( وحد الخمر والسكر في الحر ثمانون سوطا ) لإجماع الصحابة رضي الله عنهم [ ص: 311 ] ( يفرق على بدنه كما في حد الزنا على ما مر ) ثم يجرد في المشهود من الرواية . وعن محمد أنه لا يجرد إظهارا للتخفيف لأنه لم يرد به نص . ووجه المشهور أنا أظهرنا التخفيف مرة فلا يعتبر ثانيا ( وإن كان عبدا فحده أربعون سوطا ) لأن الرق متصف على ما عرف .

التالي السابق


( قوله وحد الخمر والسكر ) أي من غيرها ( ثمانون سوطا ) وهو قول مالك وأحمد . وفي رواية عن أحمد وهو قول الشافعي : أربعون إلا أن الإمام لو رأى أن يجلده ثمانين جاز على الأصح . واستدل المصنف على تعين الثمانين بإجماع الصحابة .

روى البخاري من حديث السائب بن يزيد قال : { كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر ، فجلد أربعين ، حتى إذا عتوا أو فسقوا جلد ثمانين } . وأخرج مسلم عن أنس بن مالك { أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال ثم جلد أبو بكر أربعين ، فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى قال : ما ترون في جلد الخمر ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : أرى أن نجعله ثمانين كأخف الحدود ، قال : فجلد عمر ثمانين } .

وفي الموطأ أن عمر استشار في الخمر يشربها الرجل . فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه : نرى أن تجلده ثمانين ، فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفتري ثمانون .

وعن مالك رواه الشافعي ولا مانع من كون كل من علي وعبد الرحمن بن عوف أشار بذلك فروى الحديث مرة مقتصرا على هذا ومرة على هذا .

وأخرج الحاكم في المستدرك عن ابن عباس { أن الشرب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصي حتى توفي ، فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي إلى أن قال : فقال عمر ماذا ترون ؟ فقال علي رضي الله عنه : إذا شرب } إلخ . وروى مسلم عن أنس قال { أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فضربه بجريدتين نحو الأربعين ، وفعله أبو بكر ، فلما كان عمر استشار فقال عبد الرحمن بن عوف : أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر } فيمكن بجريدتين متعاقبتين بأن انكسرت واحدة فأخذت أخرى وإلا فهي ثمانون ، ويكون مما رأى عليه الصلاة والسلام في ذلك الرجل . وقول الراوي بعد ذلك : فلما كان عمر استشار إلخ لا ينافي ذلك ، فإن حاصله أنه استشارهم فوقع اختيارهم على تقدير الثمانين التي انتهى إليها فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن قوله وفعله أبو بكر يبعده ، وإلا لزم أن أبا بكر جلد ثمانين ، وما تقدم مما يفيد أن عمر هو الذي جلد الثمانين ، بخلاف أبي بكر والله أعلم .

وقد أخرج البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه أنه قال : ما كنت أقيم على أحد حدا فيموت فيه فأجد منه في نفسي إلا صاحب الخمر ، فإنه إن مات وديته لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه ، والمراد لم يسن فيه عددا معينا ، وإلا فمعلوم قطعا أنه أمر بضربه .

فهذه الأحاديث تفيد أنه لم يكن مقدرا في زمنه عليه الصلاة والسلام بعدد معين ، ثم قدره أبو بكر وعمر بأربعين ، ثم اتفقوا على ثمانين ، وإنما جاز لهم أن يجمعوا على تعينه ، والحكم المعلوم منه عليه الصلاة والسلام عدم تعينه لعلمهم بأنه عليه الصلاة والسلام انتهى إلى هذه الغاية في ذلك الرجل لزيادة فساد فيه ، ثم رأوا أهل الزمان تغيروا إلى نحوه أو أكثر على ما تقدم من قول السائب : حتى إذا عتوا وفسقوا وعلموا أن الزمان كلما تأخر كان فساد أهله أكثر [ ص: 311 ] فكان ما أجمعوا عليه هو ما كان حكمه عليه الصلاة والسلام في أمثالهم . وأما ما روي من جلد علي أربعين بعد عمر فلم يصح . وذلك ما في السنن من حديث معاوية بن حصين بن المنذر الرقاشي قال : { شهدت عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد أتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر فشهد أنه رآه يشربها وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها ، فقال عثمان : إنه لم يتقيأها حتى شربها ، فقال لعلي : أقم عليه الحد ، فقال علي للحسن : أقم عليه الحد ، فقال : ول حارها من تولى قارها ، فقال : علي لعبد الله بن جعفر : أقم عليه الحد ، فأخذ السوط وجلده وعلي يعد إلى أن بلغ أربعين ، قال : حسبك ، جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين ، وكل سنة ، وهذا أحب إلي } .

( قوله يفرق الضرب على بدنه كما في حد الزنا ) ونقل من قول ابن مسعود رضي الله عنه للضارب أعط كل ذي عضو حقه : يعني ما خلا الوجه والرأس والفرج ، وعند أبي يوسف يضرب الرأس أيضا وتقدم ( قوله ثم يجرد في المشهور من الرواية : وعن محمد أنه لا يجرد إظهارا للتخفيف لأنه لم يرد به نص . وجه المشهور أنا أظهرنا ) أي الشرع أظهر ( التخفيف مرة ) بنقصان العدد ( فلا يعتبر ثانيا ) بعدم التجريد وإلا قارب المقصود من الانزجار الفوات ، وتقدم له مثله في الطهارة حيث قال في جواب تخفيفهما الروث والخثى للضرورة . قلنا الضرورة قد أثرت في النعال مرة فتكفي مؤنتها : أي فلا تخفف مرة أخرى ، وله ضده في الصلاة حيث قال في تخفيف القراءة للمسافر ، ولأن السفر قد أثر في إسقاط شطر الصلاة فلأن يؤثر في تخفيف القراءة أولى . وتقدم هناك الجمع بينه وبين ما في الطهارة أن لا ملازمة بين نفي التخفيف ثانيا ووجوده أولا من حيث هو وجوده ، والمعول عليه في كل موضع الدليل وعدمه .

( قوله وإن كان عبدا فحده أربعون على ما عرف ) من أن الرق مؤثر في تنصيف النعمة والعقوبة ، فإذا قلنا إن حد الحر ثمانون قلنا إن حد العبد أربعون ، ومن قال حد الحر أربعون قال حد العبد عشرون




الخدمات العلمية