الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا أقر العبد المحجور عليه بسرقة عشرة دراهم بعينها فإنه يقطع وترد السرقة إلى المسروق منه ) وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله . وقال أبو يوسف يقطع والعشرة للمولى . وقال محمد : لا يقطع والعشرة للمولى وهو قول زفر . ومعناه إذا كذبه المولى ( ولو أقر بسرقة مال مستهلك قطعت يده [ ص: 410 ] ولو كان العبد مأذونا له يقطع في الوجهين ) وقال زفر : لا يقطع في الوجوه كلها لأن الأصل عنده أن إقرار العبد على نفسه بالحدود والقصاص لا يصح لأنه يرد على نفسه وطرفه وكل ذلك مال المولى ، والإقرار على الغير غير مقبول إلا أن المأذون له يؤاخذ بالضمان والمال لصحة إقراره به لكونه مسلطا عليه من جهته .

والمحجور عليه لا يصح إقراره بالمال أيضا ، ونحن نقول يصح إقراره من حيث إنه آدمي [ ص: 411 ] ثم يتعدى إلى المالية فيصح من حيث إنه مال ، ولأنه لا تهمة في هذا الإقرار لما يشتمل عليه من الأضرار ، ومثله مقبول على الغير . لمحمد في المحجور عليه أن إقراره بالمال باطل ، ولهذا لا يصح منه الإقرار بالغصب فيبقى مال المولى ، ولا قطع على العبد في سرقة مال المولى . يؤيده أن المال أصل فيها والقطع تابع حتى تسمع الخصومة فيه بدون القطع ويثبت المال دونه ، وفي عكسه لا تسمع ولا يثبت ، وإذا بطل فيما هو الأصل بطل في التبع ، بخلاف المأذون لأن إقراره بالمال الذي في يده صحيح فيصح في حق القطع تبعا . ولأبي يوسف أنه أقر بشيئين : [ ص: 412 ] بالقطع وهو على نفسه فيصح على ما ذكرناه . وبالمال وهو على المولى فلا يصح في حقه فيه ، والقطع يستحق بدونه ; كما إذا قال الحر الثوب الذي في يد زيد سرقته من عمرو وزيد يقول هو ثوبي يقطع يد المقر وإن كان لا يصدق في تعيين الثوب حتى لا يؤخذ من زيد . ولأبي حنيفة أن الإقرار بالقطع قد صح منه لما بينا فيصح بالمال بناء عليه لأن الإقرار يلاقي حالة البقاء ، والمال في حالة البقاء تابع للقطع حتى تسقط عصمة المال باعتباره ويستوفى القطع بعد استهلاكه . بخلاف مسألة الحر لأن القطع إنما يجب بالسرقة من المودع .

أما لا يجب بسرقة العبد مال المولى فافترقا [ ص: 413 ] ولو صدقه المولى يقطع في الفصول كلها لزوال المانع

التالي السابق


( قوله وإذا أقر العبد المحجور عليه بسرقة عشرة دراهم بعينها ) حاصل وجوه هذه المسألة أربعة ، لأن العبد المقر بالسرقة إما مأذون له أو محجور عليه ، وفي كل منهما إما أن يقر بسرقة مستهلكة أو قائمة فالمأذون له إذا أقر بسرقة هالكة يقطع عند الثلاثة ولا ضمان مع القطع .

وقال زفر : لا يقطع ولكن يضمن المال ، وإن أقر بسرقة قائمة قطع عند [ ص: 410 ] الثلاثة ، وهذا قول المصنف ( ولو كان مأذونا قطع في الوجهين ) ويرد المال للمقر له سواء صدقه المولى أو كذبه . وقال زفر : لا يقطع ولكن يرد المال . وإن كان العبد محجورا ، فإن أقر بسرقة هالكة قطعت يده عند الثلاثة ، وقال زفر : لا يقطع . وإن أقر بسرقة قائمة فقال زفر لا يقطع ، فظهر أن قول زفر لا يقطع في شيء وهو ما ذكره المصنف بقوله ( وقال زفر لا يقطع في الوجوه كلها ) أي فيما إذا كان العبد محجورا والإقرار بهالكة أو قائمة ، أو مأذونا والإقرار بهالكة أو قائمة . واختلف علماؤنا الثلاثة في هذا . أعني إقرار المحجور بقائمة في يده فقال أبو حنيفة : يقطع وترد لمن أقر له بسرقتها منه .

وقال أبو يوسف : يقطع والسرقة لمولاه . وقال محمد : لا يقطع والسرقة لمولاه ويضمن مثله أو قيمته بعد العتاق المقر له . وقال الطحاوي : سمعت أستاذي ابن أبي عمران يقول : الأقوال الثلاثة كلها عن أبي حنيفة ، فقوله الأول أخذ به محمد ثم رجع وقال كما قال أبو يوسف . ثم رجع إلى القول الثالث واستقر عليه ، فهو نظير مسألة الحملان في الزكاة . ومعنى المسألة إذا كذبه المولى في إقراره وقال المال مالي ، أما إذا صدقه فلا إشكال في القطع ورد المال للمقر له به اتفاقا ، هذا كله إذا كان العبد كبيرا وقت الإقرار ، فإن كان صغيرا فلا قطع عليه أصلا وهو ظاهر . غير أنه إن كان مأذونا يرد المال إلى المسروق منه إن كان قائما ، وإن كان هالكا يضمن ، وإن كان محجورا فإن صدقه المولى يرد المال إلى المسروق منه إن كان قائما ولا ضمان عليه إن كان هالكا ولا بعد العتق .

وقدم المصنف الكلام مع زفر فقال ( إن الأصل عنده أن إقرار العبد على نفسه بالحدود والقصاص لا يصح لأن إقراره ) بها ( يرد ) أثره ( على نفسه أو طرفه ) بالإتلاف ( وكل ذلك مال المولى ) فالإقرار به إقرار على مال الغير ( والإقرار على الغير غير مقبول إلا أن المأذون له ) لما تضمن إقراره الإقرار بالمال والطرف وبطل في الطرف ( يؤاخذ ) بالمال ( بضمانه ) إن كان هالكا ويرده إن كان قائما ( لصحة إقراره بالمال لكونه مسلطا على الإقرار به من جهة المولى ) حيث أذن له في المعاملات ( ونحن نقول الإقرار بها منه صحيح لأن أثر الإقرار بها يرجع إليه من حيث هو آدمي ) لا من حيث هو مال ، وما كان كذلك كان داخلا تحت ملكه ; ألا [ ص: 411 ] يرى أن المولى لا يملكه عليه وما لا يملكه المولى عليه كان مبقى فيه على أصل الآدمية فيملكه هو كالطلاق ( ولأنه لا تهمة في هذا الإقرار ) ليبطل في حق السيد لأن ضرره الراجع إليه به فوق ضرر الراجع به إلى المولى لأنه يفوت عليه نفسه أو طرفه ، وما كان كذلك ينفذ على الغير ، كما إذا شهد العبد العدل برؤية هلال رمضان وبالسماء علة فإنه يقبل حتى يلزم جميع الناس صومه ، لأن ما لزمهم من ذلك فرع لزمه مثله فنفذ في حقهم تبعا لنفاذه عليه ، وكذا لو أقر المفلس بعمد القتل يقتل إجماعا وإن كان فيه إبطال ديون الناس . و ( لمحمد في المحجور عليه أن إقراره بالمال باطل ، ولذا لا يصح إقراره بالغصب فيبقى ما في يده مال المولى ) إذ الفرض تكذيب المولى له في إقراره فقد أقر بسرقة مال المولى وبسرقة مال المولى لا يقطع ، وبهذا القدر يتم الوجه .

وقوله بعده يؤيده إلخ زيادة توكيد : أي يؤكد ما ذكرنا من عدم القطع ( أن المال ) في لزوم القطع ( أصل والقطع تابع ) والتابع من حيث هو لا يتحقق دون متبوعه ، فحيث لم يجب المال للغير لا يجب القطع . وبيان أن المال أصل أن الخصومة تسمع في السرقة في حق المال حتى لو قال أريد المال فقط سمعت ولا يسقط القطع ( و ) لذا ( يثبت المال ) في دعوى السرقة بلا قطع فيما لو ادعاها وأقام رجلا وامرأتين شهدوا بها فإنه يقضي بالمال ( دون القطع ) وكذا إذا أقر بالسرقة ثم رجع يلزمه المال ولا قطع ( وفي عكسه لا تسمع ) حتى لو قال المسروق منه أريد القطع دون المال لا تسمع خصومته فإنما يصح في حق القطع تبعا للمال ، وقد انتفى المال بما قلنا فانتفى القطع ( ولأبي يوسف أنه أقر بشيئين ) أي أقر بما [ ص: 412 ] يوجب شيئين ( القطع وهو ) إقرار ( على نفسه ) فيقطع ( على ما ذكرنا ) مع زفر من وجه صحة إقراره بالحدود والقصاص ( والمال وهو ) إقرار ( على المولى ) وهو يكذبه ( فلا يصح في حق المولى والقطع يستحق بدون المال ) كما إذا أقر بسرقة مستهلكة فإنه يقطع ولا يلزمه المال ( وكما لو قال حر : هذا الثوب الذي في يد زيد سرقته من عمرو ، وزيد يقول هو ثوبي يقطع ) ولا ينزع الثوب من زيد إلى عمرو فيقطع والمال للمولى ( ولأبي حنيفة أن الإقرار في حق القطع قد صح منه لما بينا ) في الكلام مع زفر من أنه آدمي إلى آخره ، ويلزمه صحته بالمال أنه لغير المولى لاستحالة أن يجب القطع شرعا بمال مسروق للمولى .

والحاصل أنه إذا صح الإقرار بالحد ثبت حكمه وهو القطع ، وهو ملزوم بحكم الشرع بكون المال للمقر له إذ لا قطع بمال السيد وإلى هنا يتم الوجه . وقوله ( لأن الإقرار يلاقي حالة البقاء والمال في حالة البقاء تابع للقطع حتى تسقط عصمة المال باعتباره ويستوفي القطع بعد استهلاكه ) زيادة لا تظهر الحاجة إليها . وقوله ( بخلاف مسألة الحر ) يريد إلزام أبي يوسف بما إذا قال الحر الثوب الذي في يد زيد سرقته من عمرو ويقطع به ولا يدفع لعمرو ، فكذا جاز أن يقطع بما أقر به من مال الأجنبي ولا يدفع إليه فقال فرق بينهما فإن القطع في المسألة المذكورة محمول على صحة إقراره به لعمرو وأنه وديعة عند زيد أو غصب [ ص: 413 ] وادعاء زيد أن الثوب له جاز كونه إنكارا للوديعة غير أن المقر ليس خصما له في ذلك ، والقطع بسرقة ثوب مودع أو مغصوب ثابت ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنا لو اعتبرنا الثوب وديعة للمولى أو مغصوبا عند المقر له لم يخرج عن كونه سرقة مال المولى وبه لا يقطع .




الخدمات العلمية