الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 378 ] ( ومن سرق عينا فقطع فيها فردها ثم عاد فسرقها وهي بحالها لم يقطع ) والقياس أن يقطع وهو رواية عن أبي يوسف وهو قول الشافعي ، لقوله عليه الصلاة والسلام { فإن عاد فاقطعوه } من غير فصل ، ولأن الثانية متكاملة كالأولى بل أقبح لتقدم الزاجر ، وصار كما إذا باعه المالك من السارق ثم اشتراه منه ثم كانت السرقة . ولنا أن القطع أوجب سقوط عصمة المحل على ما يعرف من بعد إن شاء الله تعالى ، وبالرد إلى المالك إن عادت حقيقة العصمة بقيت شبهة السقوط نظرا إلى اتحاد الملك والمحل ، وقيام الموجب وهو القطع فيه ، بخلاف ما ذكر لأن الملك قد اختلف باختلاف سببه ، ولأن تكرار الجناية منه نادر لتحمله مشقة الزاجر فتعرى الإقامة عن المقصود وهو تقليل الجناية ، [ ص: 379 ] وصار كما إذا قذف المحدود في قذف المقذوف الأول . قال ( فإن تغيرت عن حالها مثل أن يكون غزلا فسرقه وقطع فرده ثم نسج فعاد فسرقه قطع ) لأن العين قد تبدلت ولهذا يملكه الغاصب به ، وهذا هو علامة التبدل في كل محل ، [ ص: 380 ] وإذا تبدلت انتفت الشبهة الناشئة من اتحاد المحل ، والقطع فيه فوجب القطع ثانيا ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


( قوله ومن سرق عينا فقطع فيها فردها ) بأن كانت قائمة ( ثم عاد فسرقها وهي بحالها يقطع ، والقياس أن يقطع وهو رواية عن أبي يوسف وهو قول الشافعي ) ومالك وأحمد ( لقوله صلى الله عليه وسلم فإن عاد فاقطعوه ) فيما روى الدارقطني من حديث أبي هريرة بطريق فيه الواقدي عنه عليه الصلاة والسلام { إذا سرق السارق فاقطعوا يده ، ثم إن عاد فاقطعوا رجله اليسرى } الحديث ( ولأن السرقة الثانية مثل الأولى ) في سببية القطع ( بل أفحش ) لأن العود بعد الزجر أقبح . وصار كما إذا باعه المالك من السارق ، ويخص أبا يوسف أن المسروق عاد تقومه بالرد إلى المالك ولهذا يضمن السارق لو أتلفه بعد الرد فتمت سببية القطع كما لو سرق غيره أو سرقه هو من غيره ( وصار كما لو باعه المالك من السارق ثم اشتراه منه ثم كانت السرقة ) فإنه يقطع اتفاقا .

( ولنا أن القطع أوجب سقوط عصمة المحل ) في حق السارق ( وبالرد إلى المالك إن عادت حقيقة العصمة بقيت شبهة أنها ساقطة نظرا إلى اتحاد الملك والمحل وقيام الموجب ) للسقوط ( وهو القطع ) فإن كل واحد من هذه يوجب [ ص: 379 ] بقاء السقوط الذي تحقق بالقطع فحيث عادت العصمة وانتفى السقوط بعد تحققه كان مع شبهة عدمه فيسقط بها الحد ، بخلاف ما لو سرقه غيره لأن السقوط ليس إلا بالنسبة إلى المقطوع يده لا سواه فيقطع ، وبخلاف صورة البيع المذكورة من السارق وسرقة السارق إياه من غيره لأن فيهما تبدل الملك ، وتبدل الملك يوجب تبدل العين حكما كما عرف من حديث بريرة من قوله عليه الصلاة والسلام { هو عليها صدقة ولنا منها هدية } مع أنه عين اللحم ، مع أن مشايخ العراق على أنه لا يقطع في صورة تبدل الملك بالشراء فلنا أن نمنعه فلا يتم القياس عليه ، وعند مشايخ بخارى يقطع لتبدل العين حكما وجوابه ما قلنا .

وأيضا فتكرار الجناية بعد قطع يده نادر ، وتقدم أن ما يندر وجوده لا يشرع فيه عقوبة دنيوية زاجرة فإنها حينئذ تعرى عن المقصود وهو تقليل الجناية ، إذ هي قليلة بالفرض فلم تقع في محل الحاجة ، وصار كما لو قذف شخصا فحد به ثم قذفه بعين ذلك الزنا بأن قال أنا باق على نسبتي إليه الزنا الذي نسبته إليه لا يحد ثانيا ، فكذا هذا ، أما لو قذفه بزنا آخر حد به . وأورد على هذا الوجه النقض بالزنا ثانيا بالمرأة التي زنى بها أولا بعد أن جلد حدا بزناه الأول بها فإنه يحد ثانيا إجماعا ، فلم يكن تقدم الزاجر موجبا لعدم شرعيته . ثانيا وقوعه في غير محل الحاجة إليه لو شرع . وأجيب بالفرق بأن حرمة المحل في الزنا لا تسقط باستيفاء الحد ، بخلاف السرقة ، وهذا فرق صحيح يتم به وجه اختلاف الحكم المذكور في الزنا والسرقة لكنه لا يصلح جوابا للنقض الوارد على هذا الوجه بخصوصه : أعني كون إقامة الحد أولا توجب ندرة العود فتوجب عدم شرع الزاجر في العود ، وكذا الفرق بأن القطع حق لا يستوفى إلا بخصومة المالك والخصومة لا تتكرر في محل بعد استيفاء موجب ما هي فيه كحد القذف غير دافع الوارد على خصوص هذا الوجه المدعى استقلاله .

( قوله فإن تغيرت عن حالها مثل أن يكون ) المسروق الذي قطع به ( غزلا ثم نسج ) بعد رده ( فسرقه ) ثانيا ( قطع ) وكذا لو كان قطنا فصار غزلا ( لأن العين قد تبدلت ولهذا يملكه الغاصب ) ويجب عليه ضمان قيمته مع قيامه بصورة الثوب . [ ص: 380 ] وإذا تبدلت العين انتفت الشبهة الناشئة من اتحاد المحل والقطع ) وهو بالجر عطف على لفظ اتحاد لا على لفظ المحل : أي وانتفت الشبهة الناشئة من القطع لا من اتحاد القطع وهي شبهة قيام سقوط العصمة لأنها كانت باعتبار اتحاد العين والتغير يوجبها شيئا آخر . فإن قيل : العين قائمة حقيقة وإنما تبدل الاسم والصورة . أجيب بأن المتمكن قبل تبدل الصورة شبهة سقوط العصمة فكان المتمكن بعده شبهة الشبهة فلا تعتبر . وفي شرح الطحاوي : وإذا سرق ذهبا أو فضة وقطع به ورده فجعله المسروق منه آنية أو كانت آنية فضربها دراهم ثم عاد السارق فسرقه لا يقطع عند أبي حنيفة لأن العين لم تتغير عنده ، وقالا : يقطع لأنها تغيرت . وفي كفاية البيهقي : سرق ثوبا فخاطه ثم رده فنقض فسرق المنقوض لا يقطع ، لأنه لا يقطع حق المالك لو فعله الغاصب فلم يصر في حكم عين أخرى . .




الخدمات العلمية