الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 342 - 344 ] فصل في التعزير

التالي السابق


( فصل في التعزير )

لما قدم الحدود المقدرة بالنصوص القاطعة وهي أوكد أتبعها التعزير الذي هو دونها في المقدار والدليل [ ص: 345 ] والتعزير تأديب دون الحد ، وأصله من العزر بمعنى الرد والردع . وهو مشروع بالكتاب ، قال الله تعالى { فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا } أمر بضرب الزوجات تأديبا وتهذيبا . وفي الكافي قال عليه الصلاة والسلام { لا ترفع عصاك عن أهلك } وروي { أنه عليه الصلاة والسلام عزر رجلا قال لغيره يا مخنث } . وفي المحيط : روي عنه عليه الصلاة والسلام قال { رحم الله امرأ علق سوطه حيث يراه أهله } وأقوى من هذه الأحاديث قوله عليه الصلاة والسلام { لا يجلد فوق عشر إلا في حد } وسيأتي .

وقوله { واضربوهم على تركها لعشر } في الصبيان ، فهذا دليل شرعية التعزير وأجمع عليه الصحابة . وبالمعنى وهو أن الزجر عن الأفعال السيئة كي لا تصير ملكات فيفحش ويستدرج إلى ما هو أقبح وأفحش فهو واجب . وذكر التمرتاشي عن السرخسي أنه ليس فيه شيء مقدر بل مفوض إلى رأي القاضي ، لأن المقصود منه الزجر ، وأحوال الناس مختلفة فيه . فمنهم من ينزجر بالصيحة ومنهم يحتاج إلى اللطمة وإلى الضرب ، ومنهم من يحتاج إلى الحبس .

وفي الشافي : التعزير على مراتب : تعزير أشراف الأشراف وهم العلماء والعلوية بالإعلام وهو أن يقول له القاضي بلغني أنك تفعل كذا وكذا فينزجر به ، وتعزير الأشراف وهم الأمراء والدهاقين بالإعلام والجر إلى باب القاضي والخصومة في ذلك ، وتعزير الأوساط وهم السوقة بالجر والحبس ، وتعزير الأخسة بهذا كله وبالضرب . وعن أبي يوسف : يجوز التعزير للسلطان بأخذ المال ، وعندهما وباقي الأئمة الثلاثة لا يجوز . وما في الخلاصة سمعت من ثقة أن التعزير بأخذ المال إن رأى القاضي ذلك ، أو الوالي جاز ، ومن جملة ذلك رجل لا يحضر الجماعة يجوز تعزيره بأخذ المال مبني على اختيار من قال بذلك من المشايخ كقول أبي يوسف . وقال التمرتاشي : يجوز التعزير الذي يجب حقا لله تعالى لكل [ ص: 346 ] أحد بعلة النيابة عن الله .

وسئل أبو جعفر الهندواني عمن وجد رجلا مع امرأة أيحل له قتله ؟ قال : إن كان يعلم أنه ينزجر عن الزنا بالصياح والضرب بما دون السلاح لا يقتله . وإن علم أنه لا ينزجر إلا بالقتل حل له قتله ، وإن طاوعته المرأة يحل قتلها أيضا . وهذا تنصيص على أن الضرب تعزير يملكه الإنسان وإن لم يكن محتسبا ، وصرح في المنتقى بذلك ، وهذا لأنه من باب إزالة المنكر باليد . والشارع ولى كل أحد ذلك حيث قال { من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه } الحديث . بخلاف الحدود فإنها لم تثبت توليتها إلا للولاة ، وبخلاف التعزير الذي يجب حقا للعبد بالقذف ونحوه فإنه لتوقفه على الدعوى لا يقيمه إلا الحاكم إلا أن يحكما فيه ، ثم التعزير فيما شرع فيه التعزير إذا رآه الإمام واجبا وهو قول مالك وأحمد . وعند الشافعي ليس بواجب لما روي أن { رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال إني لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطأها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصليت معنا ؟ قال نعم ، فتلا عليه { إن الحسنات يذهبن السيئات } } وقال في الأنصاري : { اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم } { وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم في الحكم الذي حكم به للزبير في سقي أرضه فلم يوافق غرضه إن كان ابن عمتك ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعزره } .

ولنا أن ما كان منصوصا عليه من التعزير كما في وطء جارية امرأته أو جارية مشتركة يجب امتثال الأمر فيه وما لم يكن منصوصا عليه إذا رأى الإمام بعد مجانبة هوى نفسه المصلحة أو علم أنه لا يزجر إلا به وجب لأنه زاجر مشروع لحق الله تعالى فوجب كالحد ، وما علم أنه ينزجر بدونه لا يجب وهو محمل حديث الذي ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ما أصاب من المرأة فإنه لم يذكر للنبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو نادم منزجر ، لأن ذكره له ليس إلا للاستعلام بموجبه ليفعل معه . وأما حديث الزبير فالتعزير لحق آدمي هو النبي صلى الله عليه وسلم ويجوز تركه . وفي فتاوى قاضي خان : التعزير حق العبد كسائر حقوقه يجوز فيه الإبراء والعفو والشهادة على الشهادة ويجري فيه اليمين : يعني إذا أنكر أنه سببه يحلف ويقضي بالنكول ، ولا يخفى على أحد أنه ينقسم إلى ما هو حق العبد وحق الله ، فحق العبد لا شك في أنه يجري فيه ما ذكر .

وأما ما وجب منه حقا لله تعالى فقد ذكرنا آنفا أنه يجب على الإمام ، ولا يحل له تركه إلا فيما علم أنه انزجر الفاعل قبل ذلك ثم يجب أن يتفرع عليه أنه يجوز إثباته بمدع شهد به فيكون مدعيا شاهدا إذا كان معه آخر . فإن قلت : في فتاوى قاضي خان وغيره : إن كان المدعى عليه ذا مروءة وكان أول ما فعل يوعظ استحسانا فلا يعزر . فإن عاد وتكرر منه روي عن أبي حنيفة أنه يضرب وهذا يجب أن يكون في حقوق الله تعالى ، فإن حقوق العباد لا يتمكن القاضي فيها من إسقاط التعزير . قلت : يمكن أن يكون محله ما قلت من حقوق الله تعالى ولا مناقضة ، لأنه إذا كان ذا مروءة فقد حصل تعزيره بالجر إلى باب القاضي والدعوى فلا يكون مسقطا لحق الله سبحانه وتعالى في التعزير .

وقوله ولا يعزر : يعني بالضرب في أول مرة ، فإن عاد عزره حينئذ بالضرب ، ويمكن كون محمله حق آدمي من الشتم وهو ممكن يكون تعزيره بما ذكرنا . وقد روي عن محمد في الرجل يشتم الناس : إذا كان له مروءة وعظ ، وإن كان دون ذلك حبس . وإن كان سبابا ضرب وحبس : يعني الذي دون ذلك ، والمروءة عندي في الدين والصلاح .




الخدمات العلمية